إسرائيل أمام أعمق أزماتها: نتنياهو يذبح "بقراتها المقدسة"


يبدو رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين
نتنياهو، كمن يعوّل على رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجديد، إيال زامير، كمن
سيحقق أهداف الحرب على غزة، المتمثلة بالأساس بالقضاء على حركة حماس وإعادة الأسرى
الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، من دون تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف
إطلاق النار وتبادل الأسرى.
وأكد زامير خلال خطابه في مراسم بدء ولايته، أول
من أمس الأربعاء، أن "حماس لم تُهزم بعد، وهذه المهمة لم تستكمل حتى
الآن". أي أن الحرب ستُستأنف، في ظل تقارير إسرائيلية تتحدث عن أن زامير يعمل
على وضع خطط لاستمرار الحرب، ولا تزال طبيعة هذه الخطط غير واضحة، فيما يتهم نصف
المجتمع الإسرائيلي على الأقل نتنياهو بأنه تخلى عن الأسرى الباقين في غزة، بسبب
تصريحاته حول استئناف الحرب وعدم تنفيذ المرحلة الثانية من تبادل الأسرى.
رغم ذلك، فإن السؤال الكبير المطروح هو ما إذا
سيستأنف نتنياهو الحرب على غزة. وما الذي سيحققه استئناف الحرب، مما لم تحققه حرب
إبادة الغزيين طوال أكثر من 15 شهرا حتى 19 كانون الثاني/يناير عندما دخل وقف
إطلاق النار حيز التنفيذ؟ هل ستهجر إسرائيل جميع، أو غالبية، سكان قطاع غزة؟ كيف
ستهجرهم وإلى أين؟ فلا توجد حتى الآن دولة واحدة توافق على استقبال مهجرين من غزة.
ومكانة إسرائيل الدولية في الحضيض لمجرد الحديث عن تهجير الغزيين، فكيف ستكون
مكانتها هذه إذا بدأت فعلا بالتهجير؟ وهذا، بدون التطرق إلى ما تجهزه فصائل
المقاومة في غزة في حال استئناف الحرب.
وصف أحد المحللين الإسرائيليين، هذا الأسبوع،
حكومة نتنياهو بأنها تتصرف "بشكل مغامِر"، بينما الواقع هو أنها تتصرف
بشكل غير واضح وغير منطقي. فقد اعتبر وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون
ديرمر، الذي يوصف بأنه "حافظ أسرار" نتنياهو، خلال اجتماع مغلق لمجلس
أمناء الوكالة اليهودية، أنه "إذا هُزمت حماس، يوجد احتمال جيد لأن نلتقي في
حديقة البيت الأبيض من أجل توقيع اتفاق سلام"، ويبدو أنه يقصد توسيع
"اتفاقيات أبراهام" من خلال انضمام السعودية خصوصا إليها. لكنه أضاف أنه
"ينبغي التيقن من ألا تبقى حماس في الحكم"، واعترف في الوقت نفسه أن
"حماس ستبقى فكرة"، أي فكرة مقاومة.
إن الأمر الأكثر وضوحا في إسرائيل هو أن هجوم 7
أكتوبر 2023 كان صادما للإسرائيليين، وبحق. فقد اعتادوا على عمليات مسلحة فلسطينية
ينفذها شخص أو أشخاص ويسقط فيها قتلى إسرائيليون مدنيون وعسكريون، وصل عددهم في
بعض هذه العمليات إلى عشرات. وفي أحيان كثيرة تمكن الشاباك من إحباط عمليات كهذه
قبل تنفيذها. لكن هجوم 7 أكتوبر كان مفاجئا، داخل الأراضي الإسرائيلية، ونفذه آلاف
الفلسطينيين في توقيت واحد، وأسفر عن مقتل حوالي 1200 إسرائيلي خلال ساعات، إضافة
إلى سقوط جرحى وإحداث أضرار واسعة بالممتلكات في منطقة "غلاف غزة"،
وتزامن مع إطلاق قذائف صاروخية على مدن كبيرة نسبيا في جنوبي البلاد.
وفيما تظهر التحقيقات التي أجراها الجيش
الإسرائيلي والشاباك، التي نُشرت في الأسبوع الأخير، أنه تم رصد استعدادات في حماس
لشن هجوم، إلا أن هجوما بحجم "طوفان الأقصى" لم يكن متوقعا في أي
سيناريو إسرائيلي قبل الهجوم. كما أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وخاصة الشاباك،
لم تتلق أي تحذير أو معلومة من عملائها في قطاع غزة حول استعدادات لهجوم، رغم أن استعدادات
كهذه كانت جارية، في الساعات القليلة قبل الهجوم.
لا شك في أن هذه الأحداث صدمت نتنياهو، مثلما
صدمت الإسرائيليين، وربما أكثر على الأرجح، بصفته أكبر مسؤول في الدولة. وهو لم
يدرك من أين جاءته هذه "المصيبة"، بعد أن كانت قناعته قبل الهجوم أن
القطاع هادئ وحماس ملجومة، ولا توجد لديها نية بالقيام بأي تصعيد عسكري. كان
نتنياهو يقنع نفسه بأن الأمور تسير وفق مشيئته. الاحتلال مستمر كالمعتاد، ويفرض
سياسته بعدم قيام دولة فلسطينية، ودول عربية تريد السلام مع إسرائيل. لقد كان
نتنياهو في حالة نشوة، انتقلت إلى الغالبية العظمى من الإسرائيليين، الذين تجلت
بالسفر إلى.. دبي.
ومرة واحدة، فجأة، في صباح يوم سبت ينبغي أن
يكون أكثر الأيام هدوءا في إسرائيل، انهارت هذه "النشوة"، التي توصف في
إسرائيل بأنها "مفهوم" أو "تصوّر". وفي اليوم نفسه شنت
إسرائيل حربا على غزة، كان يعتقد أنها ردا على "طوفان الأقصى"، لكن
سرعان ما تبين أنها حرب إبادة مدفوعة بغرائز انتقام غير عادية.
فقد تبين أن هذا الانتقام ليس ضد حماس، وإنما ضد
الغزيين لمجرد كونهم يسكنون في غزة. ويؤكد ذلك عدد الشهداء الهائل من المدنيين
والدمار الرهيب لبيوتهم، لدرجة أن القطاع بات مكانا لا يصلح السكن فيه، وكذلك
تصريحات مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين. وهذا كله لم يلق استهجانا في
إسرائيل. وحتى أن الإسرائيليين بغالبيتهم لم يتحفظوا من هذه الإبادة، بل أن
الاستطلاعات تشير إلى أن غالبيتهم الساحقة تؤيد تهجير سكان غزة إلى خارج القطاع. لطالما
تمنوا، طوال عشرات السنين، أن "يتبخر" الفلسطينيون. لكن الفلسطينيين
ليسوا مادة سائلة.
تعلن إسرائيل في ظل الحديث عن استئناف الحرب على
غزة، أن العام 2025 سيكون عام حرب. لكن قد يكون العام الجاري عام "حرب"
إسرائيلية داخلية أيضا. ليس بمعنى حرب أهلية مسلحة، وإنما باتساع الشرخ
والانقسامات في المجتمع الإسرائيلي، أكثر مما كان في العام 2023، في أعقاب خطة
"الإصلاح القضائي" التي وضعتها حكومة نتنياهو من أجل إضعاف جهاز القضاء.
"مشكلة غزة" بالنسبة لمعظم الإسرائيليين،
كمكان يخرج منه مسلحون لمهاجمة إسرائيل، انتهت. وتبقى استعادة الأسرى الباقين في
غزة. والآن، وفي الفترة القريبة المقبلة، سيواجه معظم الإسرائيليين هؤلاء
"مشكلة نتنياهو"، الذي يرفض استمرار تبادل الأسرى، ويلمح بدلا من ذلك
بمواصلة الحرب، من أجل حماية نفسه وعدم سقوط حكمه، لأنه لم يعد يتمتع بدعم أغلبية الإسرائيليين.
لكنه في طريقه بدأ مؤخرا بذبح "بقرات مقدسة" إسرائيلية.
أول هذه "البقرات" هو الجيش
الإسرائيلي، من خلال دفع رئيس أركان الجيش هليفي إلى الاستقالة خلال الحرب، وكذلك
من خلال سعي حكومة نتنياهو إلى إعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية، وهذه قضية
تثير غضبا هائلا في أوساط غير الحريديين، وكذلك داخل الحكومة.
وبعد صدور نتائج تحقيقات الجيش حول إخفاقات 7
أكتوبر، الأسبوع الماضي، وتلميحها إلى أن نتنياهو أراد الهدوء، قبل 7 أكتوبر، أعلن
رئيس أركان الجيش الجديد زامير، عن تشكيل "طاقم خبراء" لإعادة النظر في
تحقيقات الجيش. يشار إلى أن تحقيقات الجيش أجراها ضباط، وليس هليفي، لكن إعلان زامير
عن الطاقم الذي شكله في اليوم الأول من ولايته في المنصب، بالتنسيق مع كاتس، يدل
على عدم ثقة بالجيش، ليس من جانب زامير فقط، وإنما من جانب نتنياهو أيضا.
"البقرة" الثانية التي يعمل نتنياهو على
ذبحها حاليا هي الشاباك، وتحديدا رئيسه، رونين بار، من خلال إرغامه على الاستقالة
أو إقالته. وفي أعقاب نشر تحقيق الشاباك حول إخفاق 7 أكتوبر، واعترف من خلاله
بإخفاقاته، قال نتنياهو إن "الشاباك لم يقرأ الصورة الاستخباراتية وكان أسير
تصور معين"، وأضاف أنه "في التقديرات الاستخباراتية المتواصلة، وبضمن
ذلك قبل أيام معدودة من المجزرة (هجوم 7 أكتوبر)، كانت النظرية المركزية في
الشاباك أن حماس معنية بالحفاظ على هدوء، ولن تُفتح معركة".
وهاجم نتنياهو بار شخصيا، وقال إنه في بداية
تشرين الأول/أكتوبر 2023، "أوصى رئيس الشاباك بمنح منافع مدنية لحماس مقابل
شراء هدوء. وحتى أن بار قال إنه يجب الامتناع عن اغتيالات في قطاع غزة ولبنان من
أجل الامتناع عن جولة (قتال) أخرى في غزة"، وذلك على عكس ما جاء في تحقيق
الشاباك، بأنه أوصى باغتيال قادة حماس، وخاصة زعيم الحركة، يحيى السنوار، قبل 7
أكتوبر.
و"البقرة" الثالثة التي ذبحها نتنياهو
جزئيا هي الموساد، من خلال إقالة رئيسه دافيد برنياع، من رئاسة الوفد الإسرائيلي
في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وتعيين ديرمر مكانه، في إشارة واضحة
لعدم ثقته برئيس الموساد.
قد تكون إسرائيل أمام أزمة داخلية عميقة غير
مسبوقة، وربما سيتجاوز حجمها صدمة انهيار "النشوة" في 7 أكتوبر، لأنها
ستأتي استمرارا لأزمات إسرائيل والانقسام الذي يستمر اتساعه في المجتمع الإسرائيلي
منذ تشكيل حكومة نتنياهو، نهاية العام 2022، فيما لا يتوقع أن يتنازل أي طرف في
هذا الانقسام للطرف الآخر، وإنما أن يصر أكثر على مواقفه. هل سيلجأ نتنياهو إلى
مواصلة الحرب على غزة كملاذ، أم سترحل "حرب" داخلية إسرائيل إلى اتجاهات
أخرى؟
·
نقلا عن عرب 48