سوريا الجديدة ومسارات التكيّف والتطويع


كتب: عريب الرنتاوي،
منذ الثامن من كانون
الأول/ديسمبر الفائت، والإدارة السورية الجديدة، تخضع لواحدة من أبشع حملات
الترويض والتطويع والابتزاز وأقساها، متعددة الأطراف والمسارات والأهداف...الإدارة
تناور ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بيد أنه لم يعد خافياً على أحد، أن هذه الحملة
بدأت تُعطي أُكلها، ومواقف بعض أركان هذه الإدارة، باتت تثير الشك والريبة.
أطراف هذه الحملة، عرب
وغربيون، من دون أن ننسى الدور الإسرائيلي المُتصدّر لقيادتها، وبأكثر الأدوات
وقاحة ووحشية: احتلال مزيدٍ من الأراضي، وشن مئات الغارات الجوية، وفرض مناطق
أمنية بحكم الأمر الواقع، وادعاء حماية "الأقليات"، فضلاً عن إبقاء سيف
التهديد مسلطاً على دمشق و"قصر الشعب".
تلتقي الأطراف المختلفة
عند أهداف ثلاثة تجمعها وتحركها: "كراهية الإسلام السياسي" على اختلاف
صنوفه وتلاوينه، ضمان إبقاء إيران وحزب الله خارج المشهد السوري، وحماية
"إسرائيل"... وثمة أهداف متفرعة، تحظى بالأولوية عند هذا الفريق أكثر من
ذاك... أوروبا على سبيل المثال، تهتم أكثر من غيرها، بإنهاء الوجود الروسي في
سوريا، وهذا بخلاف ما ترغب به دول عربية عدة، وتتوسط "إسرائيل" لضمان
ديمومته، ولا تمانع به واشنطن وإن كانت لا تقاتل من أجله.
"إسرائيل"، لا تريد لـ"قوس
عثماني-سنيّ" بزعامة تركيا، أن يحل محل "هلال شيعي" بزعامة إيران،
وهي في سباق مع الزمن، وفي الميدان، لتحجيم التمدد التركي في سوريا وعبرها إلى
الإقليم... دول عربية، لا ترغب في ذلك أيضاً، وإن كانت تعتمد مقاربة
"التعاون" مع تركيا بدل "الصدام" معها في سوريا وحولها...
الإدارة الأميركية، ميّالة إلى تلزيم سوريا لتركيا، مع مراعاة "مطالب الحد
الأدنى" لمواطنيها الكرد، و"الشروط العقلانية"
لـ"إسرائيل"، والتعبير وفقاً لدونالد ترامب.
في الحديث عن
"أدوات الحملة ووسائلها"، يمكن الجزم أن سلاحها الأمضى هو "سيف
العقوبات" و"قانون قيصر"، وهو "سيف مضّاء"، أثبت جدواه
زمن نظام الأسد، ويثبت قدرته على فرض التكيف والاستجابة على إدارة الشرع، لقد ثبت
لواشنطن، أن استخدام ورقة "المساعدات" و"التعافي المبكر"
وإعادة الإعمار"، قد يكون أشد قوة وتأثيراً من فعل الميدان، ثمة دروس من غزة
ولبنان، يجري الاستفادة منها في الحالة السورية...فما لم تنجح الذراع العسكرية
الإسرائيلية المدججة بأحدث ما أنتجته الترسانة العسكرية الأميركية في تحقيقه، يجري
العمل بنجاح ظاهر، على انتزاعه من المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بضغط
"المساعدات" و"التعافي" وإعادة الإعمار...هي أسلحة "الدمار
الشامل" الجديدة في الجعبة الأميركية المنتفخة بفائض مشاعر السيطرة والإملاء
والهيمنة.
على أن العقوبات ليست
السلاح الوحيد الذي تلجأ إليه الأطراف في الحالة السورية... التركيبة السورية
المعقدة، سياسياً وجغرافياً وعرقياً ودينياً، تلعب دور السيف الذي يمكن إخراجه من
غمده في أي وقت، من الأقلية الدرزية في الجنوب إلى الأقلية الكردية في
الشمال..."إسرائيل" أوّل من فكّر في استخدام هذا السلاح، لكنها ليست آخر
من يلوّح به...هنا، تبدو وحدة سوريا، وحدة الجغرافيا والشعب، دائماً على المحك،
وفي القلب من مشاريع الاستهداف، فإن تعثر التقسيم، كان "تقاسم النفوذ"
بديلاً، وإن استعصى التقاسم، فلا سبيل من تحريك خيار التقسيم...القيادة
السورية الجديدة، كما القديمة، ستظل تسير على هذا الحبل المشدود حتى إشعار آخر،
وأي خطأ في السياسة والحساب، سيصب القمح صافياً في طاحونة "المتربصين"،
وهذا ما يحدث بين حين وآخر على أي حال.
بعض من آيات التكيف
ثمة نجاحات ملموسة،
أنجزتها حملات الترويض والتطويع التي تحدثنا عن مراميها وأطرافها وأولوياتها...
والأرجح أننا سنرى المزيد منها – النجاحات- في قادمات الأيام، ومن آيات هذه
النجاحات، نختار بعضاً منها:
لا تكفّ الإدارة
الجديدة عن توجيه رسائل الطمأنينة والاطمئنان إلى الغرب و"إسرائيل"
(وبعض العرب كذلك)، بأنها لا تنوي تهديد جيرانها، بمن فيهم "إسرائيل"،
ودائماً يأتي التشديد على "إسرائيل" من قبل الناطقين باسم الحكومة
والإدارة، حتى في الوقت الذي تستبيح فيه "تل أبيب" سماء سوريا وأرضها
ومياهها، وتحتل مساحات استراتيجية واسعة جديدة من أراضيها (دع عنك الجولان
المحتل)، من أعلى قمم جبل الشيخ إلى مساقط المياه في حوض اليرموك، وعلى مشارف دمشق...
ردود أفعال النظام
الجديد على العربدة الإسرائيلية، أدنى بكثير من ردود أفعال النظام القديم، والتي
كانت موضع سخرية كثير من أنصار النظام الجديد في حينه...التزام الصمت، أو الإدانة
الخجولة غير المتربطة بأي إجراء دبلوماسي أو سياسي أو حقوقي (لا نتوقع ولا نطالب
بإجراء عسكري من منطلق براغماتي وليس من منطلق مبدئي)، هما سمة ردود الأفعال
الرسمية السورية، برغم الغضب والرفض الشعبيين للعدوان الإسرائيلي المتمادي على
السيادة السورية، وتحديداً في الجنوب.
تُبدي الإدارة الجديدة
استعداداً لجعل دمشق محطة تالية لقطار التطبيع الإبراهيمي، إرضاء
لـ"إسرائيل" وإدارة ترامب، راعية الإبراهيميات، وسط تقارير عن قيام
عاصمة إبراهيمية نشطة، بدور الوسيط بين الإدارة الجديدة وكل من "تل
أبيب" وواشنطن، على اعتبار أن الطريق لتفكيك العقوبات والحصار ورفع سيف قيصر،
يمر حكماً بـ"إسرائيل"...ثمة تقارير أخرى، تربط مساعي هذه العاصمة،
بإقدام أحمد العودة على تفكيك فيلقه الثامن، والالتحاق بالجيش السوري الجديد، كجائزة
ترضية، ودفعة على الحساب الإبراهيمي.
يفتح الرئيس السوري
الانتقالي ذراعيه للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والسلطة في أرذل العمر والمواقف
حيال قضية الاحتلال والمقاومة وغزة، ويتردد في استقبال وفد من قيادة حماس، بحجج
وذرائع شتى، فيما تُقدم إدارته الانتقالية، على تشكيل لجنة لمراقبة أداء الفصائل،
وتغلق معسكراتها وتصادر أسلحتها (مع الإبقاء على الفردي منها لغايات حراسة المكاتب
والشخصيات المتبقية)، وتعمد إلى اعتقال اثنين من قادة الجهاد الإسلامي في سوريا،
ربطاً بهدف منع إيران من العودة إلى سوريا، ومعاقبة "المحسوبين" عليها.
يحرص النظام الجديد
"متطوعاً" على تقديم كل الضمانات، بالأفعال لا بالأقوال فحسب، على ضمان
منع إيران من العودة إلى سوريا، وتقطيع شرايين دعم حزب الله، استمراراً لمنهج
سياسي وعقائدي ضاربة جذوره في عمق الأيديولوجيا ويوميات الأزمة السورية، علّه بذلك
يسترضي خصوم طهران وأعداءها الكثر... وفي هذا السياق أيضاً، يحرص النظام على إبقاء
مسافة أمان بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، التي وإن كانت لا تقيم علاقات
متميزة مع إيران والحزب،بيد أنها في عموم فروعها، لا تستعديهما... وهذا ما يفسر
إلى حد ما، رفضه فتح مكاتب للجماعة السورية، وحرصه على تجريدها من السلاح، فيما
فصائل عديدة أخرى، ما زالت تحتفظ بسلاحها ومسلحيها.
هذا الموقف يلتقي مع
موجة عربية ضد الإخوان، بوصفها الوعاء الأكبر الحاضن لحماس، ويبدو أن الشرع وصحبه،
ماضون في تمييز "سلفيّتهم غير الجهادية" عن المدرسة الإخوانية...فالسلفية
وجدت لنفسها مطرحاً في التحالف العربي والدولي ضد إيران وحلفائها، تحت عنوان
"إعادة توجيه" الحركة من مواجهة "الخطر الشيوعي" في ثمانينيات
القرن الفائت وتسعينياته، إلى الصدام مع "الخطر الشيعي" منذ مفتتح القرن
العشرين...تلكم المدرسة في التفكير الرسمي العربي والغربي، هي ذاتها التي أجازت
التعاون مع سلفيي اليمن ضد إخوانه وحوثييه.
وفي سياق التكييف
والتطويع، يأتي الموقف من "يهود سوريا"، وحقهم في العودة والزيارة وتفقد
الممتلكات والديار... لا غبار على هذا الموقف إن صدر عن جهة متشبّعةً بفكرة
"المواطنة المتساوية"، وحياد الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من
مواطنيها ومواطنتها، كياناتها ومكوناتها، لكن أن يصدر عن إدارة نعرف تاريخها
وحاضرها (لا نريد أن نرجم بغيب مستقبلها)، فهذا أقرب إلى المهزلة... فالنوايا
مفضوحة، وهي لا تخرج عن "أوراق اعتماد" إضافية تقدم للغرب و"إسرائيل"
على مذبح البحث عن "شرعية" و"اعتراف"، ودائماً تحت الضغط
المركب...لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه آخرون، من مقارنات بين موقف الإدارة
الجديدة حيال يهود سوريا، ومواقفها من اللاجئين الفلسطينيين، فتلكم قضية ما زالت
فصولها لم تكتمل بعد، سواء بالنسبة إلى فلسطينيي سوريا ومخيماتهم، أو لعموم
اللاجئين وقضية عودتهم وتقرير مصيرهم.
وثمة "إشارات
أولية" بأن الإدارة الجديدة قد تكون بصدد إرسال رسائل للقول بأنها ليست
"ألعوبة" بيد أنقرة وإردوغان، مع أن القاصي والداني، يدرك أن النظام
و"هيئة تحرير الشام" وإمارة إدلب، كانت جميعها "منتوجاً"
تركياً، وأنه لولا دعم أنقرة ورعايتها وحمايتها، لما كان لـ"أبو محمد
الجولاني" أن يتربع على كرسي الرئاسة في قصر الشعب، وأن يصبح الرئيس أحمد
الشرع...لكن ثمة دوائر عربية وغربية، والأهم إسرائيلية، قلقة من التمدد التركي،
وربما آن الأوان لبعث بعض الرسائل التي تشي بخلاف ذلك... حكاية التعامل بالمثل مع
شركات طيران تركية تستخدم الأجواء والمطارات السورية، ليست سوى أول غيث هذا
المسار... وفي تاريخ الحركات السلفية والجهادية، ثمة فصول عن تقلبات هذه الحركات،
وسعيها لاستبدال حلفاء جدد بحلفاء قدامى، بل ومناصبتهم العداء حين يصبح ذلك
ضرورياً.
في سوريا بعد التغيير،
انتشر مصطلح "التكويع" في وصف حال كثيرين ممن كانوا من أنصار النظام
القديم، وسارعوا إلى نقل بندقيتهم من كتف إلى كتف... ينسى مطلقو هذا المصطلح
وناشروه، أن الإدارة ذاتها، هي أول "المكوعين" وأبرزهم، بانقلاباتها
المتتالية على مواقف وحلفاء الأمس، وفي تبدل أشكال قادتها ومضامين خطاباتهم وأنماط
عيشهم.
تنكر وقليل من الحمد
في المقابل،
"إسرائيل" لا تثق بالنظام حتى وهو يمد يداً إبراهيمية إليها، وتتنكر
لتحولاته... وواشنطن لديها "دفتر شروط" سيجعل من سوريا رديفاً لمشروع الهيمنة
في الإقليم إن تم الأخذ بها...والاتحاد الأوروبي معني بإعادة بناء مؤسسات إنفاذ
القانون لضبط الحدود مع لبنان والعراق، وضبط الهجرة ومكافحة التهريب...والعرب ما
زالوا على مقاربة "الخطوة مقابل خطوة"، التي اعتمدوها مع النظام القديم،
مع تعديل وتطوير لمواجهة أولويات جديدة... ومشوار سوريا للخروج من شرنقة العقوبات
الدولية والاستباحة الإسرائيلية، ما زال طويلاً، ومن دون أوهام بقطاف سريع.
وأخيراً، أتمنى لو أن
قادة الإدارة الجديدة قد شكلوا من بينهم فريق عمل، لدراسة مآلات الوعود الزائفة
التي تغدقها واشنطن وحلفاؤها الغربيون، على من تريد "جرجرتهم" إلى
خنادقها...وأن يتأملوا في تجارب غيرهم، ممن ساروا بعيداً على درب التكيف والتطويع
والتكويع والترويض...أتمنى لو أتيحت الفرصة لأحمد الشرع لسؤال الرئيس محمود عباس
كيف صار مُنبَتّاً: لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لا حقوقاً استرد ولا سلاماً
أنجز، برغم كل "التقدِيمات" التي وضعها على طبق من فضة بين يدي
الاحتلال، مرغماً حيناً وطائعاً أحياناً...أتمنى لو أن فريق الرئاسة يتوقف أمام
تجربة السلام والتطبيع، الإبراهيمي وغير الإبراهيمي، وما الذي جاء به للدول
المطبعة ذاتها، وليس لفلسطين والفلسطينيين.
كما أتمنى لو أن
"تقلبات" السيد الشرع، تقف به عند حدود تجربة الإسلام السياسي التركي،
فذلكم أهون البلاء، حتى وإن كره قوميونا ويساريونا العرب والسوريين... فما هو
معروض عليكم أيها السادة، ليست دولة مدنية – ديمقراطية كما حلمتم، ودمشق ليست
معدّة لأن تصبح "هانوي" والقنيطرة لن تكون "سايغون"، في ظل
الحكم الجديد...واحرصوا على ألا يتحول بلدكم إلى نمط جديد في تجربة الحكم والسلطة،
هو مزيج من سلفية محلية، متساوقة مع أرذل السياسات والاستراتيجيات الغربية
والعربية التطبيعية، فلن تخرجوا من مولد كهذا، إلا بالقليل الأقل من الحمص.
لا أحد يريد لسوريا أن
تكون مدنية وبالأخص ديمقراطية، لا العرب ولا الغرب ولا "إسرائيل"
بالطبع، ولا أحد يريد سوريا بـ"طبعة إسلامية مقاومة"، سنيّة كانت أم
شيعية، ولا أحد معني بحقوق نساء وأقليات أو بحقوق مدنية، تلكم ذرائع تتخذ لابتزاز
النظام الجديد، لكسب الوقت وذر الرماد في العيون، وبالأخص، لتدوير الزوايا الحادة
القديمة في مواقفه وسياسته، ومنعه من الانخراط في علاقات طبيعية مع جواره العربي
وغير العربي، لتبقى سوريا عارية من كل عناصر القوة وأوراقها، وليبقى نظامها خرقة
بالية، تحركها رياح الحلف الغربي الصهيوني كيفما اشتهت سفنه وأينما اتجهت.