الدكتور محمد علي النجار يكتب :
في أوكرانيا القتل والدمار ... وهنا الغلاء وجشع التجار


ثلاثة شهور مرت على الحرب الروسية الأوكرانية ، دون أن تبدو في الأفق أي بوادر لانتهاء هذا الصراع .. ولا أحسب أنه سيتوقف في المستقبل المنظور ، بسبب تأخر الحسم العسكري الروسي ، وهو أمر غير مقلق للقيادة الروسية ، فهي ليست في عجلة من أمرها ؛ فالعقيدة العسكرية الروسية قد تتطلب ذلك ، وإن كان من أسباب استمرار هذه الحرب ، عدم تحقيق روسيا لجميع أهدافها ، بسبب الدعم الغربي السخي ، والسريع ، والمباشر لأوكرانيا ، عسكريًّا وماديًّا ، وإعلاميًّا ، والعقوبات المفروضة على روسيا ، في مقابل العناد الروسي ، وإصرار موسكو على تحقيق الأهداف التي أعلنتها لهذه العملية ، إذ من الصعب أن تقبل روسيا بخسارتها في هذه الحرب ، لذا فإنها تسعى بكل الوسائل ، للانتصار في حربها مهما كان الثمن ، وهي تعلم تمامًا أن حربها ليست ضد أوكرانيا ، بل هي حرب مع الغرب وعلى رأسه أمريكا ، الذي يرى أن من مصلحته إطالة أمد الحرب ، في محاولة لإنهاك روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا.
إذًا فالحرب ما تزال في بدايتها ، والآثار الاقتصادية الحقيقية لم تظهر ، ولم تُطل برأسها بعد ، فماذا عسى الدول والحكومات في عالمنا العربي ، أن تفعل لشعوبها أمام الأزمة الاقتصادية ، أو قل الأزمة الغذائية ، لو طال أمد الحرب لشهور أطول؟!.
في الأردن ... توحي الأمور بنوع من الاستقرار المؤقت والحذر ، بسبب وعي المسؤولين في ظل وجود مخزون استراتيجي مُطَمْئن إلى حد ما ، بالنظر إلى دول أخرى في الإقليم ، رغم وضع الأردن الاقتصادي المتواضع ، وافتقاره إلى السيولة ، بالقياس بدول أخرى تمتلك فائضًا في ميزانياتها.
ولكن بالرغم من ذلك ، فإن هناك مشكلة يبدو أنها تؤرق المواطن الأردني ، تتمثل في الغلاء غير المبرر ، وارتفاع الأسعار لبعض ، أو معظم السلع والمواد الغذائية ؛ فما أن دقت طبول الحرب في أوكرانيا ، حتى انفتحت شهية بعض التجار ، الذين يتقنون فنون اللعبة ، لتضخيم ثرواتهم على حساب حاجة المواطن ، والمتاجرة بمعاناته ، وآلامه ، وفقره .. هذه الفئة من الهوامير والحيتان البشرية ، التي لا تشعر بمعاناة الفقراء ، وربما لا يتخيلون وجود طبقة واسعة من الناس لا تملك قوت يومها .. وهم لا يعلمون مدى خطورة جشعهم ، واحتكارهم للسلع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احتكر حكرة يريد أن يُغلي بها على المسلمين فهو خاطئ ، وقد برئت منه ذمة الله" فأي عقاب عند الله ينتظر هؤلاء التجار الجشعين!!.
وهنا اسمحوا لي أن أقف احترامًا وتقديرًا ، للقائمين على المؤسسة الاستهلاكية المدنية ، التي كشفت جشع بعض تجارنا ، إذ لم ترفع المؤسسة أسعارها ، وبقيت الأسعار القديمة على ما كانت عليه ... كم نتمنى أن تكون المؤسسة الاستهلاكية المدنية ، قدوة لبعض تجارنا ، الذين يجب عليهم أن يخجلوا ، وهم يستمعون لمديرها وهو يصرح ، بأنه لن تكون هناك زيادات في الأسعار خلال الأشهر القليلة المقبلة ، وبخاصة على المواد الأساسية ؛ كالسكر ، والأرز ، والزيوت النباتية ، وحليب البودرة ؛ لوجودها في مخازن المؤسسة. إنه شعور بالمسؤولية يستحق منا جميعًا التحية والتقدير.
من الطَّبَعيّ أن ترتفع أسعار هذه السلع مستقبلاً ، مع ارتفاع قيمة الفاتورة على المؤسسة ، وهذا أمر بَدَهيٌّ ومنطقي ، وبالرغم من ذلك أوضح مدير المؤسسة ، أن الارتفاعات في أسعار المؤسسة سيكون ما بين 5-10% ، وسيكون أقل من الارتفاعات العالمية ... سلوك مشرف .. وإحساس بالمسؤولية ، وخدمة للوطن والمواطن.
نعم .. ليس غريبًا أن ترتفع الأسعار في ظروف الحروب ، خاصة وأن منطقة الحرب الحالية ، تُعد المزود الرئيس للعالم من القمح والشعير والزيوت ، وبعض المواد الغذائية ، إلا أن الملاحظ أن بعض تجارنا ، كانوا السباقين في هذا المضمار ..
وبادروا برفع الأسعار دون وجه حق ، صحيح أن الأردن يستورد كافة احتياجاته من القمح والشعير من الخارج ، إلا أنه لا يعتمد على أوكرانيا ، ولا على روسيا في هذا الأمر ، إذ إننا في الأردن نستورد احتياجاتنا بالدرجة الأولى من رومانيا ، ولكن الملاحظة التي يجب الإشارة إليها ، أن تجارنا رفعوا أسعارهم في وقت مبكر ، قبل أن تتأثر الأسعار ، وترتفع عالميًا ، وقبل أن يستوردوا بضائعهم بالأسعار الجديدة !!
وهذا ما يجعل المرء يشعر بالنفور من هذا السلوك الأناني ، والجشع على حساب فقراء الوطن ، خاصة وأن من بين السلع التي ارتفعت أسعارها ، الزيت والسكر ..
وغيرها من السلع الأساسية ، التي تملأ مخازن التجار الكبار ، ولم تتأثر فاتورتهم بعد بجديد الأسعار.
وهنا لا يُلام صغار التجار ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، فهم مجبرون على الشراء بالأسعار التي يفرضها المستورد ، وعليهم أن يبيعوا للمستهلك ، بالسعر الذي يفرضه المستورد على المواطن ، بل على الوطن ، ومن هنا كان لا بد للوطن ممثَّلاً بالجهات ذات العلاقة ، أن تحمي المواطن ، باتخاذ خطوات ملموسة مع كبار التجار ، مهما كان الجدار الذي يستندون إليه ؛ لأن هذا السلوك له علاقة بالمواطن والوطن ، وأمنه ، واستقراره ...
كان على المسؤولين كلٌّ في موقعه ، أن يتخذوا الإجراءات اللازمة والصارمة ، لحفظ حقوق أبناء الوطن ، الذين أنهكتهم كورونا وشقيقاتها ...
وعلى المسؤولين أن يتذكروا إنْ كان أبناؤهم يجدون المأكل والملبس ، ولا يشعرون بالمعاناة مع ارتفاع تكاليف المعيشة ، لتوافر السيولة في أيدي آبائهم ، فإن هناك آلاف الأسر التي لا تجد ما يسد رمقها ، وأن كثيرًا ممن يعيلونها يقبعون في بيوتهم المستأجرة ، بعد أن سُدَّت في وجوههم السبل ، فلا وظيفة ولا عمل ...
وعليهم أن يتذكروا ، أنه إن كان أبناء بعض كبار الموظفين إذا لم يجدوا الخبز أكلوا (الجاتوه) فإن أبناء الفقراء ، أمنية أحدهم أن يظفر برغيف خبزٍ يأكله ...ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ما كان ينبغي للجهات المسؤولة ، أن تترك التجار ينفردون بالمواطن الفقير ، الذي لم يلتقط أنفاسه بعد من هجمة كورونا ، التي التهمت الأخضر واليابس ، ثم ارتفاع الأسعار بسبب ارتفاع أجور الشحن ، وبعدها ارتفاع الأسعار مع حلول شهر رمضان ، إلى أن جاء ارتفاع الأسعار مبكرًا بحجة الحرب في أوكرانيا ، التي كان لها كل هذا التأثير ، فماذا نحن فاعلون لو اختلطت الأوراق بشكل أكبر في الشهور المقبلة .. ماذا عسانا أن نفعل؟!.
نعم .. ماذا عسانا أن نفعل ، لو فتحت الحرب الأوكرانية شهوة الصين فابتلعت تايوان ...
واستغلت تل أبيب انشغال العالم ، وضربت المفاعل النووي الإيراني ، واختلط الحابل بالنابل ، وتقطعت بالدول والشعوب السبل والأسباب!!
فلا إمدادات ، ولا واردات ، ولا غذاء ، وارتفعت بشكل جنوني الأسعار!!
ماذا سيفعل تجارنا ، بل ماذا ستفعل حكوماتنا؟.
إن ما يجري في عالم اليوم ، يجب أن ينبه الغافلين إلى ضرورة التفكير الجاد خارج الصندوق ، والتوقف عن الحجج الواهية ، وإلقائها خلف ظهورنا ، والعمل بما لدينا من إمكانات ، واستثمار المتاح ، واستلهام تجربة المغفور له وصفي التل رحمه الله ، عندما توسع في زراعة الشعير ، فما علينا إلا أن تكون لدينا الإرادة ذاتها ، للتوسع في الزراعة البعلية والمروية ، واستثمارها في الصناعات الغذائية ، والتعليب ، وتأسيس مشاريع علمية لتربية الأسماك ، وتسويقها محليًا وخارجيًا.
إذا أردنا ...
فلن تعجزنا الوسائل ؛ لا ضيق الحال ..
ولا صعوبة الواقع ، إنما هو الإحساس بالمسؤولية تجاه وطننا ومواطنينا ، والخروج من حالة الاستسلام للواقع ..
والجلوس بانتظار الحلول الجاهزة التي يطول انتظارها ولن تأتي .. "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهم".
حفظ الله الأردن ؛ أرضًا طيبة مباركة ، وشعبًا مخلصًا معطاء ، وقيادة هاشمية رشيدة.