ما يحاك بشأن غزة ويغفل عنه الكثيرون


قال
الكاتب والباحث في الصحافة العبرية الدكتور حيدر البستنجي إن تصريحات الرئيس
الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن غزة لا تعد مجرد تفصيلٍ عابرٍ في سياق الجدل السياسي
المتصاعد داخل واشنطن، أو حتى مناورات خطابية تستهدف دغدغة عواطف ناخبيه
المحافظين، كما يحاول بعض الواهمين إقناع أنفسهم. وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة
"أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه التصريحات جاءت لتُزيح الستار عن
مخططٍ استراتيجيٍ متكاملٍ، حُبكت خيوطه في دوائر صنع القرار الأمريكي منذ سنوات،
وتقاطعت مساراته مع الرؤية الإسرائيلية طويلة الأمد، والتي تقتضي إعادة رسم ملامح
المشهد الجيوسياسي في المنطقة، استنادًا إلى معادلة الهيمنة المطلقة والإقصاء
الممنهج.
وبيّن
البستنجي أن القراءة المتأنية لمضامين التقارير الصادرة عن وول ستريت جورنال
ومراكز الأبحاث الغربية المرموقة، تكشف بوضوح أن ما يُطرح اليوم لم يكن وليد
اللحظة، وإنما يعد جزءًا من مشروعٍ أوسع، جرى الإعداد له في الكواليس، حيث تكاملت
فيه الاستراتيجيات الأمنية مع الأجندات الاقتصادية، لخلق بيئة طاردة للفلسطينيين،
تمهيدًا لإعادة هيكلة القطاع وفق تصورات جديدة تتجاوز الأبعاد العسكرية التقليدية،
ففي الوقت الذي أوكلت فيه لإسرائيل مهمة تفكيك البنية التحتية للوجود الفلسطيني في
غزة عبر القصف والاستنزاف، تتجه واشنطن إلى فرض نموذجٍ استثماري - أمني يُحوّل
القطاع إلى منطقة نفوذٍ متعدد الأطراف، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع مقتضيات
السيطرة السياسية، ضمن إطار إعادة هندسة النفوذ الأمريكي في المنطقة.
أما
إسرائيل، التي لعبت الدور المحوري في تأجيج الفوضى الميدانية، فلم تكن سوى رأس
الحربة في تنفيذ هذه الخطة، إذ إن الهدف الاستراتيجي الحقيقي يتجاوز المسألة
الغزاوية بحد ذاتها، ليصل إلى منح تل أبيب ضوءًا أخضر لفرض معادلات جديدة في الضفة
الغربية، مستفيدةً من الانشغال الدولي بالمأساة الإنسانية في القطاع، وفي المقابل،
تضمن واشنطن لنفسها موطئ قدمٍ أكثر رسوخًا في خارطة الشرق الأوسط، عبر تبنّي
سياسات تقوم على استبدال أدوات السيطرة العسكرية المباشرة، بآليات النفوذ
الاقتصادي والسياسي طويل الأمد.
ونوّه
إلى أن المفارقة الكبرى تظهر في بعض النخب السياسية الفلسطينية، التي من المفترض
أن تمتلك القدرة على استشراف السيناريوهات القادمة، والتي لا تزال رهينة إنكارها
المزمن للواقع، متكئةً على تحليلاتٍ سطحيةٍ أقرب إلى الأمنيات منها إلى المعطيات
العلمية، فحين اندلعت الحرب، خرجت أصواتٌ متحمسةٌ تؤكد أن الاحتلال عاجزٌ عن
اجتياح غزة بريًا، مدفوعةً بقناعاتٍ مسبقةٍ لا تستند إلى قراءةٍ دقيقةٍ للمتغيرات
العسكرية، وحين بدأت المؤشرات تتوالى حول وجود خطة لإحداث تغيير ديمغرافي قسري،
سارع بعضهم إلى دحضها، ليجدوا أنفسهم اليوم أمام وقائع دامغة تؤكد بما لا يدع
مجالًا للشك أن هذا السيناريو خطة قيد التنفيذ.
وشدد البستنجي على أن الخطر هو استمرار هذه
العقلية الإنكارية لا يُفضي إلا إلى المزيد من الإخفاقات الاستراتيجية، حيث باتت
الأدوات التقليدية في التعاطي مع الأزمة غير مجدية، في ظل تسارع إيقاع التحولات
الدولية والإقليمية، فبينما ترسم القوى الكبرى ملامح المرحلة المقبلة وفق أجنداتها
الخاصة، يبقى الفلسطينيون في موقع المتلقي، يُدفعون دفعًا نحو خياراتٍ لم يشاركوا
في صياغتها، ويتعاملون بردود فعلٍ ارتجاليةٍ، بدلًا من بناء سياساتٍ استباقيةٍ
تعيد صياغة معادلات القوة لصالحهم. واستطرد متسائلًا ما إذا كان أصحاب القرار
الفلسطيني يدركون أن المشهد الراهن بعيد كل البعد عن مجرد جولةٍ عابرةٍ في سلسلة
المواجهات التاريخية، فهو نقطة انعطافٍ مصيريةٍ ستحدد ملامح الوجود الفلسطيني في
العقود القادمة، إلى جانب ما إذا كنا سنبقى أسرى الخطابات الشعبوية، نكتفي
بالتصعيد الإعلامي، فيما تستمر الأطراف الأخرى في فرض وقائع جديدة على الأرض، دون
أن نملك أدوات التأثير في مسار الأحداث؟
واختتم البستنجي قوله: "أشبعناهم شتمًا،
وفازوا بالإبل
نقلا
عن "اخبار الاردن"