د. محمد علي النجار يكتب:
البسطات العشوائية ... مكانك سر!!


إذا استمر الوضعُ على حاله ؛ ما بين تفتيشٍ ومصادرة ، فإنَّ في ذلك إهدارًا للوقت والجهد ؛ لأنَّ هذا يعني أننا سنظل ندور في حَلْقة مفرغة ، ولن نغادر المربع الأول ، وإن غادرناه سنعود إليه بعد وقت قصير.
هي ظاهرة مزمنة ليست بالجديدة على العاصمة عمّان ، بل عمرها يمتد عبر عقود من الزمن ؛ فما زلت أذكر ــ وأنا طالب قبل أكثر من خمس وأربعين سنة ــ تلك البسطات ، أثناء توجهي للجامعة صباحًا ، مارًا بوسط البلد ، وازدياد أعدادها عند عودتي مساءً ، مارًا بذات الطريق. إذًا هي ظاهرة قديمة متوارثة جيلاً بعد جيل ، بل هي ظاهرة ليست حكرًا على الأردن ، إذ لا تكاد تخلو منها عاصمة ، أو مدينة ، في ما يُعرف بالدول النامية ، أو دول العالم الثالث ، مع اختلاف في أسلوب المعالجة والتنظيم!!.
وإذا أردنا أن نعرض للواقع في عمّان ، فإن هذه البسطات تنتشر بشكل عشوائي على امتداد مساحات العاصمة ، وتزداد انتشارًا مع مرور الأيام ، بحيث لا تكاد تخلو منها منطقة أو شارع عام ، أو مكان يشهد حركة ، أو تجمعًا ، كمسجد أو دائرة أو (بنك) ، إذ تتربع هذه البسطات فوق الأرصفة على حساب المارة ، أو تحتل شريطًا من الطريق على حساب انسياب حركة السيارات ، ومن المؤكد أن الجميع يلحظ هذه الظاهرة ويراها ، وإن لم يرها فسيصطدم بها!!.
ومما يزيد الطين بلة ، ما شاهدناه أثناء الحملات التفتيشية المشتركة ، حيث نافست محلات تجارية هذه البسطات في الاستيلاء على الأرصفة ، وجعلتها جزءًا من محلاتها ، ورأينا محلات بيع الخضار التي لم تكتف بأن تحتل الأرصفة ، بل تجاوزتها بالاعتداء على الطريق ، تاركة فيها ممرات ، لا تكاد تتسع لمرور شخصين ، مما أعاق حركة المتسوقين والمارة ، فجعلهم يتكدسون على شكل طابور في وقت نعاني فيه من وباء كورونا ، وننادي بالتباعد الاجتماعي ، وهذا يُعد اعتداءً صارخًا على حقوق المواطنين.
إذًا والحال كذلك ، لا يلوم أحدٌ الجهات المسؤولة ، عندما تقوم بتطبيق النظام والقانون ؛ فالبسطات ليست قانونية ، وأصحابها لا يلتزمون بالنظام ، فهي تشوه المكان ، وتزعج المارة ، وتعيق المرور ، وتزيد الزحام ، وتنافس المحلات التجارية منافسة غير عادلة ، بأسعارها وزبائنها وأرباحها ، حتى ضاق كثيرون ذرعًا بهذه العشوائية فوق الأرصفة ، وعلى جوانب الطرقات ، وعبروا عن عدم الرضا في كثير من الأحيان ، وتمنوا على الجهات المسؤولة ، إعادة الأمور إلى نصابها.
قلنا: إن الظاهرة قديمة ، ولا شك أن محاولات علاجها بدأت عندما تنبه المسؤولون لسلبياتها ، ثم واكبتها هذه المحاولات ، على مدار العقود الماضية ، إلا أن الفارق هنا ، أنه لم تكن لدي العامة في ذلك الوقت من وسائل التواصل الاجتماعي ، ما هو موجود الآن بين أيدي الجميع ؛ الصغير قبل الكبير ، والفقير قبل الغني ، والأمي قبل المتعلم ، والمتعطل قبل الموظف ، مما جعل كل حركة تحت المجهر، ولم يعد من السهل إخفاء ما يدور على الساحة ، فالهواتف النقالة جاهزة للتصوير والنشر ، والتعميم والمشاركة ، دون ضابط أو رقيب ، وهنا تكمن مشكلة الحملات التفتيشية ، التي لن تخلو من سلوكيات قد يتم تضخيمها ، هذه الحملات التي تمخضت عن كثير من المقاطع المصورة ، بكل ما فيها من إيجابيات أو سلبيات ، انتشرت كالنار في الهشيم ، فأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالنقد والتعليق.
وما دامت هذه البسطات العشوائية منتشرة في أنحاء العاصمة ، فكان لا بد أن نرى تلك الحملات المشتركة في مناطق العاصمة دون استثناء ؛ من خربة السوق إلى الوحدات ، فجبل النصر ووادي الرمم ، فالمحطة وماركا ، مرورًا بسقف السيل ووسط البلد وغيرها من الأماكن ، وشاهدنا مصادرة أقفاص الحمام والعصافير ، والملابس والأحذية ، والخضار والفواكه ، وعبوات مسحوق الغسيل ، وغيرها من الأصناف ، وبات الموقف وكأننا في حالات كر وفر ، مع أناس غرباء عن هذا الوطن ، فيما بدت بعض التصريحات المصاحبة مؤلمة ، عندما يشير أحد المسؤولين (الرأي، الأربعاء 28/4/2021) إلى أنه يتم يوميًا إزالة ما يقارب (130) بسطة ، مؤكدًا أن المواد الغذائية التي يتم ضبطها ، يتم إتلافها على الفور ، من قبل لجنة متخصصة لذلك!!.
ومن هنا كانت النتيجة تصرفات جرحت مشاعر المواطنين ، مما استدعى الاعتذار عن بعض هذه السلوكيات ، في وقت كان من الممكن لو أحسنا التصرف ، أن نعفي أنفسنا من هذه الاعتذارات ، سواء عن الطريقة التي تمت بها مصادرة الطيور ، أو الاعتذار عن استخدام جرافة لإزالة عريشة البطيخ ، التي لا تعيق حركة المارة ، ولا السيارات ، وكذلك تعويض الشخص الذي ألقى بنفسه أمام سيارة الأمانة بعد أخذ بسطته ، ولا الاعتذار ــ قبلها بشهورــ لصاحب كشك الثقافة العربية الذي صودرت بعض كتبه ، ثم تم إرجاعها ، ولا قبلها بسنوات لأم رامز التي صودرت عربتها بما عليها من بيض وزعتر وكعك!!. وغيرها من المواقف الصعبة ... ناهيك عن الحسرة التي تملأ قلوب الكثيرين ، ممن صودرت منهم بسطاتهم ، أي رؤوس أموالهم ، ومصادر أرزاقهم.
ففي الوقت الذي تُشكر فيه الجهات المسؤولة على تطبيقها للنظام ، وإنفاذ القانون من خلال الجولات التفتيشية المشتركة ، في الأسواق والمطاعم ، والمخابز والشوارع والطرقات والمحلات ، وهي بذلك في الواقع تقوم بعملها ، وتطبق الأنظمة والقوانين المعمول بها ، والمنظمة لمثل هذه الحالات ، ولكن يبدو أنها لم تأخذ في الاعتبار التخفيف من وطأة هذه الحملات ، للتخفيف من وقعها على الناس ، ولم تأخذ في الاعتبار المعاناة التي يعيشها المواطن بسبب الإغلاقات ، وأزمة كورونا ، ولم تأخذ في الاعتبار ، أن هذا البائع أو ذاك ، يستحق التقدير والاحترام ؛ لأنه يسعى على رزقه بالسبل المتاحة ، بدلاً من الوقوف على الإشارات الضوئية ، أو مد يده بسبب الفقر والجوع والحاجة ، أو اللجوء إلى طرق غير مشروعة للكسب.
لم يفكر مَن أَمَرَ ، أو من نفذ المصادرة ، لم يفكر في أن لكل واحد من الباعة قصة محزنة: أحدهم رجل خمسيني ، يعاني من الضغط والسكر ، يصرف على ابنه الوحيد الذي يدرس في الجامعة ، ويعالج ابنته المريضة ، اضطر أن يتنازل عن شيء من كرامته ، واستدان مبلغًا من أحد أقاربه ، ليشتري به بضاعة هي عبارة عن صحون ، وأكواب ماء وشاي ، وفناجين وغيرها ، ليبيعها ، ويستطيع إعادة جزء من دينه لقريبه ، ودفع أجرة بيته ، والإنفاق على أسرته ، وكانت النتيجة خسارة بسطته التي هي رأس ماله الذي استدانه ، فتبخرت أحلامه ، وتراكمت ديونه ، فلم يستطع مغالبة دموعه ، وما أصعب دمعة يأس وإحباط تنساب من عين رجل خمسيني!!.. هذه حالة واحدة ، وعلينا أن نتصور ونتخيل ونقيس عليها معظم الحالات الأخرى ، فهل فكرنا بالآلام التي سببناها لعدد كبير من مواطنينا الذين انقطعت بهم سبل العيش ، فخرجوا يرتزقون ، وأعتقد أننا في غنى عن سرد قصة ملك فرنسا وابنته والجاتو التي يعرفها الجميع .. فإذا كنا نأكل ونشرب ، ونلبس وننفق ، فليس معنى هذا ألا نشعر بعذابات الآخرين.
المشكلة... وأعني البيع العشوائي ، لا تحلها الحملات التفتيشية ، لا الفردية ولا المشتركة ، فمنذ سنوات وهذه الحملات تصادر ، وتخالف ، وتنذر ، وفي اليوم التالي تعود البسطات إلى مكانها!!. ثم كم نحتاج من الموظفين لتنظيم حملات تفتيش تغطي جميع مناطق العاصمة ، وكم من الوقت يلزمنا لتنفيذ ذلك؟!! .... إذا استمر الوضع على حاله ؛ ما بين تفتيش ومصادرة ، فإن في ذلك إهدارًا للوقت والجهد ، لأن هذا يعني أننا سنظل ندور في حلقة مفرغة ، ولن نغادر المربع الأول ، وإن غادرناه سنعود إليه بعد وقت قصير.
المشكلة قائمة منذ سنوات ، ولهذا تم عام 2012 استحداث (دائرة البيع العشوائي) في محاولة لمعالجة ظاهرة البسطات والقضاء عليها ، ومن يومها ، وبعد قرابة عشر سنوات لم يتم القضاء على هذه الظاهرة ، وكذلك ما تم من إعادة هيكلة الدائرة التي أعلن عنها في شهر مايو الماضي لن يحل المشكلة ، ولن يقضي عليها ، كما أن الأسواق الثلاثة الموجودة حاليًا ، ومعها الأسواق الثلاثة المزمع إنشاؤها لن تحل المشكلة ، فهذه الأسواق في واد ، ومشكلة البسطات في واد آخر ، أما قطع الأرض الست عشرة التي قيل إنه سيتم تخصيصها لأصحاب البسطات ، فإنها أيضًا غير قادرة على حل المشكلة ، هذا إن تم تنفيذ ذلك بالفعل ، ولكن ربما تخفف من حدتها.
إن البسطات التي نراها هي وليدة مكانها ، ومن الصعب نقلها إلى أسواق في أماكن أخرى قد لا تلبي طموحات البائعين ، ولا رغبات المستهلكين ، الموضوع يحتاج إلى نظرة واقعية ، وجهود صادقة ، ودراسة معمقة ، وتخطيط سليم ، تبدأ بمسح الأماكن التي تتواجد فيها هذه البسطات ، والأماكن القريبة منها ، وقتها سنجد أن هناك أماكن ميتة ، قليلة الحركة ، أكثر اتساعًا ، قريبة من المكان ، وفي الشارع ذاته ، يمكن نقل البسطات إليها ، لإحياء المكان وتنظيمه ، بعيدًا عن الفوضى والاعتداء على الأرصفة والطريق ، ويمكن لأمانة العاصمة منح المستحقين منهم تراخيص مؤقتة ، وتحصيل رسوم رمزية ، وأن تُلزم أصحاب البسطات بشروطها التي تحفظ النظام والصحة العامة.
في أمانة العاصمة ، وغيرها من الجهات ذات العلاقة من العقول التي لن تعجز عن وضع الحلول الواقعية المتوازنة ، لإغلاق هذا الملف والتفرغ لملفات أخرى ، بعيدًا عن المسكنات ، أو الحلول المؤقتة ، التي تضع الملفات في الأدراج ، بانتظار أن يعالجها الجيل القادم من المسؤولين ، نحن بحاجة إلى أفكار ناضجة ، وقرارات مسؤولة ، تحفظ حقوق الجميع ، فأمانة العاصمة من حقها القيام بمسؤولياتها ، وفرض النظام وتطبيق القانون ، والمواطنون الذين أُغلقت في وجوههم الأبواب مضطرون للعمل ، وليس أمامهم إلا السعي ، وبشتى الطرق ، ومنها هذه البسطات .. إذًا نحن في حالة لا بد فيها من استحضار المعادلة التراثية التي تقول: (لا تفنى الغنم ولا يموت الذيب)!!.