د. محمد علي النجار يكتب:
أزمة المياه ... إلى متى؟ (2)


إن الوضع المائي الحالي ، والأزمة المستمرة منذ سنوات ، تُحتم على المتخصصين والفنيين كل في موقعه ، المبادرة دون تكليف ، والمشاركة الفاعلة ، للبحث عن حلول واقعية وسريعة ، والتفكير خارج الصندوق ، والانتقال إلى الميدان ، والعمل الدؤوب ، بعيدًا عن التفكير التقليدي ، والعمل المكتبي.
ذكرتُ في القسم الأول من هذا المقال ، أن الحكومة أقرت بتاريخ 5/12/2009م الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه ، والأهم من ذلك ، أنه بعد إقرار واعتماد الاستراتيجية " أكدت الحكومة على ضرورة الإسراع في تنفيذها " إلا أن رحيل هذه الحكومة بتاريخ 9/12/2009م ، أي بعد أربعة أيام ، كان هو الأسرع ، ومن يومها إلى الآن .. ما الذي تحقق من هذه الاستراتيجية في هذا القطاع؟!.
لا شك أن هناك جهودًا بُذلت ، وإنجازات تحققت ، من الظلم أن نغض الطرف عنها ، إلا أن هناك من يتساءل: عن أي جهود تتحدث ، وعن أي إنجازات تتكلم؟! وهل حسن النوايا تصنع إنجازًا ، ونحن حتى هذه اللحظة ، لم نلمس تغييرًا إيجابيًا على أرض الواقع؟!.
فإذا كانت هذه الاستراتيجية القديمة لم تحقق على الأرض ما يمكن أن يلمسه المواطن ، فماذا عن الاستراتيجية الوطنية للمياه 2016-2025 التي وضعتها الحكومة في شهر ديسمير كانون الأول سنة 2015 ، ورحلت بعدها بأقل من ستة أشهر ، ثم جاءت بعدها أربع حكومات إلى الآن. والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: ما الذي تم تحقيقه من هذه الاستراتيجية الجديدة ، بعد مرور ست سنوات عليها ؟ ولم يتبق لها سوى أربع سنوات؟!.
بعد نشر القسم الأول من هذا المقال ، تواصل معي بعض الأصدقاء ، ورسموا صورة للمعاناة مع المياه ، تتلخص في جملة واحدة (نتعامل بالتنكات منذ عدة أسابيع) ... ولم ينقل لي هذه الصورة مواطن كادح فقط ، بل أيضًا مواطن بمستوى باشا ، والجيد في هذا الأمر ، تلك العدالة التي اتسمت بها أزمة الماء التي لم تفرق بين كبير وصغير ، أو بين غني وفقير. ولكن ما الذي أوصلنا إلى هذا المستوى من المعاناة؟.
قد يتبادر للذهن أن زيادة عدد السكان ؛ هي السبب الرئيس الذي أدى إلى هذه الأزمة المائية ، ففي سنة 2000م كان عدد السكان في المملكة حوالي أربعة ملايين وثمانمئة وسبعة وخمسبن ألفًا ، فيما بلغ سنة 2010م ستة ملايين وستمئة وثمانية وتسعين ألقًا ، ثم قفز إلى تسعة ملايين وخمسمئة وواحد وثلاثين ألفًا سنة 2015م ، ثم ارتفع إلى عشرة ملايين وثمانمئة وستة آلاف نسمة في عام 2020م ، في غياب مصادر جديدة للمياه ، إلا أن هناك من يقول: إن أزمة المياه ليست جديدة على الأردن وهي ليست وليدة هذه السنوات القريبة ، بل تمتد لعدة عقود مضت ، ثم إن الأردن كغيره من الدول التي يزداد عدد سكانها ، وإن كانت قد أُثقلت بأعداد إضافية من اللاجئين.
وللحق فإن مشكلة المياه تكاد تكون مشكلة عالمية ، فالأرقام الصادرة عن البنك الدولي عام 2019م تشير إلى أن 2,2 مليار من سكان العالم محرومون من خدمات مياه الشرب ، وأن 4,2 مليار من سكان العالم لا تتوافر لهم خدمات الصرف الصحي ، وأن ثلاثة مليارات منهم لا تتوافر لديهم مرافق لغسل اليدين!!. إذًا فعدد غير قليل من دول العالم ، يعاني فقرًا مائيًا ، كما أن معظم الأقطار العربية ، تعاني من أزمة مائية غير مريحة ، كمصر التي هي هِبَةُ النيل ، أو العراق بلاد الرافدين حيث دجلة والفرات ، أو سوريا ، أو اليمن ذات الأمطار الموسمية الصيفية ، أو غيرها من الدول ، فمن الطَّبَعيّ والحال كذلك ، أن نعيش في الأردن أزمة مائية ، إلا أن المأساة لا تكمن في الأزمة بقدر تفاقمها مع مرور الزمن ، حتى نبدو وكأننا مكانك سر ، أو مكانك قف ، بل في حالة رجوع للخلف ، وكأننا نرى المشكلة فلا تحركنا بفعل ، ولا بردة فعل ، وإلا لماذا تزداد الأزمة حدة في الأردن عامًا بعد عام ، ونحن دون حراك ، وكأننا متفرجون على مأساة قوم آخرين.
فكم من اللجان على مدى العقود الماضية ، وكم من الاستراتيجيات ، وكم من الدراسات ، وكم من الاتفاقيات ، وكم من التوصيات ، وكم من المشاريع المبشّرة بالخير ، وكم من الوعود والتوقعات ، وكذلك كم من الانتكاسات وخيبات الأمل ، وكم من الحركة التي لا يتولد منها إنجاز ، والأهم الآن: كم من الوقت ، وكم من السنوات الإضافية نحتاج حتى يصبح الحلم حقيقة ، والأمنيات واقعًا ملموسًا ، فيتم ضخ المياه ، لتصل بأريحية إلى كافة أرجاء المملكة؟.
إن المتابع لما يصرح به المتخصصون والمسؤولون ، يكشف عن قصور في الأداء ، فدولة ممطرة مثل الأردن لا يمكن من الناحية النظرية أن يعطش سكانها ؛ حيث يبلغ معدل حجم الهطول المطري في حدود ثمانية مليارات متر مكعب سنويًا!!. فإذا تتبعنا المعطيات التي تقول: إن الأردن يستفيد من المياه المتساقطة على خمسة في المئة فقط من مساحته ، أما ما يهطل على المساحات الباقية فإنه يتبخر ، فسترتسم أمامنا علامات التعجب والاستغراب ، مهما كان تبرير الفنيين في هذا المجال. فعلى سبيل المثال ، بلغ حجم الأمطار عام 2017 حوالي 8,2 مليار متر مكعب ، تبخر منها حوالي 7,6 مليار متر مكعب فقط!!!. وهذا الحال ينطبق على السنوات السابقة واللاحقة.
وفي تقرير نُشر بتاريخ 18/7/2018م على موقع المملكة جاء فيه ، أن الأردن يستفيد من عشرة في المئة فقط من الأمطار سنويًا ، إذ يتبخر الباقي بشكل مباشر ، وجاء في التقرير: "وكاد الأردن أن يصل إلى حد الجفاف في الموسم المطري الماضي إذ لم تصل نسبة التخزين في السدود إلى النصف ، في وقت بلغت فيه نسبة الهطل المطري حتى نهاية أبريل نحو 6,34 مليار متر مكعب بحسب الوزارة". وبالرغم من هذه المليارات من المياه التي أنعم الله بها علينا ، يقول مسؤول في التقرير ذاته: إن الأردن يحتاج إلى 200 مليون متر مكعب على الأقل ، من المخزون المائي في السدود ، لتكفي احتياجات الشرب ، وري المزروعات ، والصناعة!!.
ويبدو أنه سواء هطلت الأمطار وكان حجمها ثمانية مليارات ، أو أقل أو أكثر ، فإن إجمالي ما يجمعه الأردن منها في جميع الأحوال ، يتراوح بين 400-600 مليون متر مكعب سنويًا في السدود والبرك والحفائر ، حيث تحتجز السدود الأربعة عشر 336 مليون متر مكعب ، منها ما قدره 37,62 مليون متر مكعب للشرب ، وهو رقم متواضع بالقياس بكميات الأمطار التي تشهدها الأردن.
إن الوضع المائي الحالي ، والأزمة المستمرة منذ سنوات ، رغم الأبحاث والدراسات ، والمشاريع والتوصيات ، والتخطيط والاستراتيجيات ، التي لم توصلنا إلى ما نتمنى ، ولم تحل لنا مشاكلنا ، يحتم على المتخصصين والفنيين كل في موقعه ، المبادرة دون تكليف ، والمشاركة الفاعلة ، للبحث عن حلول واقعية وسريعة ، والتفكير خارج الصندوق ، والانتقال إلى الميدان ، والعمل الدؤوب ، بعيدًا عن التفكير التقليدي ، والعمل المكتبي ، فالوطن ليس وظيفة مكتسبة ، ولا راتبًا نتقاضاه في نهاية الشهر ، إنه إحساس بالمسؤولية ، إنه العطاء المستمر ، والإخلاص بلا حدود ، والتضحية من أجله ، إنه أكبر من ذلك بكثير ... الوطن يناديكم فمن يلبي النداء؟.