الخبز تحت الحصار: كيف نجحت الحملة الأردنية في كبح مشاريع الإغاثة المشروطة؟


كتب: عبدالسلام مرتجى
منذ أن انطلقت الحرب
الإسرائيلية على قطاع غزة، تحوّل الخبز إلى رمز للمأساة ومرآة دقيقة لموازين القوى
على الأرض، فلم يعد مجرد طعام، بل بات أداة سياسية، وعنوانًا للفرز بين الإغاثة
المجانية والإغاثة المشروطة، بين العمل الإنساني النزيه، والمشاريع المُقنّعة لتفكيك
ما تبقى من الصمود الجمعي.
وفي خضم هذه المعركة
الصامتة على رغيف الخبز، برزت الحملة الأردنية، بالتعاون مع الهيئة الخيرية
الأردنية الهاشمية، كفاعل إقليمي مسؤول، تمكّن من تعطيل تمدّد مبادرات مشبوهة،
ووقف تحويل الجوع إلى أداة استتباع.
*المشهد الغزي: ما بعد الجوع ليس إلاّ الانهيار*
منذ أسابيع، ورغم دخول
كميات من الطحين امس إلى قطاع غزة، ظلّت معظم المخابز مغلقة، وتوقّف توزيع الخبز
من قبل برنامج الغذاء العالمي(WFP)،
نتيجة ما وُصف بـ”تعقيدات لوجستية وأمنية”، إلا أن الوقائع الميدانية تشير إلى ما
هو أبعد: غياب الإرادة السياسية الفاعلة، وصراع النفوذ على إدارة الملف الإنساني،
لا سيما في مناطق الوسطى والجنوب، حيث يحتشد مئات الآلاف من النازحين بلا طعام،
ولا مأوى، ولا أفق.
في هذا الفراغ، برزت
مبادرة GHF
(Global Humanitarian Foundation) كلاعب مستجد، تقدّمت بعروض لتولّي المساعدات في غزة، في وقت بدا
فيه المجتمع الدولي عاجزًا عن التنسيق، ومرتبكًا في فهم الواقع على الأرض، لكن
المبادرة، ورغم خطابها الإنساني، قوبلت بتشكك من عدة جهات محلية، بالنظر إلى ضعف
الشفافية في آلياتها، وغموض مصادر تمويلها، وعلاقاتها غير المعلنة ببعض الجهات
السياسية الدولية التي تسعى لإعادة تشكيل المشهد الإغاثي بما يخدم أهداف
"الاستقرار المُوجّه” لا الإنقاذ الفوري.
*الردّ الأردني: استباق الاختراق*
في لحظة دقيقة، تحركت
الحملة الأردنية لتوزيع ربطات الخبز في قطاع غزة ومراكز الإيواء، مستجيبة لحالة
طوارئ غذائية تهدد الأمن الإنساني لمئات العائلات، لكن هذا التدخل لم يكن مجرد فعل
إغاثي، بل ردًّا سياديًا على محاولة تدويل الجوع وتسييس الخبز، حيث سدّت الحملة الفراغ
الذي كاد يُملأ عبر مشاريع غير نزيهة، قد تُستخدم لاحقًا كأدوات ضغط على السكان أو
كمدخل لفرض أجندات سياسية تحت ستار "الاستجابة الطارئة”.
لقد نجحت الحملة
الأردنية، بخبرتها وسرعتها في التحرك، في تعطيل مسار GHF،
ومنعت نشوء سابقة خطيرة: أن يتحوّل رغيف الخبز في غزة إلى ملف تفاوضي تُدار حوله
تناقضات الدول والمنظمات، بينما ينام الأطفال جوعى.
*بين الإغاثة والهيمنة: غزة كمختبر مفتوح*
ما يحدث اليوم في غزة
لا يمكن فصله عن تحوّل المساعدات إلى مساحات للتدخل غير المباشر، منذ عقود، يستخدم
المجتمع الدولي أدوات الإغاثة لتكريس أنماط من "الهيمنة الناعمة”، تبدأ بالمساعدات
وتنتهي بإعادة تشكيل أولويات الشعوب، وتفكيك قدرتها على بناء بنى مقاومة مستقلة.
وتبدو غزة، اليوم،
كمختبرٍ حيّ لهذه المقاربة: حيث تُستخدم المواد الغذائية لفرض الوقائع السياسية،
وتُدار المعابر كأوراق ضغط تفاوضي، وتُمنح بعض الجهات حق التوزيع مقابل ولاءات أو
صمت أو تخلّي.
في هذا السياق، تصبح
المبادرة الأردنية نموذجًا مغايرًا، فهي لا تطرح نفسها كوسيط مشروط، بل كفاعل
مستقل، يؤمن أن الإغاثة لا تُدار كصفقة، بل كواجب أخلاقي، وأن الكرامة تسبق الكيس
والدقيق.
*الخلاصة: ما بعد الخبز*
أهمية ما فعلته الحملة
الأردنية لا يقتصر على رغيفٍ وُزّع، بل في الرسالة التي حملها: أن الحصار لا يبرر
الانتهاك، وأن الإنسان الجائع لا يجب أن يُبتز، وأن هناك ما زال متّسعٌ لعمل
إنساني نزيه في عالم تتلاعب فيه المصالح حتى في شؤون الحياة والموت.
في غزة، لم يعد الخبز
فقط ما يُنقذ الناس من المجاعة، بل أيضًا من فقدان الثقة، ومن الذلّ الإغاثي، ومن
الانكشاف أمام قوى تدّعي المساعدة وتخطط للهيمنة.