صفحاتٌ من التاريخ


د. محمد علي النجار
في الثاني عشر من شهر أكتوبر الحالي سنة 1188م أصدر الناصر صلاح الدين أمره بتخريب مدينة عسقلان ، بعد مشاورات مع أمرائه وقادته ، فتم هدمها ، وهدم أسوارها ، وأضرمت فيها النيران التي ظلت تعمل في المدينة طيلة عشرة أيام ، حتى أتت عليها .. وبكى صلاح الدين على تدميرها وحرقها .. وبكى المسلمون معه ، وبكى أهلها وسكانها على مدينتهم الساحلية الجميلة ، وأسوارها القوية الحصينة ، التي كانت مسكنهم لمئات السنين ، ولكنّ المصلحة العامة - وقتها - كانت تتطلب ذلك.!!
عسقلان مدينة فلسطينية قديمة ، تضرب في أعماق التاريخ ، إذ إن أول ذكر لهذه المدينة ، كان في حوالي القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، وكانت مدينة محاطة بالحصون والأبراج ، ووصفها المصريون القدماء في تلك الحقبة الزمنية بالمدينة الكنعانية ، أما سكانها ، فكانوا من الكنعانيين والحيثيين الذين اختلطوا بالفلسطينيين.
إن عسقلان إحدى المدن الفلسطينية الخمسة القديمة ، وهي مدينة عاقر وأسدود وغزة وجات ، وكانت عسقلان من أهم هذه المدن ، بل كانت تفوق غزة من حيث الأهمية الحربية كما يقول الأستاذ عارف العارف قائمقام غزة قبل النكبة ، وذلك لوقوع عسقلان على الشاطئ مباشرة.
وكانت عسقلان مع المدن الفلسطينية الأخرى تمثل قوة موحدة لها وزنها ، حيث امتدت سيطرتها من جنوب عكا إلى عريش مصر ، وقد أخضعوا بني إسرائيل وقتها ، وأدخلوهم تحت طاعتهم ، وجمعوا منهم الضرائب ، إذ كان العداء مستحكمًا بين الفلسطينيين وبني إسرائيل واستمر العداء سنوات ، بل كانوا في حالة حرب لا نهاية لها ، وكانت كفة الفلسطينيين هي الراجحة غالبًا ؛ لأنهم كانوا مسلحين جيدًا ، وكانوا من الاتحاد والتنظيم على جانب كبير ، فكانوا سادة الموقف ، وقد ورد ذكر هذه السيطرة في سفر القضاة ، (عندما طلب شمشون الجبار من والديه ، أن يزوجاه من بنات الفلسطينيين .. وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على بني إسرائيل .. فنزل إلى (أشكلون) عسقلان وقتل منهم ثلاثين رجلاً).
وتوالى الغزاة على عسقلان: من الآشوريين عام 701 قبل الميلاد ، إلى اليونان عندما فتحها الاسكندر عام 332 قبل الميلاد ، ثم الرومان حيث أصبحت منذ عام 104 قبل الميلاد ميدانًا للتجارة والثقافة الهيلينية ، فنبغ فيها علماء وفلاسفة وأصبحت في العهد البيزنطي مركزًا دينيًا ، وظلت مسيحية حتى الفتح الإسلامي.
وكان لعسقلان التقويم العسقلاني الخاص بها ، ويشتمل على اثني عشر شهرًا ، كل شهر يشتمل على 30 يومًا ، وجميع أسماء الشهور تنتهي بحرف السين ، ولا تتوافق مع الشهور الشمسية التي نعرفها.
وما تزال الآثار التاريخية في عسقلان ، والأعمدة الرخامية ، والحجارة الضخمة إلى يومنا هذا ، تدل على الحقبة الرومانية التي خلفت وراءها هذه الآثار والأسوار ، كما يوجد في عسقلان مقام ومشهد الحسين ، ومقام الشيخ عوض الحسيني وهو جد عدد من العائلات في فلسطين مثل (العوضي والحلايقة وصندوقة والنجار وغيرهم) حيث كانت تتجمع الوفود من المدن والقرى المجاورة ، ليحتفلوا عنده كل عام.
كما يوجد في عسقلان (وادي النمل) الذي ذكر في القرآن الكريم ، وفيها من الشهداء عبر القرون من الصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، وآل البيت ما لا يحصى ، ولهذا جاء في حديث له شواهد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (.. قلت: وما مقبرة عسقلان؟ قال: رباط للمسلمين يبعث الله منهم سبعين ألف شهيد) ، وجاء في حديث إسناده جيد ورجاله ثقات: (فعليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط ، وإن أفضل رباطكم عسقلان).
يقول ابن بطوطة: (وقَلَّ بلد جمع من المحاسن ما جمعته عسقلان .. وماؤها عذب .. وبجَبَّانة عسقلان من قبور الشهداء والأولياء ، ما لا يُحصر لكثرته).
ومن رجالات عسقلان الكثير ، في مقدمتهم القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأيوبي الذي قال فيه: لا تحسبوا أني انتصرت بسلاحكم ، بل انتصرت بقلم القاضي الفاضل. ومنهم العالم ابن حجر العسقلاني ، ومن العصر الحديث الشيخ أحمد ياسين ، والشاعر محمد صيام ، وعالم الذرة حنفي فرحات رحمهم الله جميعًا.
ويحدثنا المؤرخ الصليبي (وليم الصوري) عن حصار الصليبيين لمدينة عسقلان الساحلية ، التي وصفها بأنها (إحدى مدن الفلسطينيين الخمس ، وهي واقعة على ساحل البحر ، وتحيط بها دفاعات من جميع الجهات ، وكلها مشيدة ببناء صلب ، وملصق مع بعضه بملاط أشد قساوة من الحجر ، كما أن الأسوار واسعة ، وذات سماكة جيدة ، وارتفاع مناسب ، وعلاوة على ذلك ، فإن المدينة مطوقة بتحصينات خارجية ، مبنية بالمتانة ذاتها ، ومحصنة بعناية بالغة) .
ويصف أبوابها الأربعة ، والأبراجَ العالية الضخمة ، ويمضي ليقول: (قاومت عسقلان كل المحاولات التي بذلناها ، وأظهرت نفسها منافسة هائلة لنا لمدة خمسين عامًا ونيفًا مضت) حيث سقطت جميع مدن بلاد الشام الساحلية في يد الصليبيين ، فيما ظلت عسقلان عصية عليهم ، لصلابة أهلها وقوة شكيمتهم.
ولا شك أنها كانت تضم بين سكانها الكثيرين من أهل البيت ، الذين كانوا يلجؤون إليها ؛ لأن عسقلان كانت على مفترق الطرق ، فيقيم فيها من يستحسنها ، لما تتمتع به من مزايا ، وربما لما عُرف في التاريخ أن رأس الحسين - رضي الله عنه - كانت فيها قبل أن تُنقلَ إلى القاهرة ، وليس هنا موضع نقاش مدى صحة هذا الخبر من عدمه...
لقد كانت عسقلان في العصر الفاطمي ، الخط الدفاعي الأخير لمصر ، لذا فقد حظيت باهتمام المصريين على مدى سنوات في ذلك العصر ، وذلك من خلال إمداد سكانها بما يلزمهم من العتاد ، والمؤن ، والرجال ، للصمود في وجه الصليبيين .
وفي الوقت الذي كان الوزير ابن السلار ، يُعِدُّ الأسطول المصري للتوجه إلى عسقلان المحاصرة من قبل الصليبيين ، قُتِلَ على فراشه بمؤامرة دبرها نصر وأبوه عباس في صراع على الوزارة ، فكان ذلك سببًا لانقطاع المدد عن المقاتلة في عسقلان ، وإذا ما أخذنا في الاعتبار ضعف الخلافة العباسية ، والخلاف بين ملوك وأمراء السلاجقة ، وانشغال كل مدينة أو قطر في العالم الإسلامي بنفسه ، عرفنا سبب انهيار المقاومة في هذه المدينة ، وسقوطها في يد الصليبيين ، بعد صمود أسطوري ، دوخ الصليبيين على حد تعبير (وليم الصوري) نفسه .
ويختم (وليم الصوري) حديثه عن ثغر عسقلان ، بكيفية سقوطه في يد الصليبيين في الثاني عشر من شهر آب ( أغسطس ) في العام 1154م ، بعد حصار طويل ، وقتال مرير ، وبطولات أبداها سكان المدينة ، إلا أن تقصير حكام مصر في ذلك الوقت في مساعدتهم ، ومدهم بما تحتاجه من مقومات الصمود ، ساعدت في سقوط المدينة بعد خمسين عامًا ظلت - منفردة - تقارع الصليبيين ، وتنزل بهم الهزائم ، وبعد أن سطرت صمودها في صفحات من التاريخ.