د. محمد علي النجار يكتب:
أزمة المياه ... هل من حل؟


إن مشروع الناقل الوطني لتحلية المياه الذي لم يبدأ العمل به ، لا يعني أننا قد خرجنا من عنق الزجاجة ، وأن الأزمة قد انتهت ، أو في طريقها للانتهاء ، بل يجب أن يستمر البحث دون توقف عن مصادر أخرى ، وحلول جديدة ، فالأردن المبارك لن يعدم الوسيلة للحصول على الماء ، وإيجاد حلول أصيلة ، وأخرى بديلة للأزمة المائية.
يبدو أننا استغرقنا في الحديث كثيرًا في هذا الموضوع ، تأكيدًا على أهميته ، ومحاولة للإحاطة ببعض جوانبه. إن الأزمة المائية التي نعاني منها تحتاج إلى تضافر الجهود ، بسبب قلة الخيارات المتاحة ، فقد طرق المسؤولون كل الأبواب الممكنة ، إلى أن رأينا الاستراتيجيات والدراسات منذ سنوات ، تأخذ في حساباتها (مشروع ناقل البحرين) حلاً لهذه الأزمة المائية المستعصية ، والذي كان بالفعل سيعمل على حل جانب كبير من المشكلة ، إلا أنه بعد طول انتظار ، أصبح المشروع في خبر كان ، بالرغم من وجود تلميحات في الأسبوع الماضي ، تشير إلى أن المشروع ما زال على الطاولة ، مما يعني احتمال بحثه من جديد!! ، وسواء تمَّ طرح المشروع مجددًا ، أو ظل في خبر كان ، فإنَّ علينا ألا ننتظر ، فما حك جلدك مثل ظفرك ، فتول أنت جميع أمرك ، بل علينا المبادرة بحل أزماتنا داخليًا بأيدينا قدر استطاعتنا ، وفي إطار إمكاناتنا ، فذلك خير من انتظار الحلول لأزماتنا من الخارج ، ولهذا ، وجدنا البديل الوطني بعد توقف ذلك المشروع ، حيث تحولت الأنظار إلى مشروع جديد ، هو مشروع الناقل الوطني لتحلية مياه البحر ، على شاطئ مدينة العقبة جنوب المملكة ، وهو بديلٌ جيدٌ في ظل البدائل القليلة المتاحة ، ولا شك في أن الدراسات قد استوفت المشروع من كل جوانبه ، ابتداءً من دراسة الجدوى ، وكلفة المشروع ، مرورًا بالإنتاج والضخ والنقل ، والأخذ في الاعتبار ضيق المجرى في خليج العقبة ، كممر مائي محصور ، وقصر الساحل ، وأخطار التلوث البحري ، العرضي أو المتعمد ، ووضع الحلول والبدائل في حالة حدوث بعض المفاجآت ، وانتهاءً بمواعيد دخول المشروع في الخدمة ، لتزويد السكان بمياه الشرب.
وفي الوقت الذي نثمن فيه هذه الجهود الإيجابية ، إلا أنني أعتقد أن هذا المشروع جاء متأخرًا ، بالنظر لاستفحال أزمة الماء في البلاد ، إذ من المتوقع أن يبدأ تنفيذه مطلع العام المقبل ، فيما تنتهي المرحلة الأولى منه عام 2025-2026 ليوفر 130 مليون متر مكعب من مياه الشرب ، لترتفع كمية الإنتاج إلى 250-350 مليون متر مكعب من مياه الشرب مع انتهاء المرحلة الثانية ، التي لا نعلم متى ستنتهي.
فنحن إذًا في سباق مع الأيام ، إذ وفقًا لما أفاد به المكتب الإقليمي لشرق المتوسط ، التابع لمنظمة الصحة العالمية ، فإن الأردن سوف يدخل في حالة من الفقر المائي المدقع ، بحلول عام 2025 ما لم يتخذ تدابير فعالة. وهذا يحتم علينا جميعًا ، مواصلة البحث والتنقيب عن حلول لهذه المعضلة.
إن الكلام سهل ، وإلقاء اللوم مباح ، والنقد والتجريح بكل أسف واردٌ ، وممكنٌ بأنواعه ، وحدّث ولا حرج ، وتحميل المسؤولية للآخرين تعوَّدنا عليه ، وإرضاء الناس غاية لا تدرك ؛ صحيح إنَّ هناك بعض التقصير ، إلا أنه في ظل الظروف الصعبة المحيطة بنا ، والبدائل القليلة المتاحة ، ما كان بالإمكان أفضل مما كان ، ولكن من حق المرء أن يشعر بالضيق مشوبًا بالعتب ، عندما يتذكر أن الأردن قدوة علمية للآخرين ، فهو غنيٌ بطاقاته العلمية المتميزة ، من الخبراء ، والاستشاريين ، ومن الفنيين ، والمبدعين ، ومن أساتذة الجامعات ، وطلبتها النابغين ، ومع ذلك لا نقع على بحث أو مشروع ابتكاري إبداعي في هذا المجال ، أو دراسات وخطط طموحة ؛ لاستثمار هذه الكميات من الأمطار التي تهطل سنويًا على المملكة ، علمًا بأن الوضع المائي في الأردن ، كان يجب أن يلفت انتباههم إلى أهمية هذا الأمر ، ويدفعهم لاقتحام هذا القطاع بالدرس ، والبحث ، والتجريب ؛ فقبل أيام قليلة ، تمت الموافقة على تمويل 27 مشروعًا بحثيًا و 4 مشاريع ابتكارية ، بقيمة (1.429.739) دينار ، وهذه الأبحاث والمشاريع ، لا تُعد تَرَفًا علميًا بقدر ما هي حاجة ملحة ؛ لإيجاد حلول لبعض مشكلات المجتمع ، وعند استعراض عناوين هذه الأبحاث ، لم نجد منها بكل أسف رغم أهميتها اهتمامًا بأزمة المياه ، باستثناء بحث واحد ، لامَسَ الموضوعَ من بعيد ، حيث يدور حول تجارب محاكاة المناخ وهطول الأمطار. فأين الأساتذة والعلماء في وطني عن هذه الأزمة ، وهم الذين بمشاركاتهم القيّمة في دراساتهم وأبحاثهم العملية التطبيقية ، يتطور الوطن ويرتقي ، وأين الأساتذة من توجيه طلبتهم لتناول الأزمة من خلال أبحاث التخرج ، التي لا نريدها أبحاثًا وصفية للواقع ، بل نريدها خروجًا منه ، لعل عقولاً مبدعة من بينها ، تُخرجنا من هذه الأزمة المستوطنة.
ثإن مشروع الناقل الوطني لتحلية المياه الذي لم يبدأ العمل به ، لا يعني أننا قد خرجنا من عنق الزجاجة ، وأن الأزمة انتهت ، أو في طريقها للانتهاء ، بل يجب أن يستمر البحث دون توقف عن مصادر أخرى ، وحلول جديدة ، قبل ، وأثناء العمل في المشروع ، وبعد الانتهاء منه ، فالأردن المبارك لن يعدم الوسيلة للحصول على الماء ، وإيجاد حلول أصيلة ، وأخرى بديلة للأزمة المائية ، فضمن تقريرٍ صدر عن لجنةِ القانونِ الدولي ، حول دراسةٍ للموارد الطبيعية المشتركة ، جاء فيه أن المياه الجوفية توجد داخل مجموعات من شبكات مستودعات المياه في كل مكان من القشرة الأرضية.
ولا شك في أن الأردن لا يخلو من هذه المستودعات ؛ المتجددة منها وغير المتجددة ، والتي يجب على الأردن استثمارها ، فقد تم تحديد ثلاثة عشر حوضًا للمياه الجوفية ، منها ما هو مشترك مع كل من السعودية ، وسوريا الشقيقتين ، إضافة إلى حوض وادي عربة ، وهي المستودعات المائية التي يجب دراسة الحركة المائية فيها ، والاستفادة من الدراسات والأبحاث التي جرت في دول أخرى ، وطُبقت في حالات مماثلة ، لاستثمارها ، واستخدام مياهها للشرب بعد معالجتها ، مع الإشارة إلى أهمية الاستفادة من مستودع المياه الجوفية في وادي رم ، الذي يُشار إلى أنه يحتوي على كميات ضخمة من المياه العذبة ، ذات الجودة العالية.
لا نريد أن نخوض في قضايا فنية لها أصحابها من المتخصصين ، الذين هم أدرى وأعلم بتفاصيلها وجزئياتها ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، فنحن أمام مشكلة مائية لا يمكن أن نغمض العيون أمامها ، وبالتالي نحن مطالبون وفي أقصر وقت ، باتخاذ إجراءات إسعافية عاجلة للأمر ، منها صيانة شبكات المياه ، ومعالجة الفاقد من مياه الشرب ، الذي تبلغ نسبته في بعض الحالات خمسين بالمئة ، وهي كمية لا يستهان بها.
وليس ببعيد من ذلك الاعتداءات الجائرة على خطوط المياه ، حيث تم قبل أيام قليلة ، ضبط اعتداءات على خطوط رئيسة ، بهدف تزويد عقارات ، ومزارع ومسابح بالماء بطرق غير شرعية ، وفي الوقت الذي نقول فيه: إن من حق هؤلاء الحصول على الماء لتلبية احتياجاتهم ، إلا أن الاستيلاء عليه ، بعيدًا عن الطرق القانونية ، لا يمكن أن يكون مقبولاً ، فهو نهبٌ لمقدرات الوطن ، واستيلاءٌ على حقوق المواطنين ، وسلوكٌ مشجعٌ للإسراف ، والهدر والتبذير ، كونه أُخذ بغير حساب أو محاسبة ، في وقت يظل العطشى الذين لا يجدون الماء أحق بهذه الكميات المهدورة.
وهذه هي واقعة من عشرات الاعتداءات التي تمت وكُشف عنها ، أو تلك التي لم يتم اكتشافها حتى الآن ، وما زال أصحابها يسطون على مقدرات الوطن ، ويهدرون ثروته المائية دون رادع من ضمير.
لا شك أن يدًا واحدة لا تصفق ، وأنَّ على المواطن أن يتعرف أبعاد المشكلة ، ليشعر بالمسؤولية تجاهها ، ويشارك في حلها ، من خلال ترشيد الاستهلاك من الماء ، ففي إحصائيات عام 2015 كان عدد الأسر في المملكة 1.953.194 أسرة ، ولا أعتقد أن عددها الآن يقل عن مليونين ، فلو أن كل أسرة بدأت بالاستخدام الرشيد للماء ، لكان بوسعها أن توفر ما لا يقل عن 20 لترًا كحد أدنى يوميًا ، أي ما يقارب 15.000.000 متر مكعب من مياه الشرب سنويًا ، إن لم يكن أكثر ، ومن هنا نرى أهمية إشراك المواطنين في التخفيف من أعباء الأزمة ، وأعتقد أن وسائل الإعلام مقصرةٌ في هذا الجانب التوعوي ، تمامًا كتقصيرها - وإصابات كورونا تزداد- بتوعيتهم بأهمية استخدام الكمامات ، وبقية الإجراءات الوقائية المتبعة لحماية المجتمع.
إن الحلول متعددة ومتشعبة ، يتقاسمها الجانب الرسمي مع الجانب الشعبي ، ما بين اهتمام بالسدود المقامة ، وصيانتها ، وإزالة الترسبات والمخلفات منها ، وتأهيلها لتخزين المزيد من الحصاد المائي شتاءً ، إلى بناء سدود جديدة بأحجام مناسبة ، في أماكن السيول ، وجريان المياه وتجمعها ، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية مناطق الأغوار بهذا الخصوص ، إضافة إلى ضرورة تحويل الزراعة التقليدية القديمة (الغمر) الذي يؤدي إلى ضياع قسم غير قليل من الماء من خلال التسرب والتبخر ، إلى الري بالتنقيط. فيما تتمثل مساهمة الجمهور بهذا الشأن بتقنين استخدام المياه حسب الحاجة الفعلية ، وإعادة تدوير استخدام المياه ، وتفعيل استخدام الآبار ، أو خزانات الماء الأرضية في البيوت ، لتجميع الأمطار المتساقطة على الأسطح ، واستخدامها في ري المزروعات المنزلية ، وتنظيف الأرصفة ، والأدراج وغيرها من الاستخدامات ، مما يقلل الضغط على الشبكة ، ويوفر الكثير من مياه الشرب.
وأخيرًا ، فإن أزمة المياة مشكلة يعاني منها الجميع ، وعلى كل فرد في هذا المجتمع ، ألا يقف عاجزًا متفرجًا ، أو منتقدًا متذمرًا ، بل عليه أن يشارك بفاعلية في إيجاد الحلول ، كل حسب موقعه وطاقته ، فإذا صدقت الجهود ، وعلى حب الوطن الْتَفَّت القلوب ، والتقت الأيدي ، والسواعد والزنود ، وباشرت الأدمغة والعقول إبداعاتها ، وحقق كل واحد منا معنى الانتماء والإخلاص لهذا الوطن ، فاستبشروا خيرًا ، فإن السفينة في طريقها إلى بر الأمان.