د. محمد علي النجار يكتب:
استيراد الدواجن ... لماذا؟


إذا افترضنا أن مزارع الدواجن العاملة في المملكة ، لا تستطيع تأمين الكمية المطلوبة للمستهلكين ، وعاجزة عن الوفاء باحتياجات الوطن ، لماذا يتجه تفكيرنا مباشرة للاستيراد؟!.
مرات عديدة .. أمسك بقلمي وأكتب ، ثم أتوقف عن الكتابة في هذا الموضوع .. ترددت كثيرًا حتى مرت أسابيع!!
والأمر الذي شجعني أخيرًا على الكتابة ، أنه موضوع قديم يتجدد بين الحين والآخر ، فقد قررت وزارة الزراعة الشهر الماضي السماح باستيراد الدواجن المجمدة: لتلبية احتياجات السوق .. والحفاظ على المستويات الآمنة من المخزون الاستراتيجي .. ولتحقيق حالة التوازن في الأسواق ، مما أثار بعض الاستياء لدى مستثمرين في الدواجن والأعلاف ، وما أشبه اليوم بالبارحة!! ففي شهر يوليو (تموز) من عام 2012 هدد مربو الدواجن بإغلاق مزارعهم في حال استمرت الحكومة في السماح باستيراد الدواجن المجمدة!! ، ومن الغريب أننا منذ تسع سنوات بالتمام والكمال ، ونحن نراوح مكاننا ، وما نزال في نفس المربع لم نغادره!!.
لقد تم تبرير هذا القرار بأنه جاء أولاً: لتلبية احتياجات السوق المحلي من الدواجن ، وهذا يتناقض مع تصريح رسمي في شهر يناير الماضي يقول: إن الإنتاج المحلي يغطي احتياجات السوق ، بل إن هناك فائضًا في الإنتاج!!.
وأنه جاء ثانيًا: للحفاظ على المستويات الآمنة من المخزون الاستراتيجي من الدواجن ، وهذا أيضًا لا يتوافق مع رسالة من مدير عام جمعية مستثمري الدواجن والأعلاف قبل شهرين من القرار ، أي في شهر أبريل الماضي ، موجهة لوزارة الصناعة والتجارة والتموين ، يؤكد فيها الاستعداد لضخ كمية 350 طنًا من الدجاج المجمد ، إضافة إلى الكميات الاعتيادية من الدجاج الطازج ، لسد أي عجز في الأسواق. وأنه جاء ثالثًا: لتحقيق التوازن في الأسواق ، ولا أحسب أن هذا يعني غير استقرار الأسعار التي تأرجحت هبوطًا وصعودًا ، وكان يجب على الأطراف ذات العَلاقة للخروج من هذه الحالة ، تشكيل لجنة محايدة ذات مصداقية ، لتحديد التكلفة الإجمالية الحقيقية للمنتَج في ضَوْء الظروف الحالية ، وتحديد نسبة ربح مناسبة ، وتحديد السعر للمستهلك بما لا يثقل كاهله ، وبما يوفر للمستثمر هامشًا مقبولاً من الربح.
وفي حقيقة الأمر فإنني إلى الآن لم أبدأ الموضوع الذي أريد ، وهو الموضوع الذي يبدأ ويدور حول تساؤل يثيره مثل هذا القرار: فإذا افترضنا أن مزارع الدواجن العاملة في المملكة ، لا تستطيع تأمين الكمية المطلوبة للمستهلكين ، وعاجزة عن الوفاء باحتياجات الوطن ، لماذا يتجه تفكيرنا مباشرة للاستيراد؟! هل الجهات المسؤولة عاجزة عن دعم المزارع المنتجة ، ومساعدتها في تطوير نفسها ؛ من خلال توفير احتياجاتها ، وتذليل الصعاب أمامها ، بما يخدم المصلحة العامة ، تشجيعًا للصناعات الوطنية ، والمحافظة عليها ، والتوسع فيها؟ أليس بإمكانها وضع خُطط قابلة للتنفيذ تُفضي إلى تشجيع الاستثمار في هذا القطاع؟
ألا تستطيع الجهات ذات العلاقة إغراء المستثمر الأردني ، وتشجيعه على الاستثمار في هذا النشاط ، والمساهمة في مثل هذه المشاريع؟
وهل من الصعب إنشاء شركات مساهمة ذات مصداقية ، يساهم فيها المغتربون ؛ لإنتاج كميات إضافية من الدواجن والبيض؟
ليس لتأمين احتياجات المستهلكين في السوق المحلي فقط ، بل أيضًا للتصدير ؛ لما في ذلك من محافظة على إبقاء أموال الخزينة داخل الأردن ، وجلب كميات من النقد نحن بحاجة إليها من خلال التصدير للأسواق الخارجية.
إذا كنا لا نملك إلى الآن آبار النفط ، فإننا نملك ثروة العقل والإرادة والتحدي والثقة بالنفس ، هذه الثروة التي يجب أن نوظفها في المجالات المتاحة ، وهي قطاع الزراعة ، والتصنيع الغذائي ، لتنويع مصادر الدخل ، فالفائض من المنتجات الزراعية الحالية ، والمنتجات التي من المفترض توافرها من خلال الاستثمار الأمثل للأراضي الزراعية ، كمزارع حديثة نموذجية في أنحاء المملكة ، قادرة على تحريك عجلة التصنيع الغذائي في الأردن ؛ لتأمين الغذاء للطبقات الفقيرة من خلال الخضار المعلبة بأنواعها بأسعار في متناول الجميع ، وتصدير كميات من هذه المعلبات إلى الأسواق الخارجية ، وهي سلعة رائجة في أسواق دول الإقليم وغيرها.
هناك نماذج كثيرة ومتنوعة في العالم ، وأمثلة محفزة على الاستغلال الأمثل في قطاع الزراعة ، في دول تفتقر إلى مقومات الزراعة ، وأول هذه المقومات: الأراضي الصالحة للاستثمار ، فمن هذه النماذج (هونج كونغ) ذات الكثافة السكانية العالية ، والتي تُعد من أهم مراكز المال والأعمال في آسيا ، كما تشتهر بأبراجها العملاقة ، وناطحات السحاب الشاهقة ، أمّا إجمالي المساحة الصالحة للزراعة فيها فلا يتعدى أربعة آلاف وخمسمئة دونم ، مما دفعها لاستثمار أسطح البنايات والأبراج التي يبلغ إجمالي المساحة المتاحة للزراعة عليها قرابة سبعة آلاف دونم!! ، والتي ستوفر كميات من الخضار في محاولة لسد بعض احتياجات السكان ، فإذا كان الله قد منَّ علينا بهذه الأرض المباركة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، فبلغت الأراضي الصالحة للزراعة في المملكة حسب معلومات رسمية مسؤولة (خمسة وعشرين مليون دونم) قابلة للزيادة ، وإذا كان جلالة الملك قد أكد في أكثر من مناسبة ، على أولوية الاستثمار في مجال الزراعة على مستوى المملكة ، بحيث تعود هذه الاستثمارات بالنفع على أبناء الوطن ، وبما يُحقق الأمن الغذائي ... وإذا كان جلالته قد أكد على أهمية الاستفادة من العقول والأيدي الأردنية ، لمصلحة القطاع الزراعي ، والتخفيف من الفقر والبطالة ، فماذا ننتظر؟.
إننا بحاجة إلى رجال تحركهم الغيرة على الوطن ، يسارعون لوضع خطط واقعية عملية ، قابلة للتنفيذ العاجل والسريع ؛ لاستثمار الإمكانيات والطاقات ؛ لتحقيق الأمن الغذائي ، واستثمار الفرص المواتية حاليًا بسبب الظروف المحيطة ، والتي تعمل لصالح المنتجات الزراعية الأردنية ، وتساعدنا على تسويقها للخارج.
وبعد ... فإننا نتابع الاجتماعات ، ونشاهد المؤتمرات ، ونسمع القرارات ، ونقرأ التوصيات ، إلا أن المواطن العادي لا تهمه الاجتماعات ، ولا المؤتمرات ، إنما كل همه توفير احتياجاته الأساسية ، بما يتناسب مع دخله المحدود ... والعاطل عن العمل لا تهمه القرارات ، ولا التوصيات ، بل كل همه أن يجد عملاً يتناسب مع تخصصه ، في مصنع أو مزرعة ، أو غير ذلك مما توفره له الجهات ذات العلاقة ... هم جميعًا يريدون نتائج ملموسة لهذه الجهود ، تنعكس إيجابيًا على حياتهم ... وكلنا في النهاية مسؤولون عن توفير الحياة الكريمة للمواطن ، وبناء الوطن ورفعته ، والحفاظ على سلامته ومسيرته.