طاهر المصري: موارد الأمة .. ودولها الوطنية
طاهر المصري
بحذرٍ بالغ، وبخوفٍ جماعيّ شديد على حال الأمة وشعوبها ودولها
الوطنية التي تشكّلت في القرن العشرين، أسمـــح لنفسي بكتابة هذا المقال؛ وهو
حذَرٌ له أسبابه، وخوفٌ وتوجّسٌ تتزايد دوافعه في نفسي وعقلي وروحي، من خلال
متابعة أحوال الأمة على نحو جماعي، وأحوال شعوبها ودولها في لَحظة تاريخية شديدة
السيولة الاستراتيجية، وما يرافقها من ممكنات تلاشي كيانات سياسية، أو على الأقل
عدم قدرتها، كدول وشعوب، على الاستمرار، في عالمٍ يشهد تحولاتٍ كبرى وعنيفة، لم
يشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية.
سأحاول ترتيب أفكار ما أريد قوله على
نحو بسيط؛
أولاً: سأتحدّث عن (سيادات الدولة
الوطنية.. وتحولات النظام العالمي)، ونموذج الدولة الوطنية، كما عرفناه خلال القرن
العشرين، وكما عرفتها الأمم، من خلال التوازنات الدولية، التي صنعت هيئة الأمم
المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك النموذج الذي لم يعد يحفظ سياداتٍ لأحد،
لا للدول ولا للشــــعوب، ســـــواء بالمعنى الأمني والعسكري المباشر أو بالمعنى
الاقتصادي والمصالح وشبكات الحماية الاجتماعية، التي اعتادت الدولة الوطنية على
تأمينها لشعوبها.
ثانياً: فكرة (مستقبل شعوب الأمة..
وأوهام التعايش مع الصهيونية)، بعدمـــا شهدنا، تطوراً في علاقات دول عربيـــة
(بإسرائيل)، ولعلّ آخر تلك المفارقات
المُبكية هي محاولة الحكومة الإسرائيلية الحالية التدخّل كوسيط لحلّ الصراع
العسكري المحتدم بضراوة في الوطن السوداني، بذريعة أنها تمتلك علاقات مميزة مع
طرفي الصراع!.
ثالثاً: فكرة (موارد الأمة.. وجيوشها
الوطنية)، وذلك في ضوء ما يحدث في الوطن السوداني المنكوب، على نحوٍ غير مسبوق،
بالإضافة إلى ما حدث بصخبٍ أو بصمتٍ لجيوشٍ عربية كثيرة، والتي هي العمود الفقري
لوجود الدولة الوطنية وشعبها واستمرارهما، وعلاقة ذلك بموارد الأمة، والنفوذ
الأجنبي الذي امتدّ على نحو متزايد.
في موارد الأمة، لا بدّ من الانتباه إلى
أننا، وبعد أكثر من نصف قرن على فوائض النفط والغاز والطاقة، لم ننجح في تحويل
ثروة الأمة، من ثروة ريعية قابلة للنضوب إلى ثروة منتجة، صناعية بالأساس وزراعية
بنفس درجة أهمية الثورة الصناعية، وصولاً إلى ما نحن فيه اليوم من صناعة
ثـــــروات .
التقنية والاتصالات، وهما ثروتان
(الصناعية والزراعية) كان إحداثهما، على مستوى الأمة، يمكن أن يشكّل ثورات تنموية
وحضــارية، قادرة على منحنا منعة وقوة وجدارة البقاء بيــــــن الأمم.
ولا بد من الإشادة من تحولات كبرى في
دول نفطية وخاصة المملكة العربية السعودية التي تشهد نهضة تنموية هي أقرب الى
الدولة الحديثة وليس الرعوية، وهنا اؤكد على اهمية التخطيط على مستوى الأمة، لا
على المستـــوى القطــــري أو الإقليمي، وتلك حقيقــــــة استراتيجية جيوسياسية في
عالمنا العربي، فرضها تداخل واقع التاريخ المشترك وثقافته، مع حتمية الجغرافيا ومواردها،
ولعلّ أزمات الغذاء العالمي المتوالية اليوم، وما يرتبط بها من شبكات نقل وتزويد،
هي خير دليل على ما أخطأنا فيه في حق أنفسنا، وما نزال.
وفي حالة الجيوش الوطنية في بلادنا
العربية، لا بدّ من ملاحظة أن تفكّك الجيش الوطني، فـــي أكثر من بلد عربي، قد رافقه
تحلل الدولة، وبالتالي الشعب ومجتمعاته، بما يعنيه ذلك مـــن غرق لأجزاء من الأمة
في رحلة تلاشٍ مريرة وطويلة وعصيبة وكارثية.
ولعلّ أحوال عدد من الجيوش الوطنية
العربية الأخرى لا زالت تقاوم تلك الحالة التي تعرضت للتفكيك أو الانهيار، ذلك أن
تغليب أفكار الهيمنة على السلطة، ومواجهة كل الأزمات الداخلية، الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية، بمزيد من الاستئثار بالسلطة، دفع إلى مزيد من التشوهات في
البنية العسكرية لبعض الجيوش الوطنية، سواء بتغليب الاهتمام بالأخطار الداخلية على
الأخطار الخارجية، أو بتشكيل ميليشيات محلية موازية.
وكان واضحاً للعيان أن محاولات
واعتبارات الولاء تتفوق على اعتبارات الكفاءة ما جعلها غير قادرة على القيام
بوظيفتها الأساسية، وهي حماية الأوطان، وصيانة أمنها من أي عدوان خارجي، وقد تجلّى
ذلك في أزمات أقطار عربية كثيرة، لا يزال بعضها متفجراً إلى اليوم، ويُنذر بمخاطر
كبرى، (كاليمن وليبيا والعراق وسوريا والسودان وغيرها).
كان يمكن، وربما لا يزال ممكناً، أن
يتمّ توظيف موارد الأمة أو جزء منها، وتخطيطها، على الأقل في مستويات التصنيع
والزراعة والقوة العسكرية، على نحو قومي؛ بمعنى أخذ موارد الأمة الريعية ومواردها
البشرية والطبيعية معاً، أثناء التخطيط لصناعة أي شكل من أشكال الأمن، اقتصاديا
وزراعيا وعسكرياً، غير أن كل هذا لم يحدث في منطقتنا حتى اللحظة، وها نحن بكل
شعوبنا ودولنا الوطنية نواجه لحظة الحقيقة واستحقاقها مجرّدين من أيّة قدرة حقيقية
على مواجهة تحدياتها، بل ونقبل بخيارات لم نفكّر يوما في إمكانية قبولها..
في مستقبل شعوب الأمة.. وأوهام التعايش
مع الصهيونية، لا شكّ أن مستقبل شعوب الأمة العربية مرتبط عضوياً بمستقبل دولها
الوطنية، أو بقدرة تلك الدول على الاستمرار، في عالَـــأم تتلاطم تيارات سيولته
الاستراتيجية على نحو عنيف، وبالتالي تتآكل على نحو متسارع قدرة الدول الصغيرة على
البقاء والاستمرار في تلبية احتياجات مواطنيها الأساسية.
وإذا كانت دول عالَم اليوم الكبيرة منها
والصغيرة، تمتلك خيارات البقاء أو المغامرة بالنجاة عبر الانحياز والانضمام إلى
فضاءات وتكتلّات اقتصادية وعسكرية كبرى، المتكوّنــــــة منها أو التي هي في طور
التكوّن، فإنّ شعوب الأمة العربية ودولها تمتلك خيارين متلازمين، في البقاء
والنجاة، ولعلّه خيارٌ واحدٌ يستلزم خياراً أوليّاً آخر؛ خيارٌ قوامه تطوير شراكات
قطرية عربية فعلية، في العديد من العناصر السيادية لنمــــوذج الدولة العربية
الوطنية القائمة اليوم، في الاقتصاد أولاً، وفي السياسة الخارجية ثانياً، وفي شؤون
الأمن القومي العربي كمحصّلة.
ثالثاً؛ تطويرُ شراكاتٍ جزئية قابلة
للنمو والتوحّد، على الرغم من كل الخلافات والاختلافات العربية الموجودة حالياً،
فالأخطار التي تتهدّد الجميع، وجودياً، في اللحظة الدولية والإقليميـــــــة
الراهنة، هي أكبر من أية خلافات حالية تحكم العلاقات العربية البينية.
أقول: بأنّ تطوير هذه الشراكات البينية
العربية هو شرط لازم ومتلازم، قبل ومع أية محاولات للدخول في فضاءات تحالفات
وتكتلات دولية، بشراكات كاملة أو جزئية؛ ولعـــــــــلّ السياسات التي تبنتها
المملكة العربية السعودية، عشية زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة، وما تلاها
من محاولات حالية، وعشية القمّة العربية، وعلى الرغم من نجاحاتها المتواضعة، فإنها
تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح ؛ بمعنى أنّ وهـــــــــم القوة أو الاقتدار أو
الثروة، الموجود حالياً عند بعض الأقطار العربية الخليجية، غيرُ كافٍ لدخول أيّ
منها، على نحو موثوق، في تحالفات وانحيازات دولية، جديدة كانت أم قديمة؛ فلا مكان
ولا مكانة لأية دولة عربية، بمفردها، في أيّ تكتّل دولي، وحتى التكتّلات التقليدية
القديمة، ها هي تترنّح أمام أعين العالم، وعلى نحو غير مسبوق، ما يستدعي إعادة
تعريفٍ للمصالح الوطنية والقومية العربية، ومدى تداخلهما معاً، كعنصر شراكة
جيواستراتيجي، في الموارد والنقل والطاقة والأمن، والتي هي جوهر إعادة تشكّل
التحالفات الدولية، القديم منها والمستجدّ.
وهنا، تدخل المسألتين، الإسرائيلية
والصهيونية، في صلب إعادة تعريف الدولة الوطنية العربية، والوجود القومي العربي،
لمصالحهما الحالية والاستراتيجية، فقد تراكمت أوهام كثيرة خلال السنوات الخمس
الماضية في مياه الخطاب السياسي العربي، وفي أدائه، وفي مغامراته لأسباب معقّدة لا
مجال لتفصيلها هنا، فإذا كانت عناصــــر القوّة، ومعطيـــــــات النجاح والفشل قد
جعلت من دولة إسرائيل حقيقة سياسية موجودة في عالَم العرب، وفي عالَم اليوم فإنّ
مستقبل العرب وشعوبهم ودولهم يقضي بضرورة إعادة تعريف العرب، مجتمعين، لجوهر
مصالحهم واستمرارهم، شعوباً ودولاً؛ فالتسويات العربيـــــــة وأنصافها التي تمّت
بين بعض الدول العربية ودولة إسرائيل، لم تكترث كثيراً إلى فكرة الصهيونية
ومشروعها التي أنتجت دولة إسرائيل، وظلّت فكرة الصهيونية مدموجة مع فكرة اليهود،
ومع فكرة دولة إسرائيل، ولعلّ إفرازات الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة هي من أبرز
التجليّات الفجّة لفكرة الدمـــج تلك، والتي أحرجت حتى أقرب الشركاء الاستراتيجيين
لدولة إسرائيل، أمريكياً وأوروبياً.
ليست جديدة فكرة تعاون الحركة الصهيونية
ومشروعها مع العرب، فقد طرح قادة الحركة الصهيونية الأوائل، وعلـــــى رأسهم حاييم
وايزمان على العرب فكرة التعاون تلك في العام 1913 وقبل الحرب الكونية الأولى
وخلالها وبعدها، وقطعوا أشواطاً متقدّمة فيها في العامين 1916 و1919؛ غير أنهم
فشلوا في التأسيس لهذا التعاون العربي الصهيوني، وكان الفلسطينيون في القدس هم أول
المتنبّهين لخطورة تلك الشراكة العتيدة؛ وجاءت تفاصيل تنفيذ مفردات الوطن القومي
اليهودي في أراضي الفلسطينيين، إعلاناً وتتويجاً لخطورة جوهر الفكرة الصهيونية على
وجود كل ما هو عربي في فلسطين.
واليوم، تتدثّر الفكرة الصهيونية بأقنعة
كثيرة لصناعة شراكات عربية، وبذرائع يقوم معظمها على أساس فكرة الضعف العربي
لأقطاره منفردة، لهذا، فإنّ العرب ودولهم مجتمعين، مضطرّون وبحكم مصالحهم
الاستراتيجية، وأمنهم الوطني والقومي، وأكثر من أي وقت مضى، لتحديد موقف من فكرة
تعايشهم مع الحركة الصهيونية، بل وقدرتهم على هذا التعايش، وبأنها ليست مسألة
قطرية ينفرد بها كل قطر عربي بحسب رؤيته الذاتية لمصالحه؛ إذ سيجد كلُّ قطر عربي
أنّ مصالحــــه وتكوينه الاجتماعي مهدد بالفكرة الصهيونية، ومستهدف بها ومنها،
وبتفاصيل لا تبتعد كثيراً عن التفاصيل التي واجهها الفلسطينيون وما يزالوا
يواجهونها، بعنادٍ وصلابةٍ، وباقتدار أسطوريّ..
* رئيس الوزراء الأردني الأسبق