شريط الأخبار
يوم العودة الملحمية "أكسيوس": ترامب يخطط لعقد قمة دولية حول غزة خلال زيارته لمصر الأسبوع المقبل الملك وغوتيريش يبحثان تكثيف الاستجابة الإنسانية لغزة حالة إنكار: مؤرخ اسرائيلي يعري تبني المجتمع الاسرائيلي للابادة الجماعية بغزة جزارون في "كيان" الدم: وزير التراث.. تصريحاته تجسد توافق المجتمع الصهيوني على "الخلاص من الفلسطينيين" جيش الاحتلال الإسرائيلي يتوغل بريا في بلدتين بالقنيطرة جائزة نوبل لـ"السلام" تذهب لزعيمة المعارضة الفنزويلية المؤيدة لامريكا ضد اليساري مادورو تركيا ومصر وقطر ستدير المرحلة المقبلة بغزة بالتنسيق مع إسرائيل وأمريكا "العمل الاسلامي": المعركة مع الاحتلال لا تزال مستمرة وتدعو لتمتين الجبهة الداخلية الحوثي: سنبقى في حالة انتباه وجهوزية لتنفيذ اتفاق غزة ووقف العدوان الحية: تسلمنا ضمانات من الوسطاء والإدارة الأمريكية بأن الحرب انتهت بشكل تام ولي العهد يلتقي رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي ولي العهد لمدير يونسكو: ضرورة تنفيذ قرارات حماية الهوية الأصيلة للقدس ولي العهد يبحث تنسيق المجالات العسكرية مع رئيس الأركان الفرنسي الملك: وقف اطلاق النار بغزة يجب ان يفضي لانهاء الحرب العيسوي: الأردن بقيادته الهاشمية صوت الحق والضمير الإنساني في عالم مضطرب لمسة ملكية تداوي وجع عامل وطن الخيرية الهاشمية: لدينا الجاهزية لإدخال 3 آلاف شاحنة الى غزة وقف اطلاق النار يبدأ اليوم: جيش الاحتلال يبدا انسحابًا تدريجيًا من غزة ويسرّح آلاف الجنود كواليس المرحلة الاولى: بعض التفاصيل الصادمة

حالة إنكار: مؤرخ اسرائيلي يعري تبني المجتمع الاسرائيلي للابادة الجماعية بغزة

حالة إنكار: مؤرخ اسرائيلي يعري تبني المجتمع الاسرائيلي للابادة الجماعية بغزة


 

كتابة: أومير بارتوف

مؤرخ إسرائيلي أمريكي، عميد دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة براون، ومؤرخ متخصص في الهولوكوست، وأحد المراجع الأكاديمية الرائدة في مجال الإبادة الجماعية.

 

نُشر بتاريخ: 8 أكتوبر 2025

 

في يونيو/حزيران 2024، زرتُ إسرائيل للمرة الأولى منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر والهجوم الذي تبعه وشنّه جيش الدفاع الإسرائيلي(IDF) على غزة. منذ ذلك الحين—على أقل تقدير—أصابني الفزع، لكن راودني أيضًا قدر من الفضول حيال القدرة الاستثنائية لدى هذا العدد الكبير من الإسرائيليين على أن يبرّروا في الوقت نفسه، أو ينكروا، أو يتجاهلوا، أو يتعمّدوا اجتناب الحديث والتفكير بشأن التدمير المنهجي المتواصل لقطاع غزة وللفلسطينيين الذين يعيشون هناك.

ليس هذا ردّ فعل فريد. وهو بالتأكيد غير مفاجئ لسكّان يرون أنفسهم ضحايا حتى وهم متواطئون جماعيًا في مشروع إبادة يُنفّذ باسمهم (وعلى أيدي جنود هم أبناء وبنات وأحفاد وأزواج وآباء نسبة كبيرة من المواطنين). لكن لأنني نشأتُ في إسرائيل، وخدمتُ في جيش الدفاع الإسرائيلي، ولي عائلة وأصدقاء في البلاد، فإن شعوري بالصدمة والاستياء شخصيٌّ إلى حدٍّ مؤلم.

وبعد أن أمضيتُ معظم مسيرتي المهنية أدرس "الإنكار الجمعي"، أستطيع أن أرى كيف أن مثل هذه الاستجابات الإسرائيلية جزءٌ من نمطٍ تاريخي. ففي ثمانينيات القرن الماضي، واجه بحثي آخر إنكارٍ كبير متبقٍّ في ألمانيا ما بعد الحرب: أسطورة نقاء الفيرماخت، أي الجيش النازي. بعد أربعين عامًا على الحرب العالمية الثانية، كان الألمان قد تقبّلوا تدريجيًا مسؤوليتهم عن المحرقة—بعد أن رأوا أنفسهم بدايةً بوصفهم الضحايا الرئيسيين لهتلر. لكنهم ظلّوا يتبنّون الحجّة القائلة إن الجنود الألمان النظاميين، بخلاف الغيستابو و"الإس إس"، خاضوا حربًا لائقة—إن لم تكن ضرورية ومبرَّرة—ضد الجيش الأحمر على الجبهة الشرقية، حمايةً لأوروبا من "طوفانٍ بلشفي-آسيوي". ووفقًا لهذا التفكير، لم يكن للجيش الألماني علاقة تُذكر بالجرائم المروّعة التي ارتُكبت من وراء ظهور الجنود.

استغرق الأمر عقدًا آخر كي يُقِرّ الألمان بأن آباءهم وأجدادهم كانوا، في الواقع، متواطئين في حرب إجرامية قُتل فيها نحو 26 مليون مواطن سوفييتي، كان معظمهم من المدنيين، بما في ذلك أعداد كبيرة من اليهود.

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ازداد اهتمامي بالمحرقة. وكان أول مقال نشرته عبارة عن مقالة مراجعة لعدة كتب مهمة صدرت آنذاك. من بينها كتاب "قتلة الذاكرة: مقالات في إنكار المحرقة" للمؤرخ اليهودي-الفرنسي اللامع بيار فيدال-ناكِه، الصادر أصلًا عام 1987. فكّك الكتاب ظاهرة واسعة الانتشار من "المراجَعة” المعروفة في فرنسا باسم النزعة الإنكارية (négationnisme)، التي هدفت إلى إنكار المحرقة أو التقليل من شأنها. ولم تكن هذه مجرد نزعة يمينية أو نازية جديدة فحسب؛ بل أصبحت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين أشبه بموضة فكرية وأكاديمية مثّلها خير تمثيل الباحث الأدبي روبرت فوريسون، الذي طبّق تقنيته في التحليل النصي لينكر وجود غرف الغاز.

ونتيجةً لهذا التيار، أقرّت فرنسا عام 1990 قانون غيسّو الذي جعل إنكار الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النازيون جنحة. ومع ذلك، استمرّت حالات "الإنكارية” في الأوساط الأكاديمية الفرنسية. وكما أشار المؤرخ هنري روسّو عام 2006، كانت فرنسا البلد الوحيد الذي أصبح فيه إنكار المحرقة قضيةً عامةً ومحطّ كثير من الجدل والسياسات والإجراءات القضائية. وقد وجد هذا التيار دعمًا لدى اليمين المتطرف وعلى هوامش اليسار المتطرف، حيث شهدت معاداة السامية أيضًا انتعاشًا. وإن انتشار الحجج الإنكارية في بعض الجامعات الفرنسية منحها هالةً أكاديميةً معيّنة، جزئيًا لأن "المراجعين" شكّكوا في مكانة الحقيقة في التاريخ وأثاروا احتمال أن تكون تفسيراتٌ مختلفة للماضي—بما في ذلك المحرقة—صحيحةً بقدر غيرها.

وأشار فيدال-ناكِه إلى أن لهؤلاء "المراجعين" مبادئ مشتركة، منها اعتقادهم بأن "لا إبادة جماعية وقعت وأن أداتها الرمزية، غرفة الغاز، لم توجد قط"؛ وأن "الحل النهائي" لم يكن سوى "ترحيل اليهود نحو أوروبا الشرقية" الذي لم يكن، وفق مزاعم فوريسون بخصوص يهود فرنسا، إلا "إعادتهم إلى أوطانهم" لأن "معظم يهود فرنسا جاؤوا من الشرق"؛ وأن عدد الضحايا اليهود كان أقل بكثير مما يُزعَم—لا يزيد عن 200 ألف وفقًا لفوريسون، وبالتأكيد لا يتجاوز مليونًا بحسب مراجعين آخرين.

 

وأُضيفت إلى ذلك مزاعمُ مفادُها أنه إذا كانت ألمانيا تتحمّل أيَّ مسؤولية عن إشعال الحرب العالمية الثانية، فإن اليهود يشاطرونها تلك المسؤولية. بل إن العدوَّ الرئيسيَّ للإنسانية آنذاك كان الاتحادَ السوفييتيَّ لا النازية، وأن "خدعة" المحرقة اختراعٌ من الحلفاء صاغه اليهود، ولا سيما الصهاينة.

يشير فيدال-ناكِه إلى أن منطقَ مثل هذه التمارين في الإنكار يشبه النكتة الفرويديّة عن إبريقٍ نحاسيٍّ مُستعار. "عند إعادته، يشكو (ب) من أن في الإبريق ثقبًا كبيرًا يجعله غير صالح للاستعمال. وهذه هي دفوع (أ): 1) لم أستعر الإبريق من (ب) أصلًا. 2) كان بالإبريق ثقبٌ عندما استعرته من (ب). 3) أعدتُ الإبريق بحالةٍ ممتازة". ويقترح فيدال-ناكِه أن النكتة "يمكن تمديدها إلى ما بعد فرويد: لماذا لا يقول (أ): أنا من أعرتُ الإبريقَ إلى (ب)، وكان بحالةٍ ممتازة". بل يكتب: "ثمّة أدبيّاتٌ كاملة تُثبت أن القتلة الحقيقيين لليهود، وقبل كل شيء للألمان، كانوا يهودًا: الكابو اليهود، والمقاومون اليهود، وغيرهم. وهكذا يصبح القتلُ الجماعي—الذي لم يقع أصلًا—مُبرَّرًا تمامًا ومُسوَّغًا".

وقد دفع هذا الإنكاريةَ المخرجَ الفرنسيَّ كلود لانزمان إلى توثيق المحرقة من خلال شهادات من عايشوها في فيلمه المؤثِّر المٌنتج عام 1985 "شواه" (Shoah وتعني المحرقة). وبالنسبة إلى فيدال-ناكِه، يُشكّل فيلم لانزمان "عملًا تاريخيًّا عظيمًا" قادرًا على "إعادة بناء ماضٍ كان حقيقيًّا أكثر مما ينبغي". وعلى النقيض، فإن هدف "مراجعة" المحرقة ليس مراجعة فهمنا للماضي، بل إنكاره بالكامل.

مع أن إنكار المحرقة يبقى ظاهرة هامشية نسبيًا، فإن غيرَ قلّةٍ من الدول والمنظمات المسؤولة عن إبادةٍ جماعيةٍ انخرطت في إنكارٍ صاخب. فتركيا، مثلًا، لا تزال حتى اليوم تُنكر رسميًا إبادةَ الأرمن الموثَّقة جيدًا التي ارتكبها سلفُها العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. والمفارقة أن تلك الإبادة بالذات هي التي دفعت المحامي اليهودي-البولندي رافاييل لِمْكِن—الذي صكّ في النهاية مصطلح "الإبادة الجماعية" عام 1944—إلى السعي لوضع تعريف قانوني جديد لمحاولة تدمير جماعةٍ بأكملها. وقد أنجز رافاييل هذا العمل في السنوات التي سبقت الغزوَ النازيَّ لبولندا، ذلك الغزو الذي دمّر عائلته نفسها.

إن الإنكار والتمويه والمحو كلّها تؤدي دورًا في منح ترخيصٍ لِفظائعَ مستقبلية، كما أدرك رافاييل بلا ريب. ففي عام 1939، وحثًّا لجنرالاته على أقصى درجات الوحشية، قال هتلر عبارته الشهيرة: "مَن ذا الذي يذكر الأرمن اليوم؟". إن هذا المحو—ليس لثقافاتٍ ماضية فحسب، بل لوسائل إفنائها أيضًا—لا يزال شائعًا في أرجاء أوروبا الشرقية. ومن خلال ترحالي في غاليسيا الشرقية سابقًا، وهي اليوم غرب أوكرانيا، رأيتُ كيف أن الحضارة التي هاجرت منها عائلتي إلى فلسطين قد نُسيت تمامًا، ومُحيت آثار فنائها.

ومما لا يقلُّ كشفًا في كتاب فيدال-ناكِه، مع ذلك، فهمُه منذ ثمانينيات القرن الماضي للطرائق الدقيقة التي يمكن أن يعمل بها "المراجَعة" والإنكار. فهذه الطرائق أعقد بكثير من ألاعيب المنطق، ومن النظريات الأدبية الملتوية، ومن تزوير الوثائق أو إساءة قراءتها التي مارسها "مراجعون" ومنكرون سيئو الصيت مثل فوريسون والمؤرّخ البريطاني ديفيد إرفينغ. وكما شرح فيدال-ناكِه بوضوح، غدت المحرقة تؤدي دورًا مهمًا في الهجوم على دولة إسرائيل وفي الدفاع عنها.

"في حالة إبادة اليهود"، يكتب فيدال-ناكِه، "من الواضح أن أيديولوجيا يهودية واحدة، هي الصهيونية، تستغلّ المجزرة الكبرى على نحوٍ يكون فاضحًا في بعض الأحيان". وإذ يشخّص ظاهرةً لم تزداد إلا تفاقمًا منذ كتابته لهذه الكلمات، يعترف المؤرّخ—الذي توفي عام 2006—بأنه في إسرائيل "تكفّ إبادةُ اليهود فجأةً عن كونها حقيقةً تاريخيةً مُعاشةً وجوديًا، وتغدو أداةً مألوفةً للتبرير السياسي، تُسخَّر لنيل الدعم السياسي داخل البلاد وكذلك للضغط على الشتات كي يتّبع بلا قيدٍ ولا شرط منعطفاتِ السياسة الإسرائيلية".

والأهم—وبالقدر نفسه من الجِدَل اليوم كما قبل أربعة عقود—أنه يلاحظ أن من الآثار الجانبية لذلك "خلطًا مستمرًا ومغذّى بدهاء بين أحقاد النازيين والعرب". ولَمسًا لعصب المسألة في صميم استغلال إسرائيل للمحرقة، يجادل فيدال-ناكِه أخيرًا بأن في إسرائيل "تعمل الشواه (المحرقة) بوصفها تبريرًا ذاتيًا دائمًا في كل المجالات: في إضفاء الشرعية على أدنى حادث حدودي بوصفه تجددًا للمجزرة، وفي تماثُل الفلسطينيين—تجاههم يرتكب الإسرائيليون، على أية حال، مظالم لا يمكن إنكارها—مع قوات الـ(إس إس)". وذلك على الرغم من أن "السواد الأعظم من سكّان إسرائيل لم تكن لهم حتى آنذاك—فضلًا عن اليوم—أي خبرة مباشرة بالاضطهاد النازي". وعلى نحوٍ مُلتوٍ بالقدر نفسه، يشير إلى أن كثيرين من يهود الشتات يفهمون إسرائيل بالطريقة ذاتها.

قد تُهيئنا مثل هذه الملاحظات الثاقبة على نحوٍ أفضل للقفز إلى اللحظة الراهنة. فاليوم يسود بين الإسرائيليين إنكارٌ واسع للإبادة الجماعية التي ترتكبها دولتهم في غزة. إذ بوسعنا أن نتعرّف هنا بوضوح على عناصر من منطق الإنكار الفرنسي للمحرقة، وكذلك من الجِدَل الملتوي لبعض الباحثين الألمان في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، مثل إرنست نولته، الذي زعم أن إبادة النازيين لليهود نشأت من جرائم البلشفيين وكانت أساسًا ردًّا عليها.

وفي الوقت نفسه، يدين الإنكار الإسرائيلي بالكثير لمنطقٍ آخر عرّفه فيدال-ناكِه، كما أشار إليه مراقبون إسرائيليون نادرون مثل المؤرّخ الراحل يهوذا ألكانا: فبوصفها أمة وُلدت من رماد المحرقة، تمتلك إسرائيل الحق—إن لم يكن الواجب، وفي جميع الأحوال الترخيص—في التعامل مع كل تهديدٍ بوصفه تهديدًا وجوديًا شبيهًا بالنازية، وأن تفعل كل ما بوسعها لاستئصاله.

هذا الإنكارُ المقترنُ بالتبرير الذاتي لم يبدأ في 7 أكتوبر، رغم أن مجزرة حماس أجّجت مزيجًا فتاكًا على نحوٍ خاص من الخوف والاشمئزاز والكراهية والعنف. بل يعود إلى الإنكار الجوهري الذي تقوم عليه الدولة، إلى ميلادها نفسه على النار والسيف. أمّا الإنكارُ الكبير لجيلنا—نحن المولودين في العقد الأول بعد قيام إسرائيل عام 1948—فيتعلق بالآلية التي مكّنتنا من أن ننشأ في دولةٍ ذات أغلبية يهودية على أرضٍ كان يسكنها، قبل ميلادنا بوقتٍ قصير، فلسطينيون يزيد عددهم على عدد اليهود بمرتين.

وحين واجهتُ جذوري الأوروبية في الأربعينيات من عمري، كان الاعترافُ بمحو الحياة اليهودية في شرقيّ أوروبا هو المسار الذي من خلاله أدركتُ وأسفتُ على محو الحياة الفلسطينية فيما أصبح دولة إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن سيرة حياتي—وسير كثيرين من أقراني—متجذّرةٌ عميقًا في الإنكار. وبقدر ما يتعلّق الأمرُ بهذا الجيل الأول من اليهود المولودين في إسرائيل، فإن النكبة—التي تشير بالعربية إلى "الكارثة" المتمثّلة في تهجير 750 ألف فلسطيني من الأراضي التي أصبحت دولة إسرائيل أثناء ما سمّته حربَ الاستقلال—لم تقع قط. وإن كانت قد وقعت، فهي طوعية. فقد غادر الفلسطينيون—هكذا قيل لنا—لأن قادة الدول العربية المحيطة وعدوهم بأنهم سيعودون قريبًا فاتحين خلف الجيوش العربية المنتصرة التي ستلقي باليهود في البحر.

وما هو أكثر من ذلك، فإن التهجير الذي "لم يحدث" كان غير مكتمل. فقد تُركت الدولةُ الجديدة مع أقليةٍ عربيةٍ مُضايِقة لا تنتمي إلى الدولة اليهودية الوليدة، وتشكل في الوقت نفسه تذكيرًا غيرَ سارٍّ بأن هذه كانت وطنَها قبل زمنٍ طويل من وصول الصهاينة المعاصرين إلى فلسطين.

وهكذا عادت النكبة—التي يتم إنكارها إسرائيليًا والمُؤسَّس عليها فلسطينيًا كمأساةٍ تأسيسية—بضراوةٍ في عام 2023. فبعد هجوم حماس، دعا كثيرٌ من الإسرائيليين إلى نكبةٍ ثانية، "نكبة غزة"، تُتمّ أخيرًا ذلك الحدث الذي يتمر تكراره والممحوّ مرارًا الذي وقع قبل سبعة عقود. وهذه بالضبط هي النكبة التي كان جميع الفلسطينيين الخاضعين للحكم الإسرائيلي يخشونها دائمًا. إنها ذروةُ النكبة التي خبروها مرارًا منذ أُطلقت أول مرة كحدثٍ تحويليٍّ للسلب والاقتلاع عام 1948. وفي الوقت ذاته، وبينما تتكشّف "نكبة غزة"، يجري أيضًا إنكارُها، وتغليفُها بمصطلحات "الدفاع عن النفس" و"الدروع البشرية" و"الأضرار الجانبية" و"انعدام البدائل"—تمامًا كما حدث في نسختها الأولى عام 1948.

فالإنكار ليس، كما لاحظ فيدال-ناكِه، أمرًا يحدث بعد الواقعة فحسب. إنّه جزءٌ من الحدث نفسه. حتى في حالة النازيين—مع بعض الاستثناءات الفاقعة، مثل مؤتمر فانزه(Wannsee) في 20 يناير/كانون الثاني 1942، حيث عرض مسؤولون نازيون كيفية إنجاز "الحل النهائي للمسألة اليهودية"، وخطاب هيملر في أكتوبر/تشرين الأول 1943 أمام ضباط قوات الـ(إس إس) في بوزن (Posen)، حيث وصف القتل الجماعي بأنه "صفحة مجيدة في التاريخ"—فإن الجناة عمومًا لا يحبّذون أن يعرّفوا أنفسهم بهذه الصفة. وبالطبع، منذ شاعت مصطلحات "الجرائم ضد الإنسانية" و"التطهير العرقي" و"الإبادة الجماعية"، يميل مرتكبوها إلى الاشمئزاز من تسمية أفعالهم بهذه الأسماء.

وماذا عن الجمهور عامةً؟ ففي ظلّ النظام النازي، مثلًا، كان الألمان—على نحوٍ اشتهر—يعلمون وينكرون في الوقت نفسه علمهم بالاضطهاد وبالقتل النهائي لليهود. فقد أُبدلت العروض العلنية مثل مذبحة نوفمبر/تشرين الثاني 1938 المعروفة بـ "ليلة الزجاج المحطّم (كريستال ناخت Kristallnacht )" بعمليات الترحيل إلى "الشرق" المرهوب، وبشائعاتٍ مرعبة—وجذّابة أيضًا—عن الإبادة الجماعية. ولم يكن نادرًا أن يؤكّد هذه الشائعاتَ جنودٌ في إجازة وأفرادٌ مدنيون من سلطات الاحتلال (فضلًا عن بيعٍ رخيصٍ في الرايخ لأغراضٍ شخصية بدا أنها فُصلت عن أصحابها السابقين).

وعندما اشتدّ القصفُ الاستراتيجي لبلادهم، وصف الألمان ذلك على نحوٍ مبهم بأنّه انتقامٌ يهودي. وقد لاحظت حنّه آرِنت هذه النزعة إلى الحديث عن التعرّض لانتقامٍ على جرائمَ يُنكَر وقوعُها في الوقت نفسه، وذلك في عام 1950، حين زارت ألمانيا لأوّل مرة منذ فرارها من النازيين. وكتبت عن هذه التجربة في مقالةٍ مؤثرة لمجلّة "كومنتري" الأميركية.

ولهذا يكون إثباتُ النيّة—وهو عاملٌ رئيس في تحديد ما إذا كانت جريمةُ إبادةٍ جماعية تُرتكب—بالغَ الصعوبة في العادة. فالقادة الذين يسلكون بشعوبهم هذا المسار، والقادةُ الميدانيون الذين يبعثون بجنودهم لقتل الأبرياء، والجنودُ ورجالُ الشرطة الذين يضغطون على الزناد، نادرًا ما يصفون ما يفعلونه بأنه قتلٌ عمد. وقد ردّ الطلّابُ الإسرائيليون المحتجّون الذين منعوني من إلقاء محاضرة في إسرائيل في يونيو/حزيران 2024—وهم شبّانٌ وشابّاتٌ عادوا لتوّهم من خدمة الاحتياط في غزة—على الشائعة بأنّي وصفتُ الحربَ بالإبادية بهتاف: "لسنا قتلة!". ولا ريب أنّهم كانوا يؤمنون بذلك بإخلاص. فالإنكار يسبق الفعلَ ويُيسّره، وقد يطول لأجيال. إنّه يُبقي على الكذبة التي يتعيّن على المؤرّخين فضحُها، محطِّمًا أساطيرَ قوميةً مترسّخة.

ويبدأ الإنكارُ الإسرائيلي برفض رؤية السبب الحقيقي للعنف. فقد بقيت إسرائيل دولةً ذات أغلبية يهودية فقط خلال العقدين الأوّلين من وجودها. ومع الاحتلال الذي تلا حربَ الأيام الستة عام 1967، تحوّلت إلى دولة "خمسين بخمسين"، يتكوّن مكوّنُها الفلسطيني جزئيًا من مواطنين من الدرجة الثانية. أمّا غالبية الفلسطينيين فكانت من سكّان الضفّة الغربية وقطاع غزة الخاضعين للاحتلال، وكثيرٌ منهم ممّن هُجّروا عام 1948 وذراريهم.

وهذه الفئةُ السكّانية بلا حقوق، وتعيش تحت حكمٍ عسكريٍّ يزداد قمعًا. وكان من المحتم أن تُنتج مثلُ هذه الحالة مقاومةً، بما فيها المقاومةُ العنيفة، التي جلبت بدورها مزيدًا من القمع. وقد ظلّت غزّة تحت الحصار ستةَ عشر عامًا بعد سيطرة حماس عليها عام 2007، وخلالها خضعت لرقابة صارمة على الغذاء والماء والكهرباء، وكذلك على الدخول والخروج. وطالما حذّر مراقبون سياسيّون وضبّاطُ مخابراتٍ إسرائيليون من أن انفجار غضبِ المليوني إنسانٍ المسجونين هناك—وهو من أكثر الأماكن كثافةً سكانيّةً وفقرًا في العالم—إنما هو مسألةُ وقت.

وحين انفجر بالفعل، أُدرِكَ العنفُ على الفور بوصفه حدثًا مفاجئًا عصيًّا على التفسير لا يمكن التنبّؤ به. وكان الجذرُ "المعقول" الوحيد هو كراهيةُ الفلسطينيين "اللاعقلانيّةُ الفِطريّة" لليهود. وأنكِر كلُّ ما سبق، عن علمٍ أو بدونه. وأُعيد ضبط الساعة إلى الصفر عند السادسة والنصف صباحًا من 7 أكتوبر/تشرين الأوّل حين بدأ الهجوم: تغيّر كلُّ شيء، وبات لا بدّ من إعادة كتابة التاريخ.

وبالنظر إلى أنّ عنف حماس كان صادمًا وغير مسبوق، وبالنظر إلى أنّه جسّد نيّةً متوحّشةً يُزعَم أنّها إباديّة، كان لا بدّ أن يكون الردّ غيرَ مسبوقٍ ومدمّرًا بالقدر نفسه. ومع ذلك، استُحضرت سوابق—لا تلك العقودُ من الاحتلال والقمع ونزع الإنسانيّة عن الفلسطينيين، بل المحرقة. فقد صُوِّر قتلُ نحو 1,200 شخص، منهم قرابة 800 مدنيٍّ إسرائيلي، فورًا على أنّه أكبرُ مقتلٍ لليهود منذ المحرقة. وكان ينبغي أن يتناسب الردُّ مع هذه الصلة غير المُحتملة بين أوشفيتز وغزّة. لكنّ اليهود هذه المرّة لم يكونوا عاجزين ولم يعتمدوا على شفقة "غير اليهود" وجنودهم. ثمّ إنّه ما دام الهجوم قد سُوّي بالمحرقة (بل إنّ بعضهم زعم أنّه أسوأ منها)، فحماس إذن "نازيون معاصرون"، كما وُصِفوا سريعًا على ألسنة مقدّمي البرامج في وسائل الإعلام السائدة وساسةٍ في إسرائيل، وكذلك في بلدانٍ منها الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة.

وهكذا فإن إنكارَ الاحتلال (وهي كلمةٌ يُعدّ استخدامها في إسرائيل مؤشّرًا على ميولٍ يساريّةٍ راديكاليّة)، وإنكارَ تفوّق إسرائيل العسكري على الفلسطينيين، وإنكارَ رفض الدولة على مدى عقودٍ التوصّلَ إلى أيّ تسويةٍ سياسيّة والتنازلَ عن أيّ أرض، وإنكارَ سياق السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، كلُّ ذلك أسبغ شرعيّةً على ردٍّ على "هجومٍ نازيٍّ" متخيَّل، يمكن أن يُعطى هذه المرّة الإجابة "الصحيحة": الفناءُ التام. "إبادةٌ بإزاء إبادة"؛ الحلمُ السريّ الكامن في اللاوعي لدى أجيالٍ كثيرةٍ من الإسرائيليين الذين لم يتعافَوا من صورة أسلافهم يُساقون كالأغنام إلى المذبح.

ليس هذا مجرد إنكار للظروف المباشرة، بل هو أيضًا إنكارٌ للتاريخ. إنّه محاولةٌ للعودة إلى مسرح الجريمة الأصلية—وفي هذه الحالة "الشواه" (المحرقة)—وقلب نتائجها. خلال حرب 1948، وُجدت رواياتٌ عن ناجين من المحرقة يقاتلون العرب ويتخيّلون أنهم يقتلون مضطهديهم النازيين. أمّا في عام 2023، فلم يكن أحدٌ ممّن يقاتلون حماس على قيد الحياة إبّان المحرقة. غير أنّ الدولة بذلت أقصى ما تستطيع للدفاع عن مشروعها القائم على الاحتلال والقمع عبر إبقاء تلك الذاكرة حيّة—إنكارًا لواقع قمع الآخرين باستدعاء اضطهاد المرء نفسه، أو بالأحرى أسلافه، وقتلهم.

وأخيرًا، هناك إنكارٌ لواقعٍ لا يمكن—لأيّ مراقبٍ موضوعي—إنكاره. وهنا دخلت حيّز الفعل، بفعالية لافتة، الآليةُ التي وصفها فيدال-ناكِه بإحكام: حيث يصيران أمران متناقضان صادقين في آنٍ واحد. أولًا، لا يمكن أن تكون هناك إبادةٌ جماعية في غزة لأن إسرائيل دولةٌ أُنشئت ردًّا على إبادة اليهود؛ ما يجعل أيّ اتهامٍ لإسرائيل بارتكاب إبادةٍ جماعية—خصوصًا بعد تعرّضها لمجزرة يُزعَم أنها شبيهة بالمحرقة—تجديفًا وكذبًا. ثانيًا، لا إبادةَ جماعية في غزة لأن إسرائيل لو أرادت تنفيذ إبادةٍ جماعية لكانت قتلت مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، فورًا. فغزة لا تبدو كالمحرقة: لا معسكراتِ إبادةٍ ولا حُفَرَ إعدام. وبما أنه لا "أوشفيتز" ولا "بابي يار" في غزة، فلا يمكن أن تكون إبادةً جماعية. وبما أنّ الإبادة هي عينُ ما كانت حماس تعتزم فعله بإسرائيل، فلا بدّ من استئصال حماس حتّى إذا عنى ذلك الإبادة.

وفي الوقت نفسه، وبما أن حماس تستخدم السكّان دروعًا بشرية، كما يقولون، فلا خيار سوى إلحاق الأذى بالمدنيين—وذلك، بطبيعة الحال، بوصفه "أضرارًا جانبية". وقتل الأبرياء أمرٌ مؤسف، لكنه ذنبُ حماس. وعلى أيّ حال، لا أبرياءَ في غزة فعلًا، لأنّ الجميع متورّطون، وكلّهم دعموا حماس. وحتى الأطفال، إن سُمح لهم أن يكبروا، فسوف ينضمون إلى حماس ويريدون قتلنا—وخاصةً الآن، بعد أن قتلنا عائلاتهم بأكملها. لكن لا إبادةَ جماعية في غزة. الإبادة الوحيدة هي تلك التي نفّذها النازيون، وتلك التي تعتزمها حماس ضد اليهود الإسرائيليين، ولذلك يجب تدميرها. وإذا حاول أحدٌ ارتكاب إبادةٍ جماعية ضد الدولة اليهودية، فلا خيار سوى استئصاله.

وقد استُخدم منطقٌ دائريٌّ مماثل من الإنكار ومنح رخصةٍ للقتل بخصوص التجويع. ففي 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن وزيرُ الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يوآف غالانت، أن غزة لن تتلقّى طعامًا ولا ماءً ولا كهرباء، وأنّ حماس "حيواناتٌ بشرية" وسيتم التعامل معها على هذا الأساس. لكن ما يترتّب على هذا التصريح نُفي بوصفه كلماتٍ قيلت غضبًا عقب مجزرة حماس. ولمّا طبّقت إسرائيل بالفعل هذه السياسات، فخنقت السكّان تدريجيًا بعدما دمّرت منازلهم ومحطّات المياه والكهرباء، ولمّا استهدف الجيشُ الإسرائيلي عمدًا البنيةَ التحتية الطبية في القطاع والعاملين الطبيين والأطباء، نُفيت النيّةُ الواضحة لهذه الأفعال. وكانت الحجّة أنّ المقصود هو فقط القضاء على حماس، التي جعل انتشارُها الواسعُ الجيشَ الإسرائيلي بلا خيارٍ آخر.

وحين أفادت تقاريرُ من غزة بتفاقم أزمةٍ إنسانية ونقصٍ في الغذاء، ردّت إسرائيل بإنشاء "مؤسّسة غزة الإنسانية" مع الولايات المتحدة، لتدفع بمليوني جائعٍ إلى أربعة مراكز توزيع. وفي هذه المراكز، أُطلق الرصاص على المئات ضمن سياسةٍ وحشيةٍ لاستخدام الرصاص وقذائف الدبابات والمدفعية لضبط الحشود. وكلّ ذلك جرى فيما كانت الحكومةُ الإسرائيلية تنكر وجودَ أيّ مجاعةٍ في غزة أصلًا.

 

وهكذا فإن الواقع الذي يعيش فيه معظمُ سكّان إسرائيل قائمٌ على طبقاتٍ من الإنكار، تضخّمها الغالبيةُ الساحقة من وسائل إعلام البلاد. ومع ذلك، تُظهر الأدلّة أنّ إسرائيل استخدمت التجويع أداةً من أدوات الحرب منذ البداية، تمامًا كما قال قادتها في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إنهم سيفعلون. وتُظهر أيضًا أنّ هدفَ حكومة إسرائيل، كما يصرّح كثيرٌ من الساسة حتى اليوم، كان جعلَ غزة غيرَ صالحةٍ للعيش لسكانها، ودفعَ الفلسطينيين إلى أقصى جنوب القطاع، والبحثَ عن دولٍ تستوعب أكبرَ عددٍ ممكن منهم، فيما تُضعِف إسرائيل وتفتك بمن يبقون هناك.

وتُظهر الأدلّة أنّ الغالبية العظمى من القتلى في غزة—المقدَّر عددهم بين 66,000 (الحصيلةُ الرسميةُ الراهنةُ من السلطات الفلسطينية) و100,000 (الذي ترى بعضُ الدراسات، ومنها في "ذا لانست"، أنه العددُ الحقيقي)—كانوا من المدنيين. ومن هؤلاء ما يصل إلى 20,000 طفل، وأنّ الضررَ النفسيَّ والجسديَّ طويل الأمد الذي أُلحِق بالسكان—وخاصةً الأطفال—سيمتدّ لأجيال. وتُظهر الأدلّة أنّ الفظائع التي قد تُعَدّ "تطهيرًا عرقيًا" أصبحت إباديّةً لأنّ الناس في غزة لا ملاذَ لهم. وقد استُهدِفت مرارًا "مناطقٌ آمنة" مزعومة آخذةٌ في الانكماش.

وأخيرًا، تُظهر الأدلّة أنّ مجرّد استخدام مصطلح "حرب" لوصف ما يجري في غزة منذ صيف 2024، على الأقل، ليس إلا تلطيفًا لغويًا لحملةٍ منهجيةٍ من التهديم. وتُقدّر الأممُ المتحدة أنّ أكثر من 70% من جميع المباني—بما في ذلك 92% من مساكن غزة، ومعظمُ المدارس والمستشفيات والمساجد والجامعات والمتنزّهات والمتاحف والأراضي الزراعية والأرشيفات وسائر المباني العامة—قد دُمّر أو تضرّر. وقد آلَت الدعوةُ إلى تحقيق "نصرٍ كامل" على حماس إلى معنى محو المجتمع الفلسطيني في غزة، لأن—كما زُعِم مرارًا منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2023 على ألسنة إسرائيليين، منهم الرئيسُ إسحاق هرتسوغ—كلَّ فلسطينيٍّ في غزة يتحمّل مسؤولية فظائع السابع من أكتوبر. وفي سبتمبر/أيلول، خلصت لجنةٌ مستقلة تابعةٌ للأمم المتحدة إلى أنّ إسرائيل ارتكبت جريمةَ إبادةٍ جماعية في قطاع غزة.

ولدى ذهاب هذا العدد من المجلّة إلى الطباعة، بدا أنّ اتفاقَ وقف إطلاق النار وشيك. وبحسب كلّ المؤشّرات، يريد معظمُ الإسرائيليين اليوم توقّفَ الحرب. يريدون إعادةَ الرهائن الذين اختطفتهم حماس إلى بيوتهم، ويريدون—وبهامشٍ كبيرٍ نسبيًا—رؤيةَ بنيامين نتنياهو وحكومته الفاسدة المتعطّشة للدماء خارج السلطة. لكنّ معظم هؤلاء أنفسهم لا يُبدون إلا قليلًا من التعاطف، إن وُجد، مع سكّان غزة. وكما كان حالُ الألمان بعد الحرب، يبدو من المستحيل على الإسرائيلي العادي أن يعترف بأن جيشَ الدفاع الإسرائيلي كان منخرطًا في حربٍ إجراميةٍ إباديّة. فارتباطاتهم الشخصية والعائلية بالجيش عبر أجيالٍ عدّة تقتضي وقتًا، أو مسارًا حقيقيًا للجبر والحقيقة والمصالحة مع الفلسطينيين، كي يعترفوا—كما اعترف الألمان بعد أكثر من أربعة عقود على الحرب العالمية الثانية—بأنّ الجيش ينفّذ عمليةً إفنائيّة. ومن المرجّح أن يستمرّ الإنكارُ إلى عتَب الشيخوخة لدى الجنود الذين يخدمون اليوم.

غير أنّ إسرائيل—كما حدث في بلدانٍ أخرى، في أزمنةٍ أخرى—لن تقدر على مواجهة جرائمها إلا إذا أُجبرت على دفع ثمنٍ باهظٍ لها، لا عبر عمليةِ تأمّلٍ ذاتي. عندئذٍ فقط تبدأ جدرانُ الإنكار في التصدّع. ولحدوث ذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية أن تُفيق من إنكارها الظاهر لما تعرف يقينًا أنه جارٍ على الأرض. وبصفتهم موقّعين على اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فهذا التزامٌ عليهم؛ وباعتبارهم الحماة المفترضين لسيادة القانون الدولي وحقوق الإنسان، فهذا واجبُهم. وطالما أنهم لا يتحرّكون، فسيظلون متواطئين في هذا الهول، كما في إنكاره.

 

رابط المقال الأصلي: https://www.prospectmagazine.co.uk/world/israel/71213/a-state-of-denial-israel-gaza