الوحدة الشعبية يحتفي بذكرى غسان كنفاني: اسس مقدمة لمشروع ثقافي فلسطيني وطني جدي


في إطار فعاليات إحياء الذكرى 53 لإستشهاد الكاتب والأديب
والمفكر العضوي "غسان كنفاني”، نظمت دائرة الثقافة والإعلام الحزبي/ حزب
الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني، في مقر الحزب.. وتحت شعار "ما زلنا نقاوم”؛
عرض أفلام وثائقية قصيرة، ومنتج بصري مكثف، يبرز أدب وفكر
وإبداع غسان كنفاني
وقد
تضمن البرنامج:
1- عرض
فيلم وثائقي قصير عن سيرة حياة غسان كنفاني وحادثة اغتياله واستشهاده، وقد حوت
الوثيقة البصرية، لمحات من حياة الشهيد القائد، وواقعة اغتياله الإجرامية برفقة
لميس ابنة شقيقته، وتشييع جثمانه في بيروت بحضور 40 ألف مشارك لبناني وفلسطيني،
كما عرضَ لمقابلات وشهادات مع عائلة وأصدقاء ورفاق درب الفقيد الكبير، وجانبا من
إبداعه وأقواله.
2- شملت
المادة المصورة إستعراض نقد سينمائي فني سياسي لفيلم "المخدوعون” المأخوذ عن رواية
غسان؛ رجال في الشمس، ومن إخراج الملتزم توفيق صالح، سبقها عرض لبعض مشاهد الفيلم
والذي حاز على العديد من الجوائز الفنية الملتزمة، ونال إشادة فنية وسياسية كبيرة
من قبل المختصين على المستوى العربي والعالمي.
3- تبع
ذلك عرض تسجيلي قصير لمسرحية غنام غنام "عائد إلى حيفا” المقتبسة عن رواية غسان
كنفاني وتحمل نفس عنوان الرواية.
تبع
العروض نقاش فكري وأدبي مفتوح تناول مضمون وتجليات المواد المعروضة.
وقد
نوهت المداخلات بأبرز علامات التشارك والفروق بين روايتي "رجال في الشمس” و "عائد
إلى حيفا” وأهميتهما في الأدب الفلسطيني والعربي، وقدرتهما على إحضار تأثير النكبة
على مختلف الشرائح العمرية للشعب الفلسطيني الحاضر بشكل حيوي ومجسدا بالشخصيات
الروائية، وتحويلها إلى الشكل الفني الموائم.
وتناول
المشاركون قدرة الروايتين -كما في أدب غسان عموما- على تمثل أماكن الوطن المختلفة
وأزمنته وتحديد دلالاته، في مرحلة الكوارث التاريخية التي شابها الضياع ومحدودية
الخيارات، والتي أدت إلى اقتلاع الفلسطيني من وطنه وتشريده في منافي الأرض، حيث
نشهد هنا قدرة أدب غسان على تقمص مرحلة الضياع هذه، وإختزالها زمنيا، والتمهيد إلى
أعادة إمساك الفلسطيني بصورة الوطن الناصعة، منطلقا منها نحو العودة إلى الوطن،
عبر إشعال جذوة النضال الوطني التّحرري المرير والنبيل طويل الأمد عبر المواجهة
الشاملة، والتي تستهدف قبل أي شيء تحرير الإنسان والوطن الضائع، انتصاراً للإنسانية
الحقة، وتثبيتا لمعاني الحرية والإنعتاق من نير الإرهابٍ الأسودَ الذي أخذ
الإنسانية إلى نقيضها العنصري البغيض.
كتب
كنفاني رواية رجال في الشمس في عام 1962 وهو مختبئ عن أعين الشرطة، كونه لم يكن
يملك أوراقًا رسمية للإقامة في لبنان، في وقت اشتد فيه القمع والملاحقة السياسيان
على أثر محاولة انقلابية فاشـلة على الحكم هناك. صدرت الرواية في بيروت عام 1963.
وقد تُرجمت لاحقًا إلى: الإنكليزية، والفرنسية، والهولنديـة، والألمانية،
والسويدية، والهنغارية، والنرويجية، والتشيكية. وحُولت إلى الفيلم السينمائي الذي
أخرجه المبدع توفيق صالح بعنوان "المخدوعون” عام 1973. وقد فـاز الفيلم بعدة جوائز
من بينها "مهرجان قرطاج” في تونس، وجائزة "مهرجان الأفلام الكاثوليكية” في باريس،
وجائزة "حقوق الإنسان” في ستراسبورغ، وصنف ضمن افضل الأعمال المصرية والعربية
والسينما المقاومة، كما قام فريق مسرحي بتحويل القصة إلى نـص مسرحي عُرض في مدينة
الناصرة، غير أن سلطات الاحتلال أوقفت العرض. وقام الفريق المـسرحي التابع لإذاعتي
السويد، والدنمارك بمسرحة هذا العمل.
من
خلال تقنية الحوار الداخلي عند شخصيات الرواية، استطاع "كنفاني” أن يضع شخصياته
تحت الشمس ويستبطن أعماقها، ليكشفها ويعري دواخلها أمام أنفسها، ويكشف أوضاع
شخوصها وهزائمهم وعجزهم، كما رصد أثر الأحداث التي تمر بها هذه الشخصيات، وأثر
العلاقات المتشابكة بينها وبين الشخصيات الأخرى.
وضمن
تقنية المونولوج التي استخدمها "كنفاني” رأينا الزمن يتداخل وينساب دون قطع، فنقفز
مع الشخصية وكأننا في آلة الزمن دون أن نشعر بالتفكك أو الملل أو الضياع، بل كان
الماضي متساوقًا مع الحاضر بطريقة مدهشة، بأسلوب جعلنا نغوص بدورنا في عمق هذه
الشخصيات ونستشرف مستقبلها رغم جهلنا بالأحداث التي ستقع. المفارقة في الأمر أن
أسلوب "كنفاني” هذا جعلنا لا نتعاطف مع هذه الشخصيات ولا نحقد عليها -في آن واحد-
وكأنه يريد أن يقول لا أريدكم أن تتماهوا مع الشخصيات أو تعطفوا عليها أو تحقدوا
عليها، بل اقرؤوها فحسب، وتابعوا مسيرتها، واعرفوا أسباب عجزها، وتعلموا أن الحلول
الفردية ومحاولة الخلاص الشخصي أمام القضية الفلسطينية لا تؤدي إلّا إلى مضاعفة
المأساة.
فتح
النقاش الفني والأدبي الحار بين الحضور إلى سبر ملامح التعبير الأدبي للوطنية
الفلسطينية الناشئة في ظروف النكبة وتهجير 85 في المئة من السكان الفلسطينيين
الذين كانوا يعيشون على أراضيهم ومجتمعهم.
وفي هاتين الروايتين برزت سمات رئيسية من شخصية غسان كنفاني
الأدبية، بعناصرها التي ستؤثر بشكل مميز في بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية
الجديدة، وطابعها العام، وفي المصارحة والنقد المحرج للذات الوطنية. حيث يتواصل
هذا النقد متصاعدا في الرواية حتى يصل إلى الصيحة اليائسة المعاتبة ل”أبو
الخيزران” -الشخصية العقيمة والمضادة في الرواية-: "لماذا لم يطرقوا جدار الخزان”؟!
وقد حظيت هذه القفلة بنقاش عميق حول ما المراد من هذه الصيحة،
وهل يحق لمخرج العمل أن يبدل بجوهر وفكرة العمل الروائي؟
أطلقت رواية "رجال في الشمس” إرهاصات أدب المقاومة، ووضعت
أولى اللبنات في التحفيز للمقاومة الفلسطينية الناشئة، ولكن ليس بمعنى محلي مغلق
على نفسه, إنما بمعناه الإنساني الرحب وإن كان من مدخل فلسطيني. ذلك الأدب الذي
يحكي عن الصراع بين الإنسان وكل عوامل القهر والظلم الجائرة التي تصيبه، ويبين كيف
أن العاجزين عن الاضطلاع بمهمتهم الوطنية، سيلاحقهم عجزهم بحلولهم الفردية ويقضي
عليهم.
برز
التوافق خلال النقاش، بأن مجمل كتابات كنفاني الإبداعية قد شكلت مقدمة لمشروع
ثقافي فلسطيني وطني جدي، غير أن وعي ملامح هذا المشروع مشروط بتجاوز المقاربات
السريعة والعاطفية نحو عملية تحليل صعبة وعميقة لتلك الإبداعات، وتحليلها بالمعنى
الاجتماعي والسياسي والفكري والتنظيمي بصورة منهجية تكشف لنا ركائز مقاربات كنفاني
الثقافية السياسية للواقع الفلسطيني، لنكتشف كم أن تلك الإبداعات عميقة ومركبة،
وكم هي راهنة وحيوية.
بهذا
يتحول الاحتفاء بكنفاني كمثقف ثوري مبدع إلى عملية وعي ونقد وبناء وتعميق للمشروع
الثقافي الوطني الفلسطيني المقاوم… بهذا يجري تحصين الوعي الفلسطيني بصورة علمية
راسخة بما يتجاوز الحالة العاطفية الانفعالية والتوظيف المباشر، على أهميته، نحو
فاعلية ثقافية عميقة.