الغُمُوضُ في الشِّعْر العربي الحديث 1/2


د. محمد علي النجار
قضية الغموض في الشعر العربي ليست وليدة العصر الحاضر ، فقد لازم الغموضُ الشعرَ منذ زمن طويل ، فوجدناه في شعر المبدعين بحيث يمكننا القول : إن الغموض صفة تلازم الإبداع الفني الأصيل ، لذا رأينا الغموض في الشعر العربي القديم يبرز بصورة جلية مع أبي تمام والمتنبي ، وهذا يقودنا إلى عبارة أبي تمام المشهورة عندما سُئل لماذا لا تقول ما يفهم ؟ فأجاب : لماذا لا تفهمون ما يقال؟ إلا أن هذا القول يجب ألا يفتح الباب على مصراعيه للشعراء الجدد ، ليتخذوه حجة على غموضهم غير المبرر غالبًا.
فالغموض عند أبي تمام والمتنبي ، كان جزئيًا ومحدودًا ، ولم يرد إلا في أبيات محددة ، وأيًا كان الأمر ، فإن قضية الغموض في الشعر الحديث قد أخذت أبعادًا تدفعنا للبحث فيها ، وتعرّف أسبابها ، ولعل هذا الغموض ناتج عن أمور ، أو يكمن في عدة جوانب من أهمها :
البعد الدلالي:
ونعني به : اللفظة ، والاستعارة ، وإهمال حروف الربط (كحروف العطف) ، والمقاطع الشعرية .
والبعد الدلالي سيان في النثر والشعر ، إلا أنه في الشعر مختلف عنه في النثر ، ففي النثر يأتي البعد الدلالي كما هو متعارف عليه ، وتأتي اللفظة في سياقها لتدل على المعنى الذي وضعت له ، أما الشعر فإنه يحطم هذا النمط الدلالي المتعارف عليه ؛ لأنه يعتمد على النظم.
وتلعب الاستعارة دورًا رئيسًا في بروز الغموض في الشعر ، وإذا كانت الاستعارة ليست بجديدة على الشعر قديمه وحديثه ، إلا أنها ازدادت في الشعر المعاصر ، وبخاصة عند الشعراء الرومانسيين . وعندما نذكر الاستعارة في هذا المجال ، فذلك لأن الاستعارة تعني انتقال المعنى من المعنى الأول الأصلي إلى معنى آخر ، مما يعني اختلاف دلالة الكلمة بين الأصل والمعنى الجديد ، ناهيك عن ضياع المدلول ككل إذا انعدم ما بينهما من علاقة ، وبخاصة في الصورة الشعرية ، لتبدو هذه الصورة غامضة ، وهذا كثير في الشعر المعاصر ، الذي يبتعد بالكلمة عن مدلولها من خلال الصورة ؛ فالكلمة المفردة يتحدد معناها حسب السياق من خلال موقعها في الجملة ، ولما كانت الاستعارة سببًا في تغيير وتبديل السياق والمعنى ، فإن ذلك يعني مزيدًا من الغموض ، فالقصيدة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية الصغيرة المترابطة التي تشكل في النهاية القصيدة ذاتها ، لذا نجدهم يقولون: إن القصيدة المعاصرة استعارة كبرى ، أو واسعة ، يكبر معها الغموض ويتسع. ومن أمثلة هذه الصورة قول الشاعر :
( بيوتك ترحل من ذكرياتي ).
فالمعروف أن البيت بناء يأوي إليه الإنسان ، والفعل يرحل إنما يخصص للكائن الحي الذي يرحل ويظعن ويستقر ، والشاعر هنا جعل الفعل ترحل متعلقا بالبيوت ، فجاء ارتباط البيوت بالرحيل ، ارتباطًا غير مألوف ؛ لأن الشاعر ربط بين جماد وفعل حركي ، فخالف بذلك اللغة العادية ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل أضاف إليه مزيدًا من الغموض والغرابة ، عندما جعل البيوت ترحل من الذكريات !! فالذكريات مساحة تُختزن فيها ذكرياتُ الإنسان ، وأحداثٌ لها مبررات التخزين ، وليست ساحة تقام فيها البيوت وترحل !! فالذكريات انطباع مطبوع ومحفور في الذاكرة.
إذًا فرحيل البيوت غير مألوف ، ورحيلها من الذاكرة لا علاقة له بالمعنى القريب للغة ، وهو أمر غير مألوف أيضًا.
ويمكن أن تقول هنا: إن الشاعر لا يطلب من القارئ فهمًا فوريًّا للمعنى في شعره ، فهو يريد خلق نوع من الإيحاء لدى القارئ ، لينقله إلى تجربته الشعرية ، ويشاركه فيها ، ووسيلته في ذلك إعادة صياغة الأشياء على غير ما هي عليه في الواقع ، وذلك من خلال اللغة التي يحاول تحطيمها ، ليصنع منها لغة جديدة تخدمه في نقل عالمه الداخلي الخاص إلى الآخرين ..
ومن أسباب الغموض ، عدم مراعاة نظم الربط بين أجزاء القصيدة بإهمال حروف العطف وغيرها من وسائل الربط في اللغة ، وهذا بالطبع خروج على قوانين اللغة المتعارف عليها ، مما يوقع القارئ في حيرة هي الغموض عينه ، ولعل أحدًا يقول: إن الشاعر يستعيض عن هذه الحروف والوسائل بطرق ربط أخرى ، وذلك ليحقق الانسيابية في النص!! ومن هذه الطرق ، التكرار والفاصلة ، والنقطة أو النقط المتوالية ، أو وضع كلمات في غير مكانها لترتبط مع بقية الجملة ، كأن يضع الفعل في آخر السطر الشعري ، والفاعل في بداية السطر الشعري اللاحق له ، أو يضع المضاف في السطر الشعري ، والمضاف إليه في بداية السطر الذي يليه ، كقول الشاعر:
طيور الشوق ، تحضنها ، تلاعبها ، تقرأ
بين سطورها الأشواق ، كأن الشوق
أغنية ، بلا ألحان بلا
أوطان
تهاجر فيها
أحزاني
ففي هذا النص ، لا توجد أدوات ربط بين المفردات وبين الجمل ، وهذا يجعل الصورة موزعة ومشتتة ، فالنص غير متجانس ، والصورة لا تبدو واضحة المعالم بسبب تراكم الجمل ، وتراكم المفردات ، وهذا لا يساعد على وضوح المعنى ، ويؤدي إلى الغموض الذي يؤدي إلى صدم القارئ وتشكيكه في مقدرته على الاستيعاب والفهم !!.
أمرٌ آخر يُعد من أسباب الغموض ، وهو اعتماد كثير من الشعراء على نظام المقاطع الشعرية ، فقد تكون القصيدة ذات مقاطع ، لكل مقطع رقم أو عنوان ، أو رقم وعنوان ، أو لا رقم ولا عنوان ، ومن المفترض أن تكون هذه المقاطع مرتبطة بوشيجة تجمعها في النهاية ، إلا أن بعض الشعراء يَصدمون القارئ ، ويلقون به في بحر الغموض ، عندما يفاجأ بانقطاع المقطع الشعري ، أو الفقرة الشعرية عن المقطع الذي يليه كقول أحدهم :
يا أهل هذه القرية الكرام
محسنكم أتى ككل عام
ليغرس المسجد والضريح
ويملأ الأسماع بكلامه الفصيح
ثم يأتي الشاعر بالمقطع التالي ، فيتحدث فيه عن لوحة وألوان دامية ، وسهول ووديان وخريف وظلال ورعاة وأشباح و…!! وهو كلام بعيد كل البعد عما سبقه من المعاني والأفكار ، فالمقطع الأول في وادٍ ، والثاني في واد آخر ، أحدهما في الشرق والثاني في الغرب!!.
وقد يقول قائل: إن الوحدة العضوية في القصيدة المعاصرة لا تعتمد على الترابط الشكلي الخارجي بين المقاطع ، بقدر اعتمادها على إيجاد الصور ، ووحدة المشاعر والأفكار التي تثيرها القصيدة ، وهذا يعني أن النقد المعاصر لن يعجز عن إيجاد مخرج لمثل هذا التشتت ، وتبرير هذا الضياع ، وذاك الغموض.
يتبع ...2