سورية: فشل الداخل وتدخل الخارج


د. عامر السبايلة
لم تغب سورية يومًا عن واجهة الأحداث، لكنها تعود اليوم من بوابة
الصراعات الطائفية من جديد. قبل شهرين، شهد الساحل السوري مجازر مروّعة استهدفت
أبناء الطائفة العلوية، وها هي الأحداث تتكرر باستهداف المكوّن الدرزي، في مشهد
يعزّز خطر الانزلاق إلى حرب أهلية، ويؤكد أن التركيبة الحالية للدولة السورية لم
تعد قابلة للاستمرار.
ورغم أن معظم الدول العربية سارعت
لاحتواء الوضع السوري والمساهمة في دعم النظام تدريجيًا، أملاً في ملء الفراغ الذي
نتج عن انهيار الدولة، إلا أنه لا بد من الإقرار بأن نظام أحمد الشرع
"الجولاني" فشل خلال أقل من شهرين في أول اختبار حقيقي لبناء الدولة.
النجاح بقي محصورًا في التصريحات، بينما تجلّى الفشل في غياب أي تطبيق فعلي، وهو
ما شكّل العنوان الأبرز للمرحلة الماضية التي امتدت على مدى خمسة أشهر.
إن التغيير الحاصل في سورية هو في جوهره
نتاج لمعطيات إقليمية فرضتها التحوّلات بعد السابع من أكتوبر، وليس نتيجة ثورة
وطنية جامعة ومتجذّرة. لذلك، فإن الامتحان الأهم لسورية اليوم هو امتحان داخلي
بامتياز: كيف يمكن صياغة حل وطني جامع؟ وكيف يمكن التوصل إلى نظام حكم يلقى قبولًا
من مختلف المكوّنات السورية بعد سنوات من التمزق الجغرافي والسياسي والاجتماعي؟
إن استفراد فئة واحدة بالسلطة وادعاءها
تمثيل كافة أطياف الشعب السوري، أو محاولة فرض سيطرة على كامل الجغرافيا، ليس سوى
شكل من أشكال التحايل على الواقع. ومن الطبيعي أن يقود هذا النهج، عاجلاً أو
آجلاً، إلى تفجّر الصراعات الداخلية، ويجعل من فكرة التعايش السلمي بين مكوّنات
المجتمع السوري مسألة أقرب إلى المستحيل.
صحيح أن الامتحان الداخلي هو الأبرز،
إلا أن الواقع الإقليمي يلعب دورًا بالغ الأهمية في إعادة تشكيل الداخل السوري.
فإسرائيل، ومنذ سقوط النظام في دمشق، لم تتوقف عن إعادة صياغة المشهد السوري
عسكريًا وأمنيًا على الأرض. وقد اتخذت خطوات إستراتيجية لتدمير البنية التحتية
العسكرية السورية، وضمان عدم إعادة تأهيلها، كما تمركزت عسكريًا في مناطق داخل
سورية تعتبرها حيوية لأمنها القومي المستقبلي. لقد فرضت إسرائيل بذلك واقعًا
جديدًا على الجغرافيا السورية، لكنه واقع لا يمكن أن يمرّ دون تأثير عميق في
الخريطة السياسية والمجتمعية.
إن التدخل الإسرائيلي أعاد خلط الأوراق
داخل سورية، وفتح باب التحالفات الداخلية مع قوى إقليمية. وفي هذا السياق، يظهر
اللاعب الإسرائيلي كأكثر الأطراف فعالية، خاصة بعد هجوم السابع من أكتوبر، إذ لم
تتردد تل أبيب في استخدام القوة والقيام بعمليات عسكرية مباشرة في أي جبهة ترى
فيها تهديدًا لمصالحها.
ومع فشل الإدارة المؤقتة في تقديم حل
داخلي مقبول، وازدياد التدخلات الخارجية، باتت المكوّنات السورية تبحث عن تحالفات
خارجية هدفها الأساس الحماية والتأمين، في ظل غياب سلطة قادرة على الضبط. كما أن
تكرار تشكيل لجان التحقيق من قبل النظام المؤقت، والتي تفقد معناها مع كل موجة عنف
جديدة، يضعف صورته ولا يبرّئه من المسؤولية، خاصة في ظل الحديث المستمر عن
"عناصر منفلتة" تُستخدم كشمّاعة لتبرير الفوضى.
من منظور واقعي، فإن البحث عن حل للأزمة
السورية لا بد أن ينطلق من تقديم حلول نوعية تعزّز مبدأ التعددية، وتمنح مختلف
الفئات مساحة من الاستقلالية. وهذا يعني أن سورية، كي لا تصل إلى نقطة اللاعودة،
بحاجة إلى مقاربة سياسية جدية، تتجسّد في نظام لا مركزي يحافظ على وحدة الدولة
بصيغتها العامة، لكنه يمنح المكوّنات المختلفة حق إدارة شؤونها اليومية وفق
خصوصيتها الاجتماعية والثقافية.
الغد