ماجد توبه يكتب: قصة سورية.. عندما تصبح الحقيقة هي الضحية؟ (2 - 2)
تحدثنا في المقال السابق كيف انزلقت
الثورة السورية السلمية سريعا الى التسلح و"التطييف" واعتبارها معركة
بين السنة والشيعة عندما استعجلت امريكا واسرائيل وتركيا ودول العربان قطف رأس
النظام السوري على غرار السرعة التي جرت في ليبيا وبالخلاف من تجرتبي الربيع
العربي في تونس ومصر، اللتين بقيتا سلميتين امام قمع وقتل النظامين للممتظاهرين
الى ان توجت الثورتان نصرهما واطاحتا بالنظامين الفاسدين.
اليوم يغرق الشعب السوري بحالة من
الانتشاء والفرح بانهيار نظام بشار الاسد ومؤسسته الامنية الشنيعة خاصة بعد ان
اظهرت الحرب الاهلية على مدى 13 سنة اقذر ما في النفس البشرية من توحش واستلاب.
لكنه فرح وانتشاء سوري مشوب بقلق وخوف وضياع بوصلة لدى ملايين السوريين سواء ممن
ايدوا الثورة او لم يؤيدوها، خاصة وان بذرة التوحش والجرائم والمجازر على الهوية
والطائفة والاصطفاف لم تقتصر على النظام بل شملت تقريبا كل الجماعات المسلحة
المعارضة، التي حرص الممولون والمستهدفون لسوريا على تشكيلها – اي هذه الجماعات –
على اساس ديني طائفي في استنساخ ابشع من استنساخ افغانستان.
اكثر من 500 حركة وتنظيم اغلبها
"جهادي" مرت على هذه "الثورة" تقلصت اندماجا واقصاء وتدميرا
اليوم الى نحو 200 جماعة ونيف، باتت تتصدرها هيئة تحرير الشام، المنبثقة من رحم
تنظيم القاعدة الارهابي والتي تضم ايضا عددا وازنا من "تائبي" داعش
والعائدين الى حضن القاعدة وتطوراتها البنيوية.
هيئة تحرير الشام التي يقودها الجولاني
"المحدث" بشخصية احمد الشرع، ليست الاقوى بين باقي التنظيمات مجتمعة
لكنها الاقوى بفضل تبنيها ودعمها المطلق من قبل تركيا وقطر واضطرار باقي اللاعبين
الدوليين والاقليميين للتعامل مع هذه الامر الواقع... الى حين!
ويبدو ان اغراء السلطة والتفرد بها لم
يمهل هيئة تحرير الشام والجولاني كثيرا، ففيما يوجه انتباه السوريين والعالم بضخ
اعلامي مكثف وطاغي ، الى المقابر الجماعية والبحث عن المفقودين والتخويف المبالغ
فيه كما يبدو من مؤامرات متوقعة من فلول النظام، رغم ان هؤلاء يبحثون عن النجاة
برؤوسهم، نقول في هذا الوقت فان "تحرير الشام" تسارع الخطى وبدعم تركي
وغير تركي للسيطرة على كل مفاصل السلطة
بسورية، وهياكلها الرئيسية وقواتها المسلحة قيد التشكيل بعيدا عن المشاركة والتوافق
مع باقي القوى، ناهيك عن مؤسسات المجتمع المدني وهياكل المعارضة غير المسلحة.
وعلى سيرة المعارضة غير المسلحة وشخصياتها
من ذوي الياقات الجميلة الذين ملؤوا الشاشات على مدى 14 عاما بالتنظير والنضال ضد
النظام ومع الثورة في الخارج لم يجرؤوا بعد في غالبيتهم على العودة الى الوطن
"المحرر" بسيوف المجهادين، بل ان بعضهم مهدد بالقتل من قبل جهاديي سوريا
الجدد منذ الثورة كما هو الحال مع المعارض السوري العلماني والحقوقي هيثم مناع،
الذي دفع 18 عاما من عمره بسجون الاسد الاب قبل ان يحلم ثوار الناتو بالانخراط في
مقاتلة الاسد.
ما يزال الحل والربط في دمشق حتى الان عند
تركيا اساسا، وبالتحالف مع قطر، وتحت الغطاء الامريكي الذي ما يزال يرسم ويخطط
لمستقبل سورية والمنطقة كلها بانتظار مجيء ترامب. وحتى الان ورغم حديث الشرع عن مؤتمر
وطني شامل قريب فانه يمنح نفسه وجماعته وبرضا محركيه الفرصة كاملة لفرض حضوره بكل
مفاصل السلطة والاستفراد بها، ويجري تلميعه اعلاميا وسياسيا بصورة تؤهله كما يبدو
للوصول الى مرحلة ترؤس سوريا بعد ان يستكمل مرحلة التاهيل وغسل الادمغة خاصة مع
تراجعه للحديث عن ان الانتخابات والدستور الجديد يحتاجان لنحو اربع سنوات لن
يستطيع احد فيها منافسته على مسك مفاتيح السلطة وجزرها وعصيها!
وبعيدا عن التفاصيل التي يحاول الاعلام
اغراق الجماهير بها والتي يركز فيها على "انقاذ" سورية من براثن وسجون
وباستيلات الاسد، متجاهلا طبعا ان منظمات حقوق الانسان والسوشيال ميديا والاعلام
سجلوا ابضا فظائع ومجازر وجرائم يندى لها جبين الانسانية من قبل
"الثوار" وجماعاتهم التي تركت فلسطين بين فكي الصهاينة وجاءت لتجاهد
بسورية بحثا عن احدى الحسنين" الشهادة او النصر! وما زالت هيئة تحرير الشام
لوحدها التي سيطرت على ادلب في السنوات القليلة الماضية تضم في سجونها الاف
الاشخصاص بينهم نساء واطفال كما يقول "ثوار" من الهيئة نفسها ومنظمات
حقوق الانسان ومعارضين سلميين. دع عنك اعداد من قتلوا وذبحوا بجز رقابهم سواء من
الجيش السوري او من مؤيديه او من صفوف "الثوار" والجماعات المعارضة
المسلحة الاخرى ومن الطوائف "الكافرة" غير المسلمة.
اليوم الولايات المتحدة، التي لا يستطيع
احد منافستها بالنفوذ والقدرة على التاثير في سورية والمنطقة بالتحالف مع اسرائيل
طبعا، لن تتوقف حتى تمسك بكل خيوط اللعبة في سورية خاصة وانها واسرائيل يعتبران
انهما خرجتا منتصرتين في غزة ولبنان، حيث يجاهد حزب الله وحماس ومن خلفهما ايران
للخروج باقل الخسائر من الوضع الجديد.
اسرائيل حجزت لها نفوذا كبيرا في سورية
الجديدة، فقد احتلت ثلثها تقريبا ودمرت كل اسلحتها الثقيلة وطائراتها ومعاملها
البحثية، وقطعت مباشرة كل خطوط الامداد السورية والايرانية للمقاومة عبر تفجير
اكبر الانفاق التي حررها الثوار تحت جبال القلمون وغيرها. ورغم ان اسرئيل تعلن
اليوم انها لن تبقى في الكثير من المناطق التي احتلتها فان احدا لن يحلم بانها
ستخرج من جبل الشيخ ومحيط الجولان والذي سبق ان ضمته رسميا.. لن تخرج منها الا
بحرب طاحنة "قد يقودها احفاد احفاد الجولاني)!
سيناريو التقسيم في سوريا لن يكون مستبعدا
عن امريكا خاصة وهي تضم فسيفساء عرقية وطائفية متنوعة، فيما يبدو خيار دولة
المواطنة رجس من عمل الشيطان لدى "ثوار" سوريا، التي قامت كل عقيدتهم
الامريكية والتركية والعربية الكاذبة على عقيدة "البراء والولاء" وعلى
عقيدة سيد قطب بضرورة انتشال "مجتمع الجاهلية" السوري والعربي والمسلم
من كفره اولا قبل ان نحرر العالم من الكفر والطغيان ونشر الاسلام في ربوعه من
القطب المتجمد الشمالى الى الجنوبي.
اما السيناريو الاخر الذي قد تلجا له
الولايات المتحدة وحلفاؤها او قل اذيالها فهو الحفاظ على ما امكن من سوريا موحدة
لكن تحت سلطان دكتاتور عربي جديد يحكم بالحديد والنار ويضبط الحفاظ على سورية
فاشلة الى ما شاء الله.
لن يحلم الشرع اليوم برفع قانون قيصر الذي
خنق سوريا ولا الحصار الخانق على هذه البلد منذ ما قبل حتى الثورة
"المجيدة".. ستفتح بعض الطاقات الصغيرة هنا وهناك بحيث "لا يموت
الذئب ولا يفنى الغنم"، لكن محاولات اعادة تاهيل الشرع وقاعدته وهيئته لن
تكون حافزا لامريكا لاعادة ايقاف سوريا على قدميها، فالمشكلة لامريكا ليست مع
الاسد او غير الاسد بل مع سوريا الدولة المركزية التي يجب ان تبقى كما باقي الدول
العربية والمنافسة لاسرائيل ضعيفة وغارقة بفشلها وهمومها!
تركيا وقطر سيسعيان الى تحصيل مكاسب
اقتصادية واستثمارية فضلا عن نيل الرضا الامريكي. تركيا لديها مشكلة مع الاكراد
وهذه يمكن في النهاية الوصول الى حلول لها مع الولايات المتحدة وليس غريبا ان تضحي
امريكا بالاكراد ومصالحهم للفوز بالجمل الاكبر. وتركيا ايضا لديها مشكلة مع
اللاجئين السوريين (3 ملايين لاجيء) ستسعى لحلها مع حكام الشام الجدد لكنها تحتاج
لسنوات للانتهاء منها. فيما عين تركيا على الاستثمار بسورية وباعادة الاعمار وفتح
السوق السوري امام منتجاتها وتعزيز وضعها الجيوسياسي وترسيم حدودها البحرية مع
سوريا في اضعف اوقاتها.
اما قطر، التي لم تنس ولن تنسى للاسد رفضه
مد انبوب الغاز القطري عبر سوريا الى اوروبا قبل الثورة بعامين وتفضيل سوريا عدم
الاضرار بروسيا ومصالحها كمصدرغاز رئيس لاوروبا ستعمل، بل ويقال انها بدات، بنقاش
اعادة العمل بهذا المشروع مع قادة سوريا الجدد الذي سيدر عليها دخلا ضخما من جهة
ويخدم حليفتها وسيدتها الولايات المتحدة التي تحاصر روسيا من كل جهة. ناهيك عن ان
قطر تراهن على ان مساهمتها باسقاط الاسد وسوريا وقطع حبل الدعم عن حزب الله يمكن
ان يعيد تاهيلها لدى اسرائيل ويمينها بعد ان طالت روح الحقد والانتقام الاسرائيلية
من غزة وحماس قطر والعلاقة الوثيقة السابقة بالحركة، رغم انها علاقة كانت محكومة برضا
وحسابات اسرائيل وامريكا!
لن يكون غريبا ان يُضحى براس حماس او ما
تبقى من هياكل لها من قبل قطر فالمرحلة امريكيا واسرائيليا لا مكان فيها لحماس، لا
عسكريا ولا سياسيا. وكم يقال اول الرقص حنجلة، فحكام سورية الجدد ابلغوا الرسالة
واضحة لكل فصائل المقاومة الفلسطينبة بما فيها حماس والجهاد ان لا مكان لهم في
سورية الجديدة.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه اليوم؛ ورغم
كل السيناريوهات المتشائمة التي تحدثنا عنها انفا، هل يمكن نقل تجربتي اليمن
وطالبان الى سوريا؟! هل يمكن للمجتمع السوري المنفتح والعريق والضارب في عمق
التاريخ والتحضر ان يقبل باستبدال حكم الاسد والبعث الاقصائي بحكم الشرعالجولاني
وجماعات "الجهاد الاسلامي" المنغلقة والمتطرفة؟ هل يمكن ان يقبل او
يستطيع العيش تحت سلطة منغلقة فكريا تحمل فكرا وهابيا سلفيا يعتقد انه يمتلك
الحقيقة المطلقة من عند الله، ولا يؤمن بفن وموسيقى وعلم وحداثة وحقوق مراة وحرية
راي واحترام التراث الانساني الذي تزخر بها بلاد الشام؟!
هل كان سيجد شخص مثل المرحوم ميشيل كيلو
او هيثم مناع او ادونيس او صف طويل من مبدعي الفن السوري مكانا في دولة لا تبرر
قمعها ومصادرة الحريات باسم المحافظة على السلطة كما السابقة، بل بسلطة ترى انها
تمتلك الحقيقة المطلقة وانها الفرقة الناجية وانها تنفذ اوامر الله في الارض؟!
هل يستطيعون العيش والقبول بدولة تعتقد ان
لبس الخمار ومنع الغناء والتمثيل وعدم تقليد الغرب، ومحاربة واستئصال الروافض
الشيعة وغيرها من جماعات قريبة، اهم واولى من خزعبلات الحرية والراي والتنمية
والاستقرار.. ناهيك طبعا عن ان ذلك اهم من تحرير فلسطين اليوم!
في اعمق اعماقنا لا نخاف على سورية.. فهذا
الشعب حر ابي قومي وابو الحضارة..لا يمكن لطالبان سورية ان تصادر تاريخه وحاضره
ومستقبله.