شريط الأخبار
في دراسة تحليلية لمخططات امريكا للمنطقة.. الحروب تكتب: بلينكن في خطابه الوداعي: ما كشفه وما أخفاه!! 5127 شاحنة من المساعدات الانسانية الأردنية لأهلنا في غزة منذ بداية الحرب السلطة تعتقل جيفارا البديري ومصور الجزيرة السلطة تعتقل جيفارا البديري ومصور الجزيرة ابو عبيدة بخطاب النصر: طوفان الاقصى غير المعادلات وخضنا ضد الاحتلال “ملحمة تاريخية” مندوباً عن الملك.. رئيس الوزراء يرعى حفل توزيع جائزة الملك عبدالله الثاني للإبداع الملك يؤكد اهمية تكثيف جهود الاستجابة الانسانية لاغاثة غزة شعب الجبارين.. للانتصار بغزة مذاق آخر لا يمحوه الدمار ولا التضحيات افتتاح فعاليات الملتقى الاردني الدولي الأول لتبادل أفضل الممارسات الصناعية الملك يستقبل رئيس حكومة كردستان العراق مبادرة صحة غزة تثمن صمود الشعب الفلسطيني وتهنئ بوقف الحرب على غزة ولي العهد يترأس الاجتماع الأول للمجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل الملك يؤكد ضرورة ضمان استدامة اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حماس تسلم اسرائيل قائمة اسراها ووقف اطلاق النار يبدا عمليا آيلاند صاحب "خطة الجنرالات": "حماس" انتصرت وإسرائيل فشلت فشلا مدويا الصفدي يعلن من اربد عن حوار شامل حول "الإدارة المحلية" "الهيئة الخيرية" تبدأ اليوم جسرا اغاثيا من 100 شاحنة يوميا لغزة الخصاونة : العلاقة مع الحكومة يسودها الهدوء والتعاون والرقابة بما يحقق التوازن المومني يؤكد اهمية دور الاعلام بحماية المجتمع والدولة تحليل اسرائيلي: تنازلات نتنياهو الكبيرة لا تراجع حماس هو ما مكن من توقيع الاتفاق

في دراسة تحليلية لمخططات امريكا للمنطقة.. الحروب تكتب: بلينكن في خطابه الوداعي: ما كشفه وما أخفاه!!

في دراسة تحليلية لمخططات امريكا للمنطقة.. بالجروب تكتب: لينكن في خطابه الوداعي: ما كشفه وما أخفاه!!


دراسة تحليلية في خطاب بلينكن امام مركز دراسات مجلس الاطلسي

بقلم: د. رلى الحروب

 

-         بلينكن:

-          ادماج اسرائيل كان هدفا للإدارة عبر احلاف أمنية واتفاقيات تطبيع ومشاريع اقتصادية

-         لم نستهدف تغيير الحكومات أو المجتمعات وإنما تغيير العلاقات

-         اميركا حققت أهدافا استراتيجية في الحرب لا بد من استدامتها

-         حماس جندت مثل ما خسرته وأعادت بناء قدراتها في الشمال، ولا يمكن هزيمتها بالعمل العسكري وحده ولا بد من ايجاد بديل

-         رغم دعمنا لحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، إلا أن الكيفية التي تقوم بها بذلك مهمة، وأكدنا مرارا  ضرورة حماية المدنيين وادخال المساعدات

-         على إسرائيل ان تدرك أنها لا تستطيع تجاهل حقوق الفلسطينيين والتعامل معهم وكأنهم " لا شعب"

-         على اسرائيل أن تقبل توحيد الضفة وغزة تحت حكم السلطة الفلسطينية بعد اصلاحها، وقد أخطأت بتقليص شرعية السلطة ودورها

-         على قادة المنطقة تقديم تنازلات صعبة، والامل بالسلام ما زال قائما

-         السعودية اصرت دوما على رسم مسار موثوق لدولة فلسطينية، وبعد 7 اكتوبر اصرت على وقف الحرب

-         اتفاقيتنا بشراكة استراتيجية مع السعودية وتطبيع مع اسرائيل كانت جاهزة، وتتضمن حلفا امنيا وتعاونا اقتصاديا ونوويا مدنيا

-         توقيت هجوم حماس لم يكن صدفة، بل جاء لإحباط التطبيع مع السعودية والتكامل الاقليمي عبر اتفاقيات إبراهام والأحلاف الأمنية

-         حماس كانت تهدف الى اشعال حرب اقليمية منعناها باجراءات عسكرية ودبلوماسية مزدوجة

-         لا يمكن لاسرائيل ان تقبل بوجود حماس او اي جماعات مسلحة في الدولة الفلسطينية المزمع قيامها، ويجب تغيير المناهج والثقافة وقبول اسرائيل

-         على السلطة الفلسطينية ان تطلب تعاونا دوليا لإدارة القطاع مدنيا وإدارة التنسيق الأمني، وبعض شركائنا جاهزون لذلك

-         سندرب قوات فلسطينية لتسلم السلطة في غزة تدريجيا، وسيناريو ما بعد الحرب سيصدر في قرار مجلس أمن وسيشرف على تنفيذه مبعوث أممي رفيع المستوى

-         أنشأنا حلفا يجمع الامارات والهند واسرائيل مع اميركا وكنا بصدد إعلان حلف امني إقليمي، وجمعنا شركاءنا لإحباط هجمات ايران

-         لا احتلال عسكري لغزة أو تقليص من أراضيها، ولا محاولة لحصارها بعد انهاء الصراع ، ولا تهجير لسكان غزة، ولكن تحقيق هذه المبادئ يتطلب إنشاء آلية مستدامة

 

في الرابع عشر من يناير 2025، وعلى أبواب توديعه وزارة الخارجية الأمريكية، ألقى الوزير انتوني بلينكن خطابا مطولا وجريئا أمام مركز دراسات " مجلس الاطلسي" قدم فيه رسالة أخيرة لما يطيب للغرب تسميته منطقة " الشرق الأوسط"، وكشف فيه عن كثير من خفايا السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وذلك قبل يوم واحد فقط من إعلان صفقة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة.

في هذا الخطاب المثير كشف بلينكن عن حقائق لطالما ثارت بشأنها شبهات، ولكنه في الوقت ذاته روج أفكارا تعمد تسويقها لمن أسماهم شركاء وأصدقاء الولايات المتحدة الامريكية في الشرق الأوسط، كما تبنى خطابا في بعض جوانبه حاول أن يبدو موضوعيا، وفي جوانب أخرى كان مثقلا بالرواية الاسرائيلية.

الوزير بلينكن حاول أن يجمل صورته قبل مغادرة المنصب كي لا يذكره الامريكيون والعالم كوزير الابادة الجماعية، وهو ما يناديه به المعارضون في امريكا طيلة شهور الحرب، حتى أن عددا من المحتجين قاطعوا خطابه هذا امام مجلس الاطلسي ثلاث مرات، ولكنه وهو يحزم حقائبه أراد أن يقدم عن أدائه وأداء إدارته صورة اخرى ليذكرها التاريخ غير صورة الانحياز المطلق والدعم المطلق والتماهي المطلق مع حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل التي شنت الحرب الأكثر دموية ووحشية وخرقا للقانون الدولي منذ إنشاء هيئة الأمم المتحدة.

في هذا الخطاب الذي يمكن وصفه بالتاريخي، كشف بلينكن عن بعض جوانب السياسة الامريكية، وأظهر للعالم حقيقة الاهداف التي عملت عليها إدارته طيلة السنوات الاربع التي خدم فيها في وزارة الخارجية، مسلطا الضوء بوجه خاص على نتائج جولاته المكوكية " للشرق الاوسط " بعد السابع من اكتوبر 2023 والتي تجاوزت 12 زيارة، مرسلا رسائل للإقليم الذي عبثت به أميركا ومزقته وفتتته بمعاونة إسرائيل مستخدما صيغا عاطفية قد تخدع البعض، ولكنها يصعب ان تخدع المتمرسين في عالم السياسة.

في هذه الدراسة نلخص أبرز ما قاله بلينكن ونعلق عليه في ضوء سيرة هذه الادارة وتاريخ السياسة الخارجية الامريكية في منطقتنا.

 

أولا: أهداف إدارة بايدن في الشرق الأوسط ( اندماج سياسي اقتصادي امني يشمل إسرائيل والتراجع عن سياسة تغيير الحكومات والمجتمعات)

كشف بلينكن عن أهدف إدارة الرئيس بايدن في الشرق الاوسط منتقدا في الوقت ذاته اهداف من سبقوه، حين قال حرفيا: " لم يكن هدفنا تكرار الأخطاء الغبية التي انتهجتها الادارات السابقة لسنوات مضت حين حاولت تغيير الحكومات او المجتمعات، ولكن هدفنا كان تغيير العلاقات مع وبين وداخل شركائنا في المنطقة، لأننا ارتأينا أن إقليما أكثر تكاملية واندماجا هو الاكثر احتمالية للأمن والاستقرار ولتقديم فرص اقتصادية لشعوبه، ولإيجاد حلول للمشاكل المشتركة من مكافحة الأوبئة الى الإرهاب، الى البنى التحتية واحتياجات الطاقة."

وأكمل بلينكن: " هذا الإقليم المتكامل المندمج يكون في وضع أقوى لمنع اي من جيرانه من السيطرة على الآخرين، أو أي دولة خارجية من السيطرة على الإقليم، يردع العدوان، ويكافح الانتشار النووي، ويبعد ويخفض وينهي النزاع عبر الدبلوماسية."

" تحركنا بسرعة لتحقيق هذه الرؤية..وسعنا وعمقنا اتفاقات ابراهام، ووسعنا ونشرنا تحالفات جديدة مثل تحالف (I2 U2)الذي يضم الهند واسرائيل وامريكا والامارات للتعامل مع التحديات المشتركة. وأعلننا ممرا اقتصاديا يربط الهند بالشرق الأوسط بأوروبا......وأخيرا، حققنا تقدما كبيرا نحو توقيع اتفاق شامل مع السعودية سيقوي شراكتنا الاستراتيجية معها وستطبع من خلاله علاقاتها مع إسرائيل..........".

" الكثير من العمل الشاق في مسار التطبيع بين السعودية واسرائيل قد تم إنجازه بالفعل، وعناصر صفقة التطبيع تتضمن:

1. اتفاقية تحالف استراتيجي تجعل السعودية حليفا اتفاقيا للولايات المتحدة الامريكية.

2. اتفاقية تعاون دفاعي تزيد من التنسيق العسكري وتبني قدرات تكاملية.

3. اتفاقية طاقة تتضمن تعاونا مدنيا نوويا.

4. اتفاقية اقتصادية تطلق التجارة والاستثمارات المتبادلة والمشتركة".

"ولكن احداث السابع من اكتوبر قد عقدت الأمور بالنسبة للطرفين....فبالنسبة للسعودية كان الوصول الى دولة فلسطينية مستقلة مكونا مهما دائما للوصول الى هذه الاتفاقية، ولكن، الان اضحت الحاجة الى إنهاء الحرب في غزة ووضع مسار موثوق لقيام دولة فلسطينية مسألة أكثر إلحاحا بالنسبة للسعودية......كما ان قناعة اسرائيل السابقة بأن الاندماج الاقليمي سيوفر لها الأمن ويعزل أعداءها بالضرورة قد تقلصت بعد أحداث السابع من اكتوبر."

يتضح من اقوال بلينكن أن هدف ادارة بايدن كان جر المنطقة العربية كاملة الى تطبيع مع إسرائيل يشمل توقيع اتفاقيات سياسية والتعاون في مشاريع اقتصادية وأحلاف أمنية متجاوزين الحق الفلسطيني، والجائزة الكبرى بالنسبة لكل من اميركا واسرائيل هي السعودية، ولكن السعودية اصرت على رسم "مسار موثوق" لدولة فلسطينية، وهو الامر الذي حاولت الادارة الامريكية الالتفاف عليه، ولا نعلم ان كان سيقيض لها النجاح في اقناع السعودية بمسار وهمي على غرار اتفاق أوسلو الذي خدع به الفلسطينيون أم لا، علما بأن بلينكن في كشفه عناصر الاتفاق مع السعودية لم يأت بجديد، فوزير الخارجية السعودي كان قد صرح بالمضامين ذاتها في أكثر من مناسبة.

كما أن تشكيل حلف أمني استراتيجي يجمع الامارات بأميركا والهند واسرائيل، ومهمته التعامل مع كل التحديات في المنطقة والعالم، وكان ينبغي ان يتعاون مع الحلف الشرق اوسطي الأمني الجديد الذي يضم اسرائيل الى جوار دول عربية محورية، هي مسألة متفق عليها بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بدلالة ما كشفته وثيقة ما سمي شعبيا بمشروع 2025 الذي وضعته مؤسسة هيريتج بالتعاون مع 101 مركز دراسات تتبع الحزب الجمهوري، وهذا يعني ان هدف الإدارة الأمريكية بتحقيق التكامل الاقليمي واندماج اسرائيل في الاقليم هي مسألة عابرة للأحزاب وهي من سياسات الدولة العميقة التي تبنتها إدارات أوباما وترمب وبايدن كما ستتبناها ادارة ترمب الجديدة.

ولو عدنا إلى الاستراتيجية الأمريكية التي أعلنها ترمب بعد أٌقل من عام من توليه السلطة في ولايته الأولى، فإننا سنجدها تعبر عن هذه المسألة بالذات، والأمر ذاته يتكرر مع استراتيجية بايدن التي أعلنت بعد شهور من توليه السلطة، إذ كانت نية الادارة الامريكية في الحالتين تتجه الى تسليم إسرائيل مهمة شرطي الإقليم أو العقل المدبر له، لتتفرغ هي لصراعها مع الصين.

هذا الحلف الأمني الاستراتيجي تعطل إعلانه ظاهريا بسبب هجمات السابع من اكتوبر لأن "قادة المنطقة لم يجرؤوا على إدانة حماس بسبب شعوبهم" بحسب ما قاله بلينكن في خطابه، "وفي المقابل، فإن إدانتهم لإسرائيل كانت معلنة"، ولكن بلينكن سرعان ما عاد للتأكيد بأنه جمع حلفاء اميركا في المنطقة وشركاءها في مواجهة الهجمات الايرانية على اسرائيل في شهر ابريل واكتوبر 2024 الذين احبطوا تلك الهجمات بنجاح.

وبالعودة إلى ادعاء بلينكن بأن منهاج ادارته في التكامل الاقليمي ودمج اسرائيل في المنطقة هو نهج جديد للسياسة الخارجية الأمريكية فإن هذه مسألة تعوزها الدقة، فسلفه هيلاري كلنتون عملت على تحقيق الاندماج الاقليمي ايضا عبر المشاريع الاقتصادية وعلى رأسها مشاريع الطاقة والمياه، وادارة ترمب أنجزت اتفاقات ابراهام مع البحرين والامارات والمغرب والسودان وطرحت مشروع صفقة القرن واعلنته في ورشة البحرين.

وإن كانت إدارة بوش الابن قد اعتمدت القوة في تغيير النظام العراقي، وحاولت الأمر ذاته في أفغانستان ولم تفلح، وإن كانت إدارة أوباما قد رعت ثورات الربيع العربي السلمية، ثم انتقلت الى رعاية الثورات المسلحة عبر وكلاء عرب، كما في النموذجين السوري والليبي، ثم واصلت ادارة ترمب النهج ذاته بالموجة الثانية من ثورات الربيع العربي مع ابتكار نموذج هجين في الحالة السودانية، والعودة الى النموذج السلمي في الحالة الجزائرية، وتوظيف منهجية مختلطة للسيطرة على السياسة العراقية، فإن ادارة بايدن ساهمت في اسقاط نظام الاسد في سوريا، والتأثير في انتخاب رئيس جمهورية في لبنان، ولا نعرف لو قيض لها ان تكمل استراتيجيتها عبر كاميلا هاريس أي نظام آخر في المنطقة سيكون مهددا بالتغيير!

هذا الدور الذي لعبته إدارة بايدن في اسقاط نظام الاسد في سوريا ورد فيه اعتراف ضمني في خطاب بلينكن اذ قال:

"بعد ان أمضت ايران عقودا وهي تصب المليارات من الدولارات لبناء الالة العسكرية المجرمة لنظام الاسد، سقط النظام، وانسحبت طهران من سوريا. ولم يتمكن اي من رعاة الاسد، لا ايران ولا روسيا ولا حزب الله من انقاذ النظام هذه المرة، لانهم كانوا جميعا مشغولين بأزمات من صنعهم، وهو الامر الذي استغلته الولايات المتحدة بفاعلية.....إيران خسرت طريقها البري لإمداد حزب الله، وتم تدمير قواعد الاسد العسكرية وأسلحته ومصانع اسلحته وذخيرته ، بما فيها الاسلحة الكيماوية من قبل اسرائيل."

كما اشار بلينكن الى الدور الذي لعبته أميركا في إدارة التغيير في لبنان حين قال : " حزب الله اليوم هو ظل حزب الله السابق، فقد قضي على قيادته وأنفاقه ومصانع اسلحته وبناه التحتية، وأجبر على التراجع الى ما وراء الليطاني كجزء من اتفاقية ادارتها الولايات المتحدة. ....هدفنا في توقيع اتفاق وقف اطلاق النار لم يكن فقط وقف القتال وتجنب حرب إقليمية اوسع، ولكن هدفنا كان منع حزب الله من اعادة بناء قدراته بطريقة يمكن ان يهدد بها اسرائيل او يأخذ الدولة اللبنانية وشعبها كرهينة. كما اردنا خلق ظروف تسمح بعودة النازحين الاسرائيليين واللبنانين الى منازلهم......وبعد ستة اسابيع من الاتفاق تسنى للبرلمان اللبناني ان يختار رئيسا بعد تعثر اكثر من عامين ثم اختار بالأمس رئيسا للحكومة...وهي خطوات ضرورية ليصبح لبنان آمنا متمتعا بالسيادة وناجحا وقادرا على تلبية احتياجات الشعب اللبناني."

مسألة واحدة كشف عنها بلنكن بصدق، ألا وهي تخلي الإدارة الأمريكية عن محاولة تغيير المجتمعات العربية والمسلمة من الداخل وتغيير ثقافتها، ويتضح ذلك من انسحاب اميركا من افغانستان وقبولها بعودة الطالبان الى الحكم، وقبولها ايضا باستلام مجموعات من المسلحين الاسلاميين الحكم في سوريا بضمانة تركية، اذ يبدو واضحا ان السياسة قد تغيرت وباتت اميركا اكثر تسامحا مع حكم الجماعات الإسلامية، شريطة ان يكون هذا الحكم منسجما مع الاهداف الكلية، وهي ضمان امن اسرائيل، وتوقيع معاهدات سلام معها، وادماجها في الاقليم كدولة طبيعية.

وهذا الهدف بالمناسبة اعترفت به وثيقة مشروع 2025 المسماة " منهاج للقيادة: وعد الجمهوريين"، إذ انتقدت الوثيقة نهج الادارات السابقة في محاولة تغيير المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل وتغيير ثقافتها، وقالت إن هذا خلق عداء كبيرا للسياسات الامريكية، وأثبت فشله، وعليه، فقد دعت الوثيقة الرئيس الامريكي القادم الى نبذ هذه السياسة والتركيز على دمج إسرائيل في الاقليم، الامر الذي ينسجم تماما مع هدف إدارة بايدن.

 

ثانيا: تباينات بين رؤية إدارة بايدن وحكومة نتنياهو

على الرغم من ان الكثير من المحللين السياسيين كانوا يرون حالة من التماهي المطلق في هذه الحرب بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، إلا أن خطاب بلينكن، وإن كان يأتي في معظمه منسجما مع أقوال نتنياهو، إلا أنه يظهر أيضا بعض التباينات.

ومن ذلك ما قاله بلينكن: " بعد شهر من الصراع، وفي اجتماع لمجموعة الـ سبعة الكبار G7)) في طوكيو، ركزت على مبادئ رأتها الولايات المتحدة ضرورية لتحقيق تلك الأهداف: غزة لا تحكمها حماس مطلقا بعد الآن، ولا يتم استخدامها مطلقا كمنصة للارهاب او اي هجمات عنيفة، حكومة فلسطينية جديدة مع غزة والضفة الغربية متحدتان تحت قيادة السلطة الفلسطينية، لا احتلال عسكري اسرائيلي لغزة أو تقليص من أراضي غزة، ولا محاولة بعد انهاء الصراع لمحاصرة غزة مجددا، ولا تهجير لسكان غزة. وهذه المبادئ دعت الى إنشاء آلية مستدامة لتعافي غزة واعادة إعمارها ولخلق مسار لكل من الاسرائيليين والفلسطينيين ليعشوا جنبا الى جنب في دولة لكل منهما باجراءات متساوية من الامن والحرية والفرص والكرامة. ولكننا الان أدركنا نحن وشركاؤنا بأننا لن نتمكن من تحقيق هذه الاهداف بين ليلة وضحاها."

وهنا تتضح مفارقة مهمة بين مطامع حكومة نتنياهو وأهداف إدارة بايدن، فهما إن كانا يتفقان على اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية امن إسرائيل، بما في ذلك تدمير جزء كبير من البنى التحتية والانجازات الحضارية للمنطقة وقتل شعوبها، تحت شعار إنهاء خطر حماس وحزب الله وإخراج إيران من المنطقة، إلا أن إدارة بايدن، وبحسب ادعاء بلينكن، لا تريد لاسرائيل ان تتوسع باتجاه احتلال لبنان أو الاستيطان فيه، كما أنها لا تريد لإسرائيل إعادة احتلال غزة وتهجير سكانها أو تجديد الحصار عليها أو منعها من الالتحام مع الضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية أو ان تقتل إمكانية قيام دولة فلسطينية على ما تبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى لو كانت تلك الدولة أقرب الى كيان هامشي وشكلي منزوع السلاح، وهو ادعاء بحاجة الى تمحيص، لأن بلينكن في اول جولة له في الاقليم بعد السابع من اكتوبر كان هنا لاقناع قادة المنطقة بقبول تهجير الفلسطينيين الى مصر والاردن والسعودية، وهو ما رفضه قادة المنطقة بتصميم دفع الادارة الامريكية الى اعادة صياغة أهدافها بواقعية اكبر، وهنا افترقت على ما يبدو عن أهداف نتنياهو!

وقد ادعى بلينكن في هذا الخطاب ايضا ان بايدن كان مهتما بالكيفية التي تدافع بها إسرائيل عن نفسها، مشددا على ضرورة خفض أعداد الضحايا المدنيين والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وهو الشيء الذي لم ينجح في تحقيقه لأنه لم يتزامن مع أي ضغط يذكر، فالفيتو في مجلس الأمن بقي حاضرا، والجسر البري اليومي لتوصيل السلاح والذخيرة بقي متواصلا، والدعم المالي الهائل بموافقة الكونجرس وبدون موافقته بقي متدفقا، وقرارات الكونجرس بحماية اسرائيل من المساءلة وعقاب قضاة المحكمة الجنائية الدولية اتخذت، وهذا كله يتناقض مع ادعاءات بلينكن بأن إدارة بايدن كانت مهتمة بالـ "كيف".

في الوقت ذاته، فإن الاسئلة تثور حول جدية الادارة الامريكية في الزام اسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان، لا سيما بعد مجيء ترمب، كما أن سماحها لإسرائيل باحتلال المنطقة العازلة في سوريا والتوسع نحو القنيطرة وقرى جنوب دمشق تثير عددا من علامات الاستفهام، فهل كانت الموافقة سببها هواجس أمنية كما  ادعت إسرائيل باعتبارها خطوة مؤقتة إلى حين التأكد من نوايا النظام الجديد في سوريا، أم أنها خطوة باتجاه إعلان توسعة دائمة للحدود الإسرائيلية نحو " إسرائيل الكبرى" أو ربما في المرحلة التي تليها " اسرائيل الأكبر"؟!

والسؤال الأكبر يأتي عن موقف إدارة ترمب من توسيع إسرائيل حدودها الجغرافية، فإن كان الحزبان الديمقراطي  والجمهوري متفقين على استراتيجية الادماج الاقليمي كما هو واضح في السياسات التي تبنها إدارات اوباما ثم ترمب ثم بايدن، إلا أن مسألة التوسع الجيوسياسي لإسرائيل والتي عبر عنها ترمب حين قال " تفاجأت كم هي إسرائيل صغيرة على الخريطة" أشعرت العالم بأنه سيسعى الى توسعة حدودها، وهو ما يتفق مع سياسات الحزب الجمهوري حين يأتي للحكم، لا سيما المحافظون الجدد الذين ميزوا حقبة بوش الاب والابن، وهؤلاء متماهون تماما مع مطامع اليمين الاسرائيلي تاريخيا، وهم ينتمون الى الصهيونية المسيحية الداعمة بقوة للصهيونية اليهودية، بل إنها من أوجدها تاريخيا لأسباب عدة لا مجال للخوض فيها هنا، وهم يمثلون القوة الأكبر دعما لترمب فيما يسمى الايفانجيليكيين الذين يتخطى تعدادهم السبعين مليونا في الولايات المتحدة الأمريكية.

ترمب نفسه أعلن في الآونة الأخيرة عن نوايا توسعية تخصه حين عبر عن رغبته في ضم كندا وجرينلاند وبنما تحت ذرائع اقتصادية وأمنية، فإن كان هو يحمل هذه النزعة الامبريالية، وحزبه يحمل ذات النزعة، ويدعم توسعة حدود اسرائيل وقيام إسرائيل الأكبر، فإن هواجسنا باتجاه سياساته ستبقى أسئلة مشروعة، إجاباتها لا توجد إلا في رأس ترمب وحده الذي أثبت أنه رجل المفاجآت، لا سيما بضغطه على نتنياهو لتوقيع اتفاق وقف اطلاق النار في غزة ونشره على صفحته على منصة تروث سوشيال قبلها بأيام فيديو ينتقد فيه الاقتصادي والسياسي الشهير جفري ساكس نتنياهو باعتباره جر أميركا الى حروب لا تنتهي في الشرق الأوسط، الامر الذي أغضب نتنياهو وجعله يقلع عن حضور احتفال تنصيب ترمب.

ولعله من المفيد معرفة أن الصهاينة يهودا ومسيحيين يسيطرون على إدارة بايدن من حيث الكم والنوع، وفي كل المواقع الحساسة، ويسيطرون بشكل أكبر على إدارة ترمب، وهذا يعني ان تأثيرهم مستمر عبر الإدارتين، وفي نفس الاتجاه على الأغلب.

ولكن، وحتى يتسلم ترمب السلطة رسميا في العشرين من هذا الشهر، فإننا لن نعرف بالتحديد توجهاته، وأعتقد أن العالم سيكون على موعد مع حقبة مثيرة من السياسة الأمريكية، وسنشهد صراعات عدة بين رغبات ترمب وإرادة قوى الدولة العميقة، الامر الذي سيكون له أصداء كبرى في العالم.

 

ثالثا: هجوم حماس أفسد التطبيع مع السعودية الهدف الأهم مرحليا لإسرائيل وأميركا

قال بلينكن في خطابه: "وكان من المفترض ان أزور السعودية في العاشر من اكتوبر 2023 للمساعدة في إغلاق الفجوات المتبقية في صفقة التطبيع، ولمتابعة الاتفاق على أهم عناصرها، وهو مسار موثوق لقيام دولة فلسطينية مع ضمانات أمنية صارمة لإسرائيل، ولكن في السابع من اكتوبر، حماس هاجمت إسرائيل......"

" توقيت هجوم حماس لم يكن صدفة، بل جاء لإحباط التطبيع مع السعودية وتحقيق التكامل الاقليمي عبر اتفاقيات إبراهام والأحلاف الأمنية، لأن هذا تهديد وجودي لسلطتها ويحد من طموحها في السيطرة على الساحة السياسية الفلسطينية ويفقدها سبب وجودها المتمثل في رفض حل الدولتين وتدمير اسرائيل".

"استقرار الشرق الأوسط يتطلب ضربة قاصمة لإيران وحزب الله وما يسمى محور المقاومة ....عبر تحقيق إدماج إسرائيل في المنطقة.... وخلق مسار زمني ومشروط لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح وخالية من حماس واي فصائل مسلحة تعيش بسلام الى جوار إسرائيل".

" إسرائيل منذ تأسيسها ترغب بأن تصبح دولة طبيعية تقبل في الاقليم وفي العالم كدولة طبيعية، وبالتالي فإن على إسرائيل ان تقرر ان كانت تريد ان يتحقق هذا الهدف فإن عليها أن تغير معاملتها للفلسطينيين وتعترف بحقوقهم الوطنية في قيام دولة، وهو الشرط الذي أصرت عليه السعودية كي توقع اتفاقية التطبيع."

في الفقرات أعلاه أكد بلينكن ما كنا نعرفه من أن هجوم السابع من اكتوبر عطل مسيرة التطبيع، لا سيما مع السعودية، ولكن الزاوية التي نظر هو وإدارته منها الى هذه النتيجة تختلف كليا عن الزاوية التي تنظر منها شعوب المنطقة، ففي الوقت الذي وصف فيه التطبيع واندماج اسرائيل في الاقليم  بأنه يوجه ضربة قاصمة لإيران وحلفائها، ويدمر اسباب وجود حماس ويقوض سلطتها السياسية، فإن الحقيقة التي نراها نحن هي ان حماس لم تكن تحمي نفسها او تدافع عن اسباب وجودها أو عن سلطتها، بقدر ما كانت تدافع عن الوجود الفلسطيني كله وعن تحرير فلسطين وحماية المسجد الأقصى والمقدسات التي تتعرض للتهويد والانتهاك ووقف حركة الاستيطان النهمة التي ابتلعت معظم أراضي الضفة الغربية والقدس واعتداءات المستوطنين على الفلاحين والمدنيين الفلسطينيين العزل.

وهجوم حماس الذي استبق توقيع اتفاقية جديدة من اتفاقيات ابراهام بين اسرائيل والسعودية عطل مسارا لو حدث لكان وقعه على المنطقة والحق الفلسطيني كارثيا، فصعود السعودية  إلى قطار التطبيع سيؤدي الى التحاق البقية، وسيؤدي الى الاعتراف باسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة، مع إغماض العين عن حقيقتها البشعة ككيان استيطاني توسعي إحلالي عنصري تمييزي، ينقض على الاراضي العربية كلما لاحت امامه نقطة رخوة، ويفتح فاه باتجاه المزيد، تماما كما حدث في سوريا، وهذا الكيان لا يردعه الا وجود مقاومة شرسة من أصحاب الأرض، تماما كما حدث في لبنان وغزة.

والحقيقة المرة هي ان التطبيع العربي قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وقابلة للحياة يمثل تهديدا وجوديا لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، فنتيناهو رفع شعار السلام مع العرب متجاوزا الفلسطينيين تحت مظلة التعاون والاندماج الاقليمي والازدهار، ومستخدما خوف الخليج من إيران كفزاعة يوحد من خلالها المنطقة العربية معه ضدها، وهي قراءة خاطئة وخطيرة للأمن القومي العربي الذي لا يمكن ان يستقيم بوجود إسرائيل العدوانية التوسعية طرفا فيه!!

 

رابعا: حماس كانت تسعى الى إشعال حرب إقليمية، وإدارة بايدن منعتها

قال بلينكن في خطابه: " كشفت  الوثيقة السرية لاجتماعات قادة حماس عن أنها كانت تسعى لإشعال حرب إقليمية توقف مسار اتفاقيات التطبيع، مع علمها بالمعاناة التي ستحدث للمدنيين جراء ذلك، ورغم ادعائها بأنها تحمي مصالح الفلسطينيين."

وقال أيضا إن "حماس عادة ما اختارت أن تنتظر وتراهن على أن استمرار معاناة الفلسطينيين سيدفع إيران وحزب الله وغيرهم لمهاجمة إسرائيل مشعلة حربا أكثر اتساعا، وأنه كلما زاد ضغط المجتمع الدولي على إسرائيل لإنهاء حربها، كلما زادات احتمالية نشوء فجوة بين أميركا وإسرائيل".

وذكر بأن بايدن اول رئيس امريكي يزور إسرائيل في زمن الحرب، مشيرا الى ان أهداف الزيارة لم تكن فقط لإعلان دعمه اللا مشروط لإسرائيل والتأكيد على أنها ليست وحدها وأن اميركا ستقف الى جانبها دائما، وإنما أيضا لمنع حدوث 7 اكتوبر جديدة، وفي الوقت ذاته، منع حدوث حرب إقليمية أوسع كانت ستجلب الموت والدمار في المنطقة. وقال أيضا إن قادة المنطقة كانوا قلقين من حدوث هذه الحرب حين زارهم بعد 7 اكتوبر.

والحقيقة ان سعي حماس لإشعال ثورة كبرى في الاقليم لم يكن سرا، بل ان هذا بالضبط ما دعا اليه القائد محمد الضيف يوم السابع من اكتوبر وما كان يتوقعه من جبهات الإسناد ومن شعوب المنطقة، وهو ما لم يحدث ، لأن اميركا استبقت ذلك بارسال بوارجها وطائراتها المقاتلة وحاملات طائراتها وغواصاتها ومقاتليها ومستشاريها العسكريين  لتهديد ايران وحزب الله وردعهم ومنعهم من الانضمام الى هذه الحرب الكبرى ضد اسرائيل.

وعلى ما يبدو، فإن إدارة بايدن طرحت على نفسها السؤال التالي: ان كان فصيل صغير كحماس تمكن من توجيه ضربة قاصمة لاسرائيل في هجوم السابع من اكتوبر، فما الذي سيحل بها ان دخلت ايران وحزب الله وحلفاؤهم الحرب ضدها بكامل قواهم؟  لا سيما وأنه يروى عن بايدن أنه قال حين وصله خبر هجوم السابع من اكتوبر، "لقد وقعت إسرائيل على الأرض ولن أسمح لأعدائها بركلها في بطنها".

وعليه، فإن رغبة إدارة بايدن في منع حدوث حرب إقليمية اوسع لم يكن إشفاقا منها على شعوب هذه المنطقة ، بقدر ما كان إدراكا منها أن حربا واسعة إن وقعت كان يمكن ان تدفع فيها اسرائيل ثمنا باهظا وستنتهي بتآكل قدرتها على الردع وربما أيضا بهزيمة تاريخية!!

وحسب كلمات بلينكن نفسه: " اتخذت إدارة بايدن خطوات فورية لمنع الصراع من التوسع والحرب من الانتشار بإرسال أكبر حاملتي طائرات وعدد من الطائرات المقاتلة وسفن حربية وغواصات لإطلاق الصواريخ وقوات مسلحة الى الاقليم".

هذه بالطبع كانت رسالة الرعب الامريكية لطهران وحزب الله دون الانزلاق الى مواجهة امريكية مع المحور، وهو ما ينسجم مع ما قاله بلينكن في هذا الخطاب: " الأمر لا يتعلق فقط بما أنجزناه، بل بما منعنا حدوثه أيضا".

خطاب بلينكن يظهر بين ثناياه، وإن لم يقلها صراحة،  أن 7 اكتوبر كان قرارا حمساويا، ولم يكن قرارا مشتركا مع ايران وحزب الله، وأنهم علموا به بعد وقوعه، وهو ما يتفق مع تصريحات سابقة لبايدن وحسن نصر الله، ووزير الخارجية الايراني ومسؤولين آخرين في حزب الله وإيران، ويتفق ايضا مع ما صرح به عدد من قادة حماس حين قالوا إنه كانت هناك تدريبات مشتركة على هذه اللحظة، وسيناريوهات معدة سلفا، ولكن التوقيت انفردت به حماس على ما يبدو، خوفا ربما من تسرب المعلومات إلى إسرائيل.

وفي قناعتي فإن حزب الله وايران ارتكبا خطأ استراتيجيا باعتمادهم سياسة تدرجية في التعامل مع أحداث السابع من أكتوبر، ولو انهم دخلوا بثقلهم هذه الحرب منذ البداية ولبوا نداء الضيف، لتوقفت خلال زمن اقصر بكثير، حتى مع وجود اميركا والغرب مساندين لاسرائيل، ولتكبدت إسرائيل خسائر باهظة لا يمكن تعويضها ولسقطت أركان نظرية أمنها وعلى رأسها الردع الإقليمي، ولما وصلت غزة إلى هذه الدرجة من الدمار، ولما أطيح بالنظام السوري، ولما قضت اسرائيل على كل مكامن قوة الجيش السوري برا وبحرا وجوا، ولما احتلت اراضي سورية، ولما قتل حسن نصر الله واسماعيل هنية وربما إبراهيم رئيسي وباقي قيادات الحرس الثوري وقيادات حزب الله، ولما اضطر حزب الله الى الموافقة على قرار يلزمه بتطبيق القرار 1701 الذي نجح في تفاديه منذ عام 2007، ولما فقدت إيران مواطئ أقدامها في الإقليم، بما فيه العراق الذي تطالب اميركا بحل الفصائل المسلحة التابعة لايران فيه وتهدد باغتيال قادتها.

بالتأكيد فإن ايران أرادت ان تحمي مكتسباتها الحضارية وتحمي شعبها ومشروعها النووي، وتجنب بلدها الويلات، وهذه اهداف مشروعة، وكذلك حزب الله خاف من تدمير كل لبنان على غرار ما فعلته اسرائيل بغزة، ولكن استراتيجية القوة المتدرجة التي انتهجها محور المقاومة أدت الى إعطاء إسرائيل الفرصة الزمنية الكافية لتقليص قدرات حماس والجهاد في غزة واعتقال عناصرهما في الضفة الغربية، وطرد اهل شمال غزة الى جنوبها عبر أدوات القصف والتجويع، وبناء قواعد عسكرية في شمال غزة، تمهيدا لمخططها في اعلان ضم كل فلسطين.

وبعد ان حققت هذه الاهداف، سرعان ما التفتت نحو حزب الله موجهة له ضربات قاصمة فاغتالت 80% من قياداته، ودمرت ما تدعي هي إنه 80% من قدراته الصاروخية، عدا عن تدمير الكثير من الانفاق ومصانع الأسلحة. والأخطر أنها دفعت حزب الله الى ما وراء الليطاني كما كانت تريد، وهي الان تمهد لنزع سلاحه وتحويله الى حزب سياسي، عبر فرض اختيار رئيس جمهورية ورئيس حكومة لم يكن لحزب الله الكلمة الفصل فيهما.

بل وإنها أتاحت لإسرائيل واميركا العمل على نار هادئة لطبخ مخطط اسقاط النظام السوري وإخراج إيران من المنطقة وقطع خط الامداد البري لحزب الله، وتحجيم الروس، وخلق توازنات جديدة في كل من سوريا ولبنان عبر فرض معادلات سياسية جديدة بوجود الشرع وهيئة تحرير الشام على رأس الإدارة السورية، وجوزيف عون والقاضي الدولي نواف سلام على رأس الإدارة اللبنانية، وهو الامر الذي أضعف كثيرا من سطوة حزب الله وإيران في المعادلتين السورية واللبنانية، بل إن اميركا هددت قادة المقاومة الاسلامية التابعة لايران في العراق بالاغتيال والحل، وسيتبع هذا التهديد استبدال للقوى السياسية التي كانت تحكم المشهد في العراق بقوى أخرى أكثر تبعية لأميركا.

 

خامسا: اتفاق وقف إطلاق النار في غزة هو ذاته الاتفاق الذي عرضه بايدن في مايو 2024

أكد بلينكن في خطابه مرارا على أن الاتفاق الذي أنجز أخيرا هو ذات الاتفاق الذي عرضه بايدن في شهر مايو 2023  (بناء على مقترحات نتنياهو نفسه كما قال بايدن آنذاك)، في محاولة لنسبة الفضل في إنجاز الاتفاق لإدارة بايدن، خلافا لما أكده الكثير من السياسيين والدبلوماسيين الامريكيين ولما اكده ترمب نفسه من أن الفضل في اجبار نتنياهو على توقيع الاتفاق هو ضغط الرئيس المنتخب ترمب.

ولكن نقطة مهمة قالها بلينكن بهذا الخصوص هي: " عندما وصلنا الى تقييم بأن اسرائيل قد حققت اهدافها الرئيسة في غزة وضمنت ان حماس لم تعد قادرة على تنفيذ هجوم 7 اكتوبر جديد، وضع الرئيس بايدن علانية خطته المفصلة لوقف اطلاق النار في غزة، وجلت حول العالم لحشد الدعم للاتفاق، وتبنى مجلس الامن بسهولة قرارا يدعمه بموافقة 14 عضوا وبدون اعتراض اي عضو. الجامعة العربية دعمت الاتفاق، وحماس وحدها من رفضته، ولكنها الان وبعد أن أصبحت معزولة تماما اضطرت الى الموافقة عليه........خلال الاشهر الماضية كانت حماس من يفسد الاتفاق، ولكننا عملنا بدأب خلال الاسابيع الماضية حتى تمكنا من وضع الاتفاق الاخير على الطاولة بمساعدة قطر ومصر..الكرة الآن في ملعب حماس....إن وافقت حماس فإن الصفقة جاهزة للتوقيع."

في هذه العبارة يعترف بلينكن ان الادارة الامريكية أرادت الاتفاق في شهر مايو الماضي لان تقييمها العسكري والسياسي قد توصل الى ان حماس لا يمكن ان تشن هجوما جديدا، فقد تم القضاء على معظم قدراتها، ولكنه وبدلا من ان يعترف بأن نتنياهو هو من ماطل في توقيع الاتفاق أملا منه في مواصلة الحرب على غزة لتحقيق الاهداف التي كانت خفية وباتت معلنة وهي اعادة الاستيطان واعلان فلسطين التاريخية كاملة أراضي إسرائيلية وتحويل مناطق الفلسطينيين فيها الى معازل سكانية ومقيمين يطردون عند أي مخالفة للقوانين الإسرائيلية العنصرية، فقد حمل حماس مسؤولية رفضه، وهي كذبة ناقضها هو نفسه بنفسه، حين قال في الفقرة السابقة إن حماس وافقت اخيرا على الاتفاق لأنها اصبحت معزولة، ثم عاد الى الكذب قائلا الكرة الان في ملعب حماس فإن وافقت فإن الاتفاق سيتم توقيعه. كما أن الزعم بتعطيل حماس التوصل الى اتفاق هو أمر نفته حماس مرارا، وفنده الإعلام الاسرائيلي نفسه، بل إن وزير الامن الوطني بن غفير اكد أخيرا وبصريح العبارة أنه هو من عطل اتفاق وقف إطلاق النار طيلة الشهور الماضية.

 

سادسا: الخطة الأمريكية لما بعد الحرب على غزة:

كشف بلينكن في الخطاب عن الرؤية الأمريكية لسيناريو اليوم التالي في غزة، وما كشفه يتفق تماما مع ما طرحته وسائل إعلام أمريكية قبل بضعة أشهر،  ولكن الواضح ان إدارة بايدن لم تنجح في فرض هذا السيناريو، ولم تقنع به إسرائيل نفسها ولا اللاعبين الأساسيين في الإقليم والعالم، وهو ما يشرع ابواب التساؤلات على مصراعيها عما إذا كان الرئيس ترمب سيتبنى نفس السيناريو أم يتوصل الى ترتيبات جديدة، وهو ما كان يعول عليه نتنياهو الذي ماطل كثيرا في التوقيع على اتفاقية وقف اطلاق النار في غزة كي يصل ترمب الى البيت الابيض معتقدا انه سيطلق يديه في تحقيق الاهداف التي يريدها وهي اعادة احتلال شمال غزة وبناء مستوطنات فيه، وتقسيم غزة الى ثلاث مناطق وايجاد وجود دائم لجيش الاحتلال على محور نتساريم ومحور فيلادلفيا وفرض ادارة مدنية متعاونة مع الاحتلال بعد اخراج حماس من غزة.

ولكن، وبعد الضغط الذي مارسه مبعوث ترمب على نتنياهو وحكومته والذي اضطر الأخير الى القبول بتوقيع اتفاق وقف اطلاق النار، فإن نتنياهو يعيد حساباته تجاه ترمب، وتسرب أنه قال لسموتريتش " ترمب ليس كما اعتقدناه" .

 

أهم عناصر الخطة الأمريكية لمرحلة ما بعد الحرب على غزة، كما وصفها بلينكن:

-         تدعو السلطة الفلسطينية شركاء دوليين لمساعدتها في ادارة القطاع مدنيا، وبالاخص التنسيق الامني مع اسرائيل وقطاعات الطاقة والمياه والصحة والبنوك.

-         يوفر المجتمع الدولي التمويل والمساعدة التقنية والمراقبة والاشراف.

-         تتضمن الادارة الداخلية وجود فلسطينيين من غزة وممثلين عن السلطة الفلسطينية يتم اختيارهم بعد استشارات مع المجتمعات في غزة

-         في المرحلة النهائية سيتم تسليم الإدارة الى السلطة الفلسطينية بعد ان تكون قد استكملت مراحل اصلاحها بحيث تتخلص من الفساد والبيروقراطية

-         السلطات الادارية الجديدة التي ستحكم القطاع ستتعاون عن كثب مع مسؤول أممي رفيع المستوى من الامم المتحدة مهمته الاشراف على الجهود الدولية لاحلال الاستقرار والتعافي وإعادة الاعمار.

-         ستكون هناك بعثة امنية داخلية مكونة من اعضاء من الأمم الشريكة ترسل قوات شرطة وقوات جيش تعمل بالتعاون مع شرطة فلسطينية، مهمتهم توفير بيئة آمنة لايصال المساعدات الانسانية وجهود اعادة الإعمار وضمان امن الحدود بما يضمن منع تهريب الاسلحة الى حماس كي لا تعيد بناء قدراتها.

-         سنقود مبادرة جديدة لتدريب وتسليح قوات شرطة فلسطينية في غزة مهمتها ضمان الامن والنظام تتولى تدريجيا الامن الداخلي.

-         كل هذه الترتيبات سيتم ادراجها في قرار مجلس أمن دولي

وأضاف بلينكن بأن  " بعض شركائنا قد عبروا بالفعل عن استعدادهم لارسال قوات شرطة وجيش ، ولكن هذا لن يحدث الا ان اتحدت غزة والضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية بعد اصلاحها، كجزء من مسار لقيام دولة فلسطينية مستقلة".

"التوصل الى هذا الاتفاق سيتطلب من جميع الاطراف استدعاء الارادة السياسية، لاتخاذ قرارات صعبة وعمل تسويات صعبة".

"واللاعبون الإقليميون والدوليون عليهم الالتزام بدعم هذا الاتفاق ومنع عودة حماس للسلطة".

"والسلطة الفلسطينية عليها القيام بإصلاحات لبناء سلطة أكثر شفافية وقابلة للمساءلة مستكملة مسارا كانت قد بدأته العام الماضي".

"وإسرائيل عليها ان تقبل توحيد الضفة الغربية مع غزة تحت قيادة السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها".

"والجميع عليه ان يتبنى مسارا مربوطا بجدول زمني وخطوات مشروطة للوصول الى انشاء دولة فلسطينية"

"لماذا هو مربوط بجدول زمني؟ لأن الفلسطينيين يستحقون مسارا واضحا للوصول الى تقرير المصير السياسي، فلا أحد سيصدق او يقبل عملية بلا نهاية".

"لماذا هو مشروط؟ لأنه وإن كان الفلسطينيون يستحقون تقرير المصير، إلا ان هذا الحق يرتبط بمسؤولية، فلا أحد يمكن ان يتوقع ان تقبل اسرائيل بوجود دولة فلسطينية تقودها حماس او متطرفون آخرون، او مسلحة او فيها فصائل مسلحة تتعامل مع إيران او اخرين ممن يرفضون حق اسرائيل في الوجود ، او تعلم عبر مناهجها او عبر منابرها الدينية رفض اسرائيل، أو لم تحقق الاصلاحات المطلوبة بما يقودها الى ان تصبح دولة فاشلة".

"على الاسرائيليين ان يقرروا شكل العلاقة التي يريدونها مع الفلسطينيين..هذه العلاقة لا يمكن ان تكون الوهم الذي يحملونه بأن الفلسطينيين يمكن ان يقبلوا ان لا يكونوا " لا شعب" بدون حقوق وطنية. 7 ملايين اسرائيلي و5 مليون فلسطيني مزروعون في نفس الارض ولن يذهب اي منهم الى أي مكان. وعلى اسرائيل ان تهجر اسطورة انها تستطيع تنفيذ ضم اراضي فلسطينية لها بحكم سياسة الامر الواقع دون ان يأتي ذلك بثمن على حساب ديمقراطيتها ووضعها في العالم وعلى أمنها".

"القبول بهذا الاطار الزمني المشروط بخطوات سيوفر الافق السياسي اللازم الذي تطلبه دول الاقليم واللاعبون الدوليون ليساهموا في توفير قوات امنية ودعم مالي ضروري لمساعدة الإدارة الفلسطينية الجديدة على حكم وتأمين وإعادة إعمار قطاع غزة".

كل ما تقدم هو أقوال بلينكن حرفيا في خطابه، والحقيقة أن هذه الخطة كانت مطروحة على الطاولة بعد أسابيع من الحرب، ولكن، وحتى هذه اللحظة، فإنه لم يتم التوصل الى اتفاقات مع بعض اللاعبين الإقلمييين والدوليين وعلى رأسهم روسيا وايران والصين، كما أن حماس لم توافق على إخراجها من المعادلة بحسب شروط هذه الاتفاقية، وهو ما سيجعل اتفاق وقف إطلاق النار هشا وقابلا للنقض في أي مرحلة من مراحله، بل إن عدم الاتفاق على المرحلتين الثانية والثالثة، لا سيما إعادة الإعمار التي تشترط فيها اسرائيل واميركا خروج حماس من المشهد الفلسطيني ودخول أطراف مثل الامارات ومصر بقوات شرطة وجيش تدير القطاع امنيا ومدنيا يهدد بنسف الاتفاق والعودة الى حالة الحرب.

ولذلك، فإن المرحلة القادمة خطرة سياسيا، وعلى الدول العربية أن لا تمنح اسرائيل واميركا عبر السلم والمفاوضات ما عجزتا عن انتزاعه عبر الحرب.

وفي المقابل، فإن هذا الدم الفلسطيني وأطنان الدمار يجب ان يترجما الى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ودونما اشتراطات ظالمة ومستحيلة، إذ كيف يمكن التعهد لاي سلطة تحكم فلسطين بعدم خروج عمليات مقاومة منها، وكيف لها التعهد بتغيير مناهجها ومواعظ أئمتها وثقافتها لقبول عدو محتل هجر وقتل وعذب ودمر واعتباره جارا طبيعيا يستحق التعاون معه؟! وكيف يمكن إخراج مكون كبير كحماس والجهاد من المعادلة الفلسطينية ؟ وهل تعهدت اسرائيل في المقابل ان تغير ثقافتها العنصرية ومناهجها المحرضة على العرب والفلسطينيين؟ وهل تعهدت بإخراج أحزابها الدينية المتطرفة من المشهد السياسي؟ وهل تعهدت بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن تاريخ طويل من الجرائم وحرب الإبادة والانتقام الجماعي والتطهير العرقي وعن التصريحات التي اعتبرتهم حشرات وبهائم بشرية؟

 

سابعا: أميركا حققت أهدافا استراتيجية في هذه الحرب ولكنها ليست واثقة من استدامتها

اعترف بلينكن بأن إدارة بايدن أرادت تحقيق ثلاثة اهداف دبلوماسية هي: انتاج حل دائم للصراع بين اسرائيل وحزب الله، انهاء الحرب في غزة، تطبيع العلاقات بين اسرائيل والسعودية، الامر الذي سيزود  كلا من الفلسطينيين والاسرائيليين على حد قوله بالحوافز اللازمة والضمانات لتحقيق طموحاتهم الوطنية.

وقال إن إدارته قد "حققت مكاسب استراتيجية حقيقية في هذه الحرب، ولكنها جاءت بثمن باهظ، ولذلك، فإن علينا مسؤولية إدامة هذه المكاسب الاستراتيجية ووضع الأساس لمستقبل أفضل."

وقال أيضا: " إن حلفاء اميركا وشركاءها بخاصة في الشرق الاوسط، عرفوا من هي القوة التي يمكن لهم الاعتماد عليها لتقف مع اصدقائها، ومن هي القوى التي لا يمكن الاعتماد عليها. من هي القوى التي تعمل لخفض الأزمات، والقوى التي تتفرج، والقوى التي تغذي الأزمات. مشيرا الى أن " ميران القوة في المنطقة تغير دراماتيكيا، وليس في الاتجاه الذي كانت تأمل به وتخطط له حماس وداعموها."

بلينكن قال: " واجهنا هجوم إيران على إسرائيل في ابريل واكتوبر 2023 بتحالف إقليمي نحن من بنيناه، ولعبنا دورا كبيرا في صياغة شكل الرد الإسرائيلي على طهران بحيث قلص من دفاعات ايران وعرض مواقعها العسكرية الاكثر حساسية للخطر والانكشاف مرسلا رسالة ردع ، ولكن في الوقت ذاته منعا للدخول في دوائر تصعيد خطرة."

وفي الوقت ذاته وجه انتقادا لزعماء المنطقة الذين أدانوا إسرائيل علانية وخافوا من انتقاد حماس حرصا على إرضاء شعوبهم، وهي المسألة التي تعرض حلفه الأمني الاستراتيجي الى الخطر، فكيف يمكن لهؤلاء القادة أن يسيروا قدما باتجاه إنشاء ذلك الحلف مع إسرائيل الآن، وبعد هذه الحرب الدموية التي شنتها على غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن وبعد تدميرها قدرات الجيش السوري كاملة واحتلالها المزيد من الاراضي السورية وتلكؤها في مغادرة الأراضي اللبنانية؟! وماذا سيقولون لشعوبهم؟ وكيف سيبررون انضمامهم إلى هذا الحلف، لا سيما بعد انسحاب إيران من المشهد السوري وتقلص دورها في المشهد اللبناني، وانحساره القريب في المشهد العراقي؟

بل كيف لهؤلاء الزعماء ان يبرروا مواصلة التطبيع مع إسرائيل أو المشاركة في مشروعات اقتصادية إقليمية كبرى؟ إن كل ما سعت إليه الادارات الأمريكية الثلاثة الأخيرة مهدد بالانهيار في ضوء السلوك المتهور لحكومات اليمين المتطرف التي تصر على مواصلة التوسع الجغرافي ورفض قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، ومعاملة العرب كالعبيد أو كالبهائم البشرية كما صرح جالانت ورفاقه.

بلينكن اعترف في خطابه بأن حماس جندت مثل ما خسرته من مقاتلين، وأنها في كل مرة تنسحب إسرائيل فيها من شمال غزة تعيد بناء قواتها وتقاتل، وأنه لا يمكن هزيمتها بحل عسكري وحده، ولا بد من وجود بديل واضح، وخطة لما بعد الصراع وافق سياسي موثوق للفلسطنيين، وإلا فإن حماس أو شيئا لا يقل عنها خطورة سينمو مجددا، قائلا إن هذه وصفة دائمة لتمرد دائم وحرب مستمرة.

بلينكن اعترف أيضا أن "بقاء إسرائيل في غزة ومعاناة الفلسطينيين قد عزلت إسرائيل دوليا وتهدد علاقاتها مع دول الإقليم، والدول العربية التي وقعت معها معاهدات سلام حديثا قد تنسحب منها تحت ضغط شعوبها إن استمرت الأزمة الإنسانية في غزة ، وحتى الأردن ومصر يمكن أن يتعرض السلام معهما للخطر"، وبالتالي فإن مواصلة هذه الحرب تخاطر باستدامة ما حققته من مكاسب وصفها بالاستراتيجية، هذا عدا عن الضرر الاقتصادي الكبير الذي ألحقته بالاقتصاد الإسرائيلي وتراجع تصنيفها الائتماني وهرب الاستثمارات الأجنبية وتراجعها، والارواح التي فقدت ومعاناة أهالي الاسرى في أنفاق حماس.

والحقيقة أن مراحل الاتفاق الثانية والثالثة في غزة ، وتطورات الوضع في سوريا، وما يمكن أن يحدث في لبنان والعراق وربما مصر والأردن، وتطورات الدور التركي، ستحدد ما إن كان ما وصفه بلينكن بمكاسب استراتيجية مرشح للديمومة أم للفناء، كما أن الرهان على إخراج إيران وروسيا من المعادلة الاقليمية لن يكون في محله، لا سيما وأن كلا من القوتين وقعتا اتفاقيات مشتركة، كما وقعت روسيا اتفاقيات مع كوريا الشمالية والصين، في محاولة لبناء حلف دولي في مواجهة الحلف الأمريكي في المنطقة والعالم !!!

 

ثامنا: بين الاكاذيب الإسرائيلية والبراغماتية الأمريكية رواية تائهة بين ضفتين

تنازعت بلينكن في خطابه نزعتان: الأولى تعزيز الرواية الإسرائيلية التي تبرر حرب الإبادة التي ارتكبت فيها كل ما يمكن ارتكابه من جرائم حرب وعقاب جماعي وتطهير عرقي اعتقد البشر أنها باتت خلفهم بعد الحرب العالمية الثانية، والثانية نقد الموقف الإسرائيلي المعيق لأي حل سياسي في فلسطين.

 ضمن النزعة الاولى ردد بلينكن أكاذيب اطلقها مكتب نتنياهو كان الرئيس بايدن قد تبناها في بدء الحرب ثم تراجع عنها، من ان حماس قتلت 1200 اسرائيلي ومثلت بالجثث واغتصبت النساء، وأن غالبية الضحايا كانوا مدنيين، مع أن تقارير الإعلام الإسرائيلي نفسه نفت هذه الاكاذيب، وأظهرت ان القتلى كانوا في معظمهم جنودا، وأظهرت دور الجيش الاسرائيلي في توسيع أعداد القتلى بسبب تطبيق بروتوكول هانيبال.

كما برر لإسرائيل إقدامها على قصف المستشفيات والمساجد والمدارس ودور الإغاثة والايواء بقوله ان حماس تختبئ تحتها، وهو الامر الذي لم تتمكن إسرائيل من إثباته حتى الآن.

وهاجم حماس باعتبارها عطلت كل محاولات السلام بدءا من تنفيذها عمليات انتحارية لإفساد اتفاق أوسلو، وصولا الى تعطيلها مبادرة السلام العربية عبر إطلاق هجمات الفصح المروعة، ومؤكدا على أن أجندتها إبادة إسرائيل، ومحرضا ضد حماس بأكاذيب من مثل أن السنوار وصف استشهاد المدنيين الفلسطينيين بأنه تضحيات ضرورية، وقوله إنه كلما قتل المزيد من الفلسطينيين الابرياء كلما استفادت حماس.

كما هاجم السلطة الفلسطينية التي عجزت عن إصلاح ذاتها والقضاء على فسادها وبيروقراطيتها، وعجزت عن إدانة أفعال حماس، واستمرت في الانفاق على أسر من أسماهم بالإرهابيين ( الشهداء) وإطلاق رئيسها تصرريحات معادية للسامية.

في المقابل، فإنه وجه نقدا لإسرائيل حين قال إن حكومة إسرائيل قللت وبشكل منهجي من قدرة وشرعية السلطة الفلسطينية التي تمثل البديل الممكن الوحيد لحماس، معطيا أمثلة على حجزها اموال الضرائب الفلسطينية ( التي ضغطت عليها اميركا للافراج عنها ولكنها ما زالت تحتجز منها ما يتجاوز النصف مليار دولار) وتوسعها في الاستيطان .

وطالب إسرائيل بتحديد علاقتها مع الفلسطينيين، مذكرا إياها بأنها لا تستطيع ان تمضي قدما في اعتبارهم " لا شعب" وإنكار حقوقهم الوطنية، وأن على قادة الإقليم اتخاذ قرارات صعبة، وهذا يشمل إسرائيل والفلسطينيين، وربما العرب أيضا من اجل التقدم نحو مسار سلمي ينهي هذا الصراع.

ووجه رسالة إلى قادة الإقليم بقوله إن " المسار نحو السلام ما زال مفتوحا، إذا قرر قادة المنطقة أن يسيروا فيه، وعندها سيجدون اميركا إلى جانبهم، ومعها أكبر قوة لا يمكن مضاهاتها: أجيال شابة مصممة على رفض فكرة ان الصراع محتوم والعداء موروث لديهم الشجاعة لتبني تعايش سلمي".

ولكن بلينكن فاته أن المريض لا يمكن أن يتعايش مع السرطان، فإما أن يقضي السرطان عليه، أو يقضي هو على السرطان!!!

وبلينكن الذي قال حين جاء المنطقة بعد احداث السابع من اكتوبر إنه يأتي اليها كيهودي، والذي حرف اتجاه إدارة بايدن لتبني أكاذيب نتنياهو وطموحاته بالكامل في هذه الحرب، هو نفسه الذي يتراجع الآن في نهايتها تحت وطأة ضربات المقاومة ويعترف بأن نصر نتنياهو المطلق على حماس مستحيل، وأنه ليس من السهل تحقيق أهداف إسرائيل بإلغاء وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه، وأنه ليس من السهل إنهاء حزب الله وإيران من معادلة الإقليم، وإنما يمكن تقليص حجم هذا الدور، كما أنه ليس من السهل إقناع السعودية بالتطبيع والتخلي عن حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم في حين أنها زعيمة العالم الإسلامي، وليس من السهل إدامة اتفاقات السلام مع استمرار السلوك العدواني التوسعي ضد المنطقة واستمرار التمييز ضد الفلسطينيين.

وملخص المشهد كله أننا في هذه المنطقة بتنا في مواجهة معادلة جديدة عنوانها أن اليهودي الأمريكي يفاوض اليهودي الإسرائيلي على ما يمكن تقديمه أو انتزاعه من الفلسطينيين والعرب والإقليم!!!