عام أصعب وأخطر


كتب معين الطاهر
"لم تضع الحرب أوزارها بعد،
ولعلّ المقبل من الأيام أصعبها، لن يختلف هذا العام عن عام الإبادة الجماعية، لكن
المخاطر فيه أكبر، فهو عام تمتدّ فيه حرب الإبادة من غزّة إلى الضفة الغربية،
وتتّسع دائرة الصراع من فلسطين ولبنان إلى سورية والعراق وإيران، وتشتعل فيه
المعارك العسكرية، وحروب الضمّ والتهجير والتطبيع والتجويع والحصار والهيمنة
والابتزاز السياسي والاقتصادي، تكون فيه الحرب بوصفها الوجه القبيح للسياسة هي
السمة الغالبة عليه.
هو العام الذي يسعى فيه
العدو إلى قطف ثمار حربه، عبر استمراره فيها بالوسائل العسكرية، محاولاً فرض وقائع
جديدة لتحقيق أهدافه المُعلَنة والمستترة. وهو عام يزداد فيه العجز العربي الرسمي،
وتتضاءل قدرته على وقف الحرب وفكّ الحصار، وفي الوقت نفسه، يتضاعف الحراك العالمي
تأييداً لفلسطين، ورفضاً لحرب الإبادة. في هذا العام أشكال الحرب ومعاركها
متعدّدة، وكذلك جبهاتها، وثمّة أيام وأسابيع صعبة تحاول فيها الآلة العسكرية
المعادية فرض إكراهاتها السياسية عبر استخدام فائض قوتها، ما يحتّم مواجهتها،
والصمود أمامها، وإجهاض مخطّطاتها".
كتبتُ هذه المقدّمة بتاريخ 15/1/2025، لتكون بداية
مقال لم يُستكمل بعنوان "عام 2025 عام الحروب الممتدّة"، وتردّدتُ في
إكمال فكرته ونشره في حينه. خشيتُ يومها أن أكون نذير شؤم وسط تزايد الحديث عن وقف
إطلاق النار، وإنهاء الحرب، والبحث عن مقترحات ليومها التالي. متحسّباً من تجربةٍ
سابقهٍ حدثت بعد انطلاقة معركة طوفان الأقصى بأيام، ففي ندوة عُقدت في المركز
العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عمّان، قلت إن هذه الحرب ستستمرّ شهوراً
طوالاً، يومها صُدم الأصدقاء والحضور الذين لم يشهدوا في تاريخ الحروب العربية
الإسرائيلية حرباً تطول من دون أن يتدخّل فيها الكبار لوقفها، ووضع حدّ لها،
والتحكّم بمخرجاتها السياسية. لذا، قرّرتُ التمهّل قليلاً، على الرغم من قناعتي
الراسخة بأنها حربٌ ليست كغيرها من الحروب، تفوق بضراوتها نكبة عام 1948 في بعض
وجوهها، وفي ما نتحسّب من نتائجها على المدى القصير. لكن ثمّة يقيناً راسخاً بأنها
أحدثت تفاعلات كبرى في المنطقة والعالم، وانتشلت القضية الفلسطينية من حافّة
التصفية والتطبيع والنسيان، ولعلّها تغيّر الأحوال والموازين في المدى المتوسط.
في غزّة، أضيف هذا العام
إلى حرب الإبادة الجماعية، حرب التجويع. صار الجوع والقهر وقلّة الغذاء والدواء
والماء سبباً إضافياً للموت، يتزامن مع استمرار المقتلة اليومية بفعل القصف
والرصاص. وأصبح الأمل بوقفٍ (ولو محدودٍ) لإطلاق النار، وإدخال قوافل المساعدات
الإنسانية، أشبه بسراب، ما أن يظهر حتى يختفي. وفي كلّ يوم يمرّ، تتجدّد المقتلة،
وتتطوّر وتزداد عنفاً، وتأخذ صوراً جديدة. وقد اعتقد بعضهم أن ادّعاء بنيامين
نتنياهو "النصر" في معركته ضدّ إيران سيجعله يوقف الحرب على غزّة،
ويتوجّه إلى انتخابات مبكّرة يضمن نتائجها. لكن يبدو أن تلك المعركة، بعد أن انقشع
غُبارها، لم تؤدِّ إلى تتويجه ملكاً لإسرائيل، ورأى أن خياره الوحيد هو استمرار
الحرب حتى موعد الانتخابات في ربيع عام 2026، لعلّه يفرض وقائع جديدة في فلسطين
والإقليم.
في غزّة، وعلى الرغم من
معارضة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أقرّت الحكومة الإسرائيلية خطّةً جديدةً لاحتلال
القطاع وتهجير أهله إلى الوسط والجنوب، وتجنيد مئات آلاف جنود الاحتياط في عملية
عسكرية تستغرق خمسة أشهر إضافية، ما يعني اندلاع معاركَ ضاريةٍ تمتدّ حتى الربع
الأول من العام المقبل (2026)، تترافق مع استمرار الحصار والتجويع. للمرّة الأولى،
أضاف نتنياهو إلى أهداف الحرب السابقة المتمثلة بهزيمة المقاومة ونزع سلاحها،
هدفاً آخر، تموضع قوات عربية ودولية تتولى الأمن في غزّة، وتكمل ما تبقّى من
مهمّات في ظلّ استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وتشكيل لجنة محلّية لإدارة
القطاع، لا دور فيها للسلطة الفلسطينية ولا لحركة حماس، لفصل غزّة عن الضفة
الغربية، المهددة بالضم وتحويل ما يتبقّى منها كانتوناتٍ منفصلةً.
لا تتوقّف
خطّة الحكومة الإسرائيلية على ما يجري في غزّة والضفة الغربية، إذ امتدّت حربها
إلى إيران بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة، وادّعت أنها دمّرت المشروع النووي
أو أعاقته، كما نجحت في ضرب منظومات الدفاع الجوي، واغتيال كثيرين من العلماء
وقادة الجيش والحرس الثوري. وواهم من يعتقد أن الحرب مع إيران قد انتهت، فثمّة
تهديدات يومية باستئنافها، إذا ما حاولت طهران ترميم قدراتها النووية أو إعادة
بناء منظوماتها الدفاعية والصاروخية. قد لا تنشب حرب بمعناها الواسع الذي شهدناه
سابقاً، لكنّنا قد نشهد توجيه ضرباتٍ لأهداف مختارة ستردّ عليها إيران بالطريقة
نفسها، من دون أن تتوسّع إلى المستوى السابق، بما يشبه الأسلوب المتّبع مع لبنان
منذ إعلان وقف إطلاق النار، إذ يشهد يومياً غارات إسرائيلية، واغتيالات تترافق مع
ضغط دولي لسحب سلاح حزب الله، بل لعلّ ما حققته إسرائيل خلال تلك الفترة فاق ما
أنجزته خلال الحرب. مع استمرار التهديد بحربٍ واسعةٍ جديدة، ستتجاوز ساحتها الجنوب
اللبناني متقدّمة من الحدود السورية إلى البقاع والهرمل، مستخدمة سياسة العصا
والجزرة، والتلويح بعودة أيّ من الحربَين، أهلية وإسرائيلية، وربّما خليط بينهما.
وهو نموذجٌ يُطبّق أيضاً يومياً في سورية، حيث التدخّل الإسرائيلي السافر بحجّة
حماية الأقليات.
حاول هذا المقال، على
قسوته، وصف واقع الحال، وهو يُنذر بما هو أخطر إن استمر الواقع العربي الرسمي على
ما هو عليه من عجز وفشل، فمخطّطات العدو واضحة وضوح الشمس، ولن يقبل بأقلّ من
التحكّم الكامل بقدرات المنطقة وتوجّهاتها، وسيحلّ الرضوخ لإملاءاته بديلاً من
التطبيع معه. ويبقى السؤال قائماً حول مخطّطاتنا نحن، فلسطينياً وعربياً
وإقليمياً، شعبياً ورسمياً، فالخطر داهم ولا سبيل إلا مقاومته والتصدّي له.