الطريق ما بين أول جرعة مخدرات وحتى أول طعنة قاتلة.. العلاج بالتدخل السلوكي


المهندس زيد خالد
المعايطة
استيقظ الشعب الأردني
قبل بضعة أيام على مأساة الشاب عبادة عرابي ابن الواحد وعشرين عاماً، والمعيل
الوحيد لأمه واخوته، الذي ما لبث أن بدأ يوم آخر من العمل حتى امتدت عليه طعنة من
أحد فارضي الاتاوات ومدمني المخدرات، لتنهي ما كان لديه من أحلام وتحرق ما تبقى من
قلب أسرته المكلومة، ولتجدد النقاش والجدال الدائر حول العنف المجتمعي المرتبط بالمخدرات.
هذه القصة ليست استثناء
بل جزء من واقع مقلق اخذ بالاتساع في مختلف المناطق الأردنية حيث تلتقي الأسباب
بين جنوح المخدرات واخفاقات الفقر، وتتوافق معاناة الشعور بالنبذ مع دوافع ارتكاب
الجريمة، والاحساس بالعزلة مع الرغبة باستخدام العنف، فبحسب ما تم نشره من أرقام
رسمية، ارتفعت معدلات جرائم المخدرات في الأردن بشكل كبير خلال العقد الأخير إذ
تجاوز عدد القضايا المسجلة في عام 2024 حاجز 25 ألف قضية، وبلغ عدد المتورطين فيها
نحو 39 ألف شخص، حيث تعبر هذه الأرقام عن حجم التحدي الذي يواجه المجتمع الأردني
والذي اصبح يشكل احد اخطر المهمات التي تواجه الجهات الأمنية والصحية خاصة مع
تكرار ظهور حالات عنف شديدة مرتبطة بشكل مباشر بتعاطي أنواع مستجدة وبالغة الخطورة
من المخدرات مثل "الجوكر" و"الكبتاغون" و "الكريستال
ميث" حيث أشار تقرير مؤشر الجريمة المنظمة لعام 2023 إلى تصاعد نسب بعض أنواع
الجرائم التي تستخدم فيها أدوات قتل مثل جرائم الإتاوة والاعتداءات الجنسية
والبدنية والمرتبطة بتعاطي المخدرات.
وفي مواجهة هذا التحدي
يخوض الأردن حربًا حقيقية على جبهتين، الاولى على حدوده مع دول الجوار والثانية في
شوارع مدنه وعلى عدة محاور من مكافحة التهريب والترويج والتعاطي الى حملات التوعية
والعلاج، ولكن المشكلة بطبيعتها متعددة الأوجه، فالمخدرات ليست مجرد تحدٍ أمني أو
قضائي فقط، بل هي ظاهرة متعددة الأبعاد تتداخل فيها العوامل الاقتصادية
والاجتماعية والنفسية والسلوكية، فمع التأكيد على أهميه فهم الجانب النفسي
والسلوكي المؤدي للإدمان، يجب الفصل والتمييز بين التعاطي كسلوك يجرم عليه القانون
الأردني وبين الادمان والجريمة الناتجة عن الإدمان، وهنا تبرز أهمية فهم الدوافع
السلوكية والنفسية التي قد تدفع متعاطي المخدرات إلى التحول نحو العنف، وكيف يمكن
أن تساهم التدخلات السلوكية والعلاجية في كسر هذه الحلقة والحد من انتقال الإدمان
إلى دائرة الجريمة والعنف.
لا يتحول معظم مدمنو
المخدرات إلى مجرمين عنيفين بشكل عشوائي او لتملكهم نزعة شريرة فطرية، بل هناك
سلسلة من الدوافع والسلوكيات النفسية والاجتماعية التي تفسر هذا التحول من منظور
العلوم السلوكية، حيث يبدأ الأمر بتغيرات في كيمياء الدماغ نتيجة التعرض المزمن
للمخدرات ما يؤدي إلى ضعف مراكز التحكم بالانفعال واتخاذ القرار ويجعل المدمن أكثر
اندفاعاً وأقل قدرة على ضبط نفسه أمام الضغوط أو الاستفزازات. هذا الخلل العصبي يترافق
مع حالة دائمة من القلق والتوتر والشعور بالتهديد أو العزلة خصوصاً مع وجود وصمة
اجتماعية قوية تجاه المدمنين في المجتمع الأردني، مما يزيد من شعورهم بالرفض
والعجز ويخلق ما يعرف ب"أزمة الانتماء السلوكي". فحين يحس الشخص الذي
يعاني من الإدمان بالرفض والإقصاء من عائلته ومجتمعه سيبحث عن "انتماء
بديل" في بيئة تتقبله وتحتضنه حيث تتكون هوية بديلة قائمة على فرض الاحترام
عن طريق العنف والانزلاق في عالم الجريمة.
بالنظر الى السياق الأردني، تتطلب معالجة هذا
التحول السلوكي تغيير النظرة إلى الإدمان من انه وصمة عار مجتمعيه او قضية امنية
إلى كونه اضطراباً صحياً ونفسياً قابلاً للعلاج، فبالإضافة الى أهمية توفير المزيد
من مراكز العلاج في مختلف مناطق المملكة، يجب بناء ثقة حقيقية بين المتعاطيين
وأسرهم ومراكز العلاج عن طريق إعادة صياغة الخطاب الموجه لمرضى الإدمان و اسرهم
لإظهار مراكز العلاج على انها فضاءات آمنة تمنح فرصة جديدة للتعافي. كما يجب
التركيز على السياق المحلي عن طريق تفعيل دور المجتمعات المحلية ومؤسسات المجتمع
المدني من خلال بناء شبكات دعم مجتمعية تضم متعافين سابقين وأخصائيين اجتماعيين
وقادة مجتمع محلي لتوفير بيئة آمنة ومحفزة للمدمنين وأسرهم عن طريق تقديم جلسات
دعم جماعي وبرامج تطوير مهارات الحياة وأنشطة شبابية بديلة تملأ أوقات الفراغ
وتقلل من فرص العودة للإدمان أو الانخراط في دوائر العنف. كما ويجب أن تتكامل هذه
الجهود مع تطوير برامج متابعة فردية للمتعافين بعد خروجهم من مراكز العلاج لضمان
استمرار الدعم النفسي والاجتماعي ومساعدتهم على إعادة الاندماج في المجتمع بشكل
صحي وآمن.
الحرب على المخدرات هي
حرب شاملة تبدأ من حماية عقول الناس قبل أجسادهم، ومن إعادة من ضلّ الطريق لا تركه
يغرق، فكل جريمة يرتكبها مدمن ليست خسارة واحدة، بل اثنتين: شاب فقد السيطرة وآخر
فقد حياته، وعائلتان دُفنت أحلامهما في لحظة.
التعافي من الإدمان ليس
هامشياً في هذه المعركة، بل هو خط الدفاع الأول عنها، فبين أول جرعة... وأول طعنة،
هناك وقت ومساحة وفرصة للتدخل.
·
باحث في الاقتصاد
والسياسات السلوكية