بين طمأنة الأرقام وإنذار الزمن: قراءة نقدية موضوعية في الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة للضمان الاجتماعي
وائل منسي
في اللحظة التي أعلنت فيها المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي
نتائج دراستها الاكتوارية الحادية عشرة، بدا المشهد وكأنه تقرير اطمئنان محسوب
بقدر ما هو رسالة تحذير مؤجلة.
الأرقام لا تصرخ، لكنها تهمس بوضوح لمن يريد أن يسمع: النظام
مستقر اليوم، لكنه يقف على عتبة اختبارات قاسية خلال العقد المقبل. فالدراسة، التي
تُجرى كل ثلاث سنوات التزامًا بالقانون، لا تكتفي بعرض حسابات تقنية جافة، بل تكشف
عن صراع صامت بين الزمن والديموغرافيا وسوق العمل، وبين نموذج حماية اجتماعية صُمم
لواقع لم يعد قائمًا بالكامل.
من حيث الشكل والمنهج، تبدو الدراسة منضبطة ومهنية؛ فهي تُحدد
بوضوح نقطتي تعادل مفصليتين: الأولى في عام 2030، حين تتساوى الاشتراكات مع
النفقات التأمينية، والثانية في عام 2038، عندما لا تعود الاشتراكات والعوائد
الاستثمارية كافية لتغطية الالتزامات السنوية إذا بقي العائد على الاستثمار على
حاله.
هذا التحديد الزمني بحد ذاته يُحسب للمؤسسة، لأنه ينقل النقاش
من لغة الطمأنة العامة إلى لغة الأرقام القابلة للاختبار.
غير أن المشكلة لا تكمن فيما قيل، بل فيما لم يُفكك بما يكفي؛
فالافتراضات التي بُنيت عليها هذه التواريخ بقيت حبيسة الإطار الفني، دون عرض
سيناريوهات بديلة تُظهر مدى هشاشة النتائج أمام أي صدمة اقتصادية أو ديموغرافية.
الدراسة تُجمع، وبحق، على أن التقاعد المبكر هو الجرح الأعمق
في جسد تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة. عندما يكون 64% من المتقاعدين خارجين
مبكرًا، وتستنزف هذه الفئة وحدها 61% من فاتورة الرواتب التقاعدية، يصبح الخلل
بنيويًا لا تفصيليًا.
لكن الخطورة هنا أن يُختزل السبب في "قرار فردي”، بينما
الواقع يقول إن التقاعد المبكر هو في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة لسوق عمل طارد،
يلفظ العمال في أعمار حرجة ثم يُسلمهم إلى الضمان بوصفه الملاذ الأخير. بهذا
المعنى، يتحول الضمان من نظام حماية إلى أداة لامتصاص فشل السياسات الاقتصادية
والتشغيلية.
وعندما تنتقل الدراسة إلى ملف الاستثمار، تتغير النبرة.
فالعائد الاستثماري يُذكر كعامل حاسم في تأجيل نقطة التعادل الثانية، لكن دون نقاش
علني كافٍ لطبيعة هذا العائد، أو لمخاطر التوسع فيه، أو لحدود التوازن بين الأمان
والعائد.
الاستثمار هنا يظهر كمتغير تقني، بينما هو في الحقيقة خيار سياسي
واقتصادي بامتياز، يحدد من يتحمل المخاطر ومن يجني الثمار، ويستحق أن يكون في قلب
النقاش العام لا في هامشه.
الأخطر من ذلك كله هو الطريقة التي يُستخدم بها مفهوم
"الاستدامة”. في الخطاب الاكتواري، تعني الاستدامة أن تبقى الأرقام متوازنة على
المدى الطويل، لكن في الواقع الاجتماعي تعني أن يشعر المشتركون بأن النظام عادل،
وأنه لا يُضحّي بجيل لحساب آخر، ولا يُحمّل أصحاب الأجور المنخفضة كلفة إصلاحات لم
يشاركوا في صنع أسبابها. الاستدامة المالية التي لا تُترجم إلى عدالة اجتماعية هي
استدامة هشة، قد تصمد حسابيًا لكنها تتآكل سياسيًا ومجتمعيًا.
عند الوصول إلى نقطة التعادل الأولى في 2030، لن ينهار
النظام، لكنه سيفقد هامش الأمان. كل أزمة اقتصادية، كل ارتفاع في البطالة، وكل
تباطؤ في النمو سيصبح مؤثرًا مباشرة في توازنه. أما عند نقطة التعادل الثانية في
2038، فإن الخيارات ستضيق: إما السحب من الأصول، أو تعديل القانون برفع سن التقاعد
أو تقليص مزايا التقاعد المبكر، أو المجازفة بعوائد استثمارية أعلى، أو فتح باب
الدعم الحكومي غير المعلن.
وكل خيار من هذه الخيارات يحمل كلفته الاجتماعية والسياسية.
في المحصلة، تقدم الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة تشخيصًا
ماليًا دقيقًا، لكنها تتعامل بحذر زائد مع الأسئلة الاجتماعية الأعمق. هي ليست
شهادة براءة مطلقة، ولا نبوءة انهيار، بل إنذار مبكر بلغة مهذبة.
نجاحها الحقيقي لن يُقاس بقدرتها على ترحيل نقاط التعادل
سنوات إضافية، بل بقدرتها على فتح الطريق أمام عقد اجتماعي جديد، يُعيد تعريف
الضمان الاجتماعي بوصفه ركيزة أمن جماعي لا مجرد ميزانية يجب أن تتوازن مهما كان
الثمن.
















