طريق حزب الله لدرء الأسوأ بالسيئ
كتب: عريب الرنتاوي
لا يكفي أن يعمل حزب الله على "ترميم" بنيته العسكرية
والقتالية، وأن يملأ فراغات سلسلة القيادة والسيطرة والتحكم لجهازيه السياسي
والعسكري، تلكم مهمة بالغة الأهمية، من شأنها أن تجعل أية مغامرة إسرائيلية، مكلفة
للغاية، رغم أن أغلب الترجيحات تذهب للتقدير بأن أمراً كهذا، لن يردع إسرائيل عن
تنفيذ هجمات قاسية ضد الحزب وبيئته، إن توفر لها الغطاء السياسي، الأمريكي حصراً.
وهي مهمة لا غنى عن إنجازها، بل والتسريع في إتمامها، لمواجهة
"السيناريو الأسوأ" الذي يطل برأسه البشع بين الحين والآخر، من ثنايا
تصريحات ومواقف المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين، وغالباً، بتأييد واضح من
قبل واشنطن، ورسلها المدججين برسائل التهديد والوعيد لكل من يعارض الهيمنة
المزدوجة، الأمريكية-الإسرائيلية.
الحركات والمنظمات، كما الدول، تبني استراتيجياتها وبرامجها وخطط
عملها، للتعامل مع أسوأ السيناريوهات، فإن وقعت الواقعة، كانت على أتم جاهزية
متاحة، وإن أمكن تفاديها، فذلكم، خير وبركة، تلك قاعدة جدية، لمن يأخذ مسؤولياته
على محمل الجد، والحزب كما دللت تجربته التاريخية، معروف بتصدره هذه الشريحة من
القوى والحركات.
لكن ذلك في المقابل، يُملي على الحزب العمل على درء الأسوأ بالسيئ،
إذ ليس بالضرورة أن يكون البديل عن "السيناريو الأسوأ"، سيناريو حسن،
هذا لا يتوفر دائماً، وليس متاحاً طوال الوقت، سيما في ضوء نتائج غير مواتية، لحرب
طاحنة، غير مسبوقة في تاريخ الحزب والمقاومة والمنطقة، دشّنها السابع من أكتوبر
2023...ما حصل على جبهة غزة، التي ما زالت نازفة ومفتوحة، أن المقاومة ذهبت
بقبولها اتفاق العاشر من أكتوبر، ومن قبلها، تعاطيها المرن مع مبادرة ترامب، إلى
خيار المفاضلة، بين سيئ وأسوأ، فاختارت الأول لدرء الثاني، والحزب لا ينبغي أن
يكون بعيداً عن هذه التجربة.
يؤمن الحزب، كما يفعل كثيرون غيره، أن أي حرب إسرائيلية جديدة،
يجري استئنافها على لبنان، لن تنتهي مهما اتخذت من وتائر وسلكت من سيناريوهات،
بتصفية الحزب أو تدمير كل سلاحه، فالحزب في لبنان، كما حماس في غزة، ليس نفقاً أو
مستودع ذخيرة، ولا يمكن اختزاله بسلاحه، أو بنوع محدد منه، الحزب، فكرة وبنية
وجذور ضاربة في عمق التربة الاجتماعية، لبيئته الحاضنة على أقل تقدير، ومهمة
إنهائه أو تصفيته، تبدو "معزوفة سمجة"، لا تُطرب أحداً سوى
"المخبولين" من "الجوقة إياها"....لكن الحزب يدرك، وعليه أن
يدرك، أن أي حرب قادمة، قد تعيده خطوات واسعة للوراء، وتضعه على منصة أدنى بكثير،
من تلك التي يقف عليها اليوم، إن في حسابات السياسة الداخلية، أو على مستوى المشهد
الإقليمي الأوسع، فالبيئة السياسية المحيطة بالحزب، محلياً وإقليمياً ودولياً،
ليست مواتية تماماً، بل وتعطي مجرمي اليمين الفاشي في تل أبيب، ما يحتاجونه من دعم
وغطاء و"فسح زمنية"، حتى وإن تعالت عبارات الإدانة والتنديد، عن عواصم
هذه البيئة.
يعني ذلك من ضمن ما يعني، ومن باب درء الأسوأ بالسيئ، أن الحزب
ملزم بفتح جبهة سياسية، تتخطى حدود تحالفاته التقليدية ومحورها المعروف، ثمة حدود
وقيود، لما يمكن لهذه الأطراف أن تفعله، أو أن تقدمه للحزب على المسار
السياسي...توسيع دائرة الاستهداف، مع قوى ليست معروفة بودّها، لا الظاهر ولا
الباطن، للحزب وخياراته وتحالفاته، هو أمر لا بد من تجريبه، على أمل تسجيل
اختراقات سياسية، تعظم من فرص درء الأسوأ.
في مرات سابقة، قلنا وكتبنا، أن ما يميز وضعية الحزب في لبنان، عن
وضعية حماس في غزة، أن الأخيرة حظيت بـ"شبكة أمان"، تتجلى في
"ثلاثي الوساطة" و"مجموعة الثمانية"، وهي شبكة يمكن القول،
إنها ضعيفة، وتنطوي على "ثقوب" تتسع وتضيق، تبعاً لتطورات الميدان
ومجريات حرب الإبادة والتطهير، وتتعزز برأي عام دولي ضاغط وميل رسمي
"دولاتي" دافع باتجاه إنهاء الحرب البربرية على القطاع وأهله، الأمر
الذي لا يتوفر لحزب الله، أو على الأقل، لا يتوفر له بالقدر ذاته.
ليس الحزب بغافل
ليس الحزب بغافلٍ عن أهمية وإلحاحية خوض غمار هذه الجبهة، إذ سبق
له وأن بعث برسائل معلنة ومضمرة، مباشرة وعبر وسطاء، إلى العواصم ذات الصلة في
الإقليم، والتسريبات الأخيرة، التي يجري تقاذفها بين نفي وتأكيد وتسريب، تشف عن
ميلٍ واضح لدى الحزب للسير على هذا الطريق، لكن وتائر الحركة على هذا المضمار،
تبدو أبطا بكثير من وتائر التصعيد وقرع طبول الحرب...الأمر الذي يوجب تحركاً
مغايراً، أكثر فاعلية وأكثر ذكاء في اختيار البوابات والمفاتيح، وأكثر مرونة في
البناء على ما يمكن أن يكون مشتركاً من مصالح ومخاوف وهواجس، وربما
"رغبات" في اجتراح أدوار ومعجزات، لدول وعواصم، لا تكاد تترك بؤرة توتر
واحدة في هذا العالم، إلا وتتدخل في ثناياها، عارضة وساطتها ومساعيها الحميدة.
قرأنا عن زيارات، وربما لقاءات، أجراها قادة من الحزب في أنقرة
والرياض، لسنا متأكدين من شيء بعد، سيما في ضوء التزام الأطراف، جانب الصمت،
والنفي في حالات استكشافية كهذه، ربما يكون أقرب إلى التأكيد، وربما يكون صحيحاً
تماماً... ليس هذا هو المهم، الأهم، أن على الحزب أن يواصل التحرك ويكثفه في
اتجاهات شتى، ولو من باب "نزع الذرائع" أو على أقل تقدير، توضيح الموقف،
ودفع اللائمة عن الذات، حال اندلاع أي تصعيد لاحق.
ثمة مفاتيح مهمة لبدء هذا المسار وتفعيله، مصر تقف في صدارة
البوابات التي يتعين ولوجها، لتفتيح هذه المسار وتسليكه، وهي تبدي اهتماماً فائقاً
بالعمل على تفادي سيناريو تجدد الحرب، ولها مصلحة مباشرة في منع اندلاعها واحتواء
دائرة النيران التي ما فتئ نتنياهو واليمين الفاشي يعملان على إشعالها، وهي
"الدبلوماسية العربية" الوحيدة الحاضرة بكثافة في تفاصيل المشهد
اللبناني، برغم محدودية "الموقف" و"القدرة" المصرية الناجمة عن أسباب وسياقات لا مطرح لمناقشتها في
هذه المقالة.
تركيا التي تجد نفسها على "سكة صدام" مع إسرائيل في
سوريا وعليها، ولديها بواعث قلق من حلفين: "حلف الأقليات" في سوريا،
الذي يعطي "قسد" موقعا قيادياً، وحلف "
إسرائيلي-قبرصي-يوناني"، ناشئ ويتطور شرقي المتوسط، فيما الفجوة التي تباعدها
عن تل أبيب في غزة وفلسطين، ما زالت على اتساعها...تركيا بمخاوفها وحساباتها هذه،
يمكن أن توفر ما يكفي من قواسم ومصالح مشتركة، تؤسس لصفحة تعاون سياسي، سيما في
ضوء علاقات التعاون التي لا تلغي التنافس والتزاحم، التي تربطها بإيران.
والحديث عن تركيا، يستتبع حكماً، حديثاً مماثلاً عن قطر، التي تنشط
في جهود الوساطة و"المساعي الحميدة" في شتى أرجال المعمورة، ولديها من
الروابط مع تركيا ما يكفي لتنظيم حراك مشترك، ولديها تجربة في إطار "ثلاثي
الوساطة" في غزة، ما يكفي لتوسيع نطاق التجربة، وهي على "شراكة
استراتيجية" مع واشنطن، ولديها قنوات مفتوحة مع طهران، وصلاتها مع إسرائيل،
لم تتوقف برغم العملية الغادرة التي نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي في الدوحة،
ضد قيادة حماس.
السعودية، هي مربط الفرس، وذروة سنام هذا المسار، وفتح بواباتها
بحاجة لمفاتيح عدة، وهي بعد زيارة ولي عهدها الأخيرة لواشنطن، باتت لاعباً وازناً،
لديه القدرة على التأثير على إدارة ترامب، ولقد تجلى في ملفات عدة، ليست سوريا سوى
واحدة منها.
مسقط وبغداد، لديهما الكثير مما يمكن تقدمته للمسار السياسي إن قرر
الحزب ولوجه على اتساعه، وللعاصمتين تجربة وازنة، في التقريب بين عواصم متناحرة،
وكلتاهما لعبتا أدواراً مهمة، إن بين الرياض وطهران، أو بين الأخيرة وواشنطن،
والوصول إليهما أمرٌ متاح للحزب، بل وفي متناول اليد.
ويمكن لتفعيل الجبهة السياسية، أن يساعد الحزب على
"تبريد" الأجواء مع الإدارة السورية الجديدة، وتطبيع العلاقات معها،
وتبديد المخاوف المنبعثة من إرث صدامي، امتد بامتداد سنوات الأزمة السورية، وتلكم
من "النتائج الجانبية" التي يمكن إنجازها، بالاعتماد على أدوار متنامية لبعض
الأطراف التي أشرنا إليها في سوريا الجديدة، من دون أن يمس ذلك، بالمكانة المحورية
لهدف تجنب الحرب مع إسرائيل وتفاديها.
صعب، ولكن
ليس الطريق لتوسيع الجبهة السياسية، سالكة وآمنة، وفي الاتجاهين،
فالأطراف المستهدفة، كما أشرنا، لا تُكن ودّاً للحزب، ولكنها أطراف لها حسابات
ومصالح، أهمها أن اتساع دوائر الحرب والخراب والدمار، بات يتسبب بحرج أشد لها، كما
أن غطرسة نتنياهو وجنونه، باتا يثيران قلقاً وهواجس دفينة في أوساطها، وثمة حسابات
مضمرة، بدأت تضع إسرائيل في قائمة "مهددات الأمن الوطني" لبعضها، بعد أن
كان يُنظَرُ إليها بوصفها حليفاً مرجحاً ومفضلاً.
ومن نافل القول، إن استجابة هذه الأطراف لمساعي الوساطة، يمكن أن
يُعرّض الحزب لضغوطات هائلة، تستهدف انتزاع تنازلات غير مرغوبة، لكنها
"الدبلوماسية" كما الحرب، ساحة مواجهة وعض أصابع، تحسم نتائجها أساساً،
موازين القوى وتوازناتها، وهي وإن كانت من أسفٍ، لا تميل في هذه المرحلة لصالح
الحزب والمقاومة عموماً، إلا أن الصمود على موائد الدبلوماسية ليس ترفاً فائضاً عن
الحاجة.
كما أن "الإشارات" التي تصدر عن واشنطن، وتشي بمقاربات
جديدة، لقضايا الحل والحزب والسلاح، لا نعرف حدودها ومدياتها بعد، يمكن أن تشجع
الأطراف المنشودة، على تفعيل أدوارها، رهاناً على "براغماتية" أمريكية، يمكن أن تفتح أفقاً جديداً.
وهنا، هنا بالذات، نفتح قوسين، للإشارة إلى أن مصلحة الحزب، كما
نقرأها، تُملي التعامل بمرونة مع أية دعوات لإجراء تفاوض مباشر مع واشنطن، وهو أمر
لا يبدو مستبعداً أبداً، بعد تدشين قناة خليل الحيّة-ستيف ويتكوف، مع حماس،
فالمفاوضات تجري بين الخصوم والأعداء، فيما الحوار يختص بالأصدقاء والحلفاء، و
"من نكد الدنيا على المرء، أن يرى عدواً ما من مفاوضته بُدُّ"، وإذا كان
رفض الحزب إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، أمراً مفهوماً ومحموداً، فإن الحال لا
ينطبق بالضرورة على واشنطن.













