الثائر يتحرر أخيرا.. الثائر حر


د. موسى العزب
استعاد جورج إبراهيم عبد الله حريته أخيرًا، بناءً على قرار محكمة
الاستئناف في باريس، وهكذا تمكّن المناضل العربي من العودة إلى عائلته وحضن وطنه
بعد 41 عامًا من السجن، وسط استقبال شعبي حار وحاشد يليق بمكانته وتضحياته، وما
عاناه من اضطهاد سياسي وقضائي فاضح، فكان أقدم سجين سياسي في فرنسا وأوروبا.
جورج عبد الله أُدين عام 1987 بتهمة التواطؤ في اغتيال
"دبلوماسيين”، وهما في الواقع رئيسا جهازي تجسس لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية
والموساد الإسرائيلي.
أحزاب يسارية، وبرلمانيون، وقوى
نقابية ومجتمعية فرنسية وأوروبية، ساعدوا على كسر عزلة المناضل اللبناني الفلسطيني
الأممي الكبير، من خلال المناداة المتواصلة بإطلاق سراحه، وزيارته بانتظام في سجنه
المعزول في أقصى جنوب فرنسا.
طوال وجوده في زنزانته، تمثل جورج روح المقاتل العنيد؛ رفض
إبداء الندم على نضاله، كما رفض الاعتذار لسجانه، وأظهر روحًا نضالية عالية، فحمل
رمزية كفاحية سامية، وشكّل حلقة وصل نضالية بين القوى الثورية في أوروبا.
ورغم تجاهل وسائل الإعلام الرئيسية
له طويلاً، إلا أن هذا النصر هو في المقام الأول انتصاره.. انتصاره بصيانة مبادئه،
وانتصاره بالتمسك ببوصلته نحو فلسطين مهما اختلفت المرحلة، ومهما تبدّلت وسائل
الكفاح.
هذا الإفراج الذي جاء نتيجة حملات تضامن وتعبئة شعبية
عربية وأجنبية متعددة، لم تتوقف أبدًا، كما يؤكد بعض المراقبين أن حضور القضية
الفلسطينية الطاغي في الأوساط الشعبية الأوروبية بعد 7 أكتوبر، جعل من ضرورة إطلاق
سراحه قضية ملحّة وممكنة.
رغم مرارة الغصّة الكبيرة في هذا الظرف الخاص الذي تتعرض
فيه غزة للإبادة الجماعية، وتتعرض فيه القضية الفلسطينية لمحاولات التصفية، يجيء
تحرير الثائر عبد الله ليشكّل حدثًا كبيرًا، يعيد ذاكرتنا إلى عصر النضال الجسور
الصلب، ويغمر صدورنا بمشاعر الاعتزاز، مولّدًا عددًا من المشاعر الممزوجة بالغضب
على اعتقال مسيّس مشين، كشف فساد القضاء الفرنسي، وفضح وجود تواطؤ جرمي بين السلطة
السياسية والسلطة القانونية الفرنسية، وانصياعهما للضغوط الأمريكية.
جورج إبراهيم عبد الله دخل السجن كمناضل عربي، وغادره
كمناضل عربي لم تتغير قناعاته، وكان يدرك أن هذا التحرر هو أيضًا، وفي جوهره، ثمرة
لموقف تضامني ثابت، وتعبئةٍ استمرت في النمو، انطلاقًا من القواعد الشعبية،
والحملات الموحدة، وتعبئة تصاعدت على مر السنين، أكّدت حضوره الثائر في الوجدان
كأمثولة صمود، وأيقونة نضال مستمر.
في بيروت، فرحنا بعودته إلى ساحات النضال، وترفّعه عن
ذاته، وبدل أن يتحدث عن معاناة اعتقاله، استذكر أحبّاءه ورفاقه، ودعا إلى استمرار
النضال من أجل فلسطين، وضرورة العمل من أجل إطلاق سراح الأسرى في سجون الاحتلال،
ويقول: "لولا المقاومة هنا، ولولا ارتقاء الشهداء، لما خرجت من السجن”.
يُذكّر جورج عبد الله بالمسؤولية
التاريخية لقوى المقاومة، ويُبشّر بأن إسرائيل تعيش مرحلتها الأخيرة، ويدعو إلى
تحالف واسع لكل هذه القوى الحية في جبهة واحدة، للتصدي للإمبريالية والصهيونية على
طريق تدمير الرأسمالية، وبناء المجتمع الاشتراكي.
لقد أسهمت إطلالة جورج عبد الله المبشّرة بكسر سردية
التقسيم المذهبي والطائفي، وإعادة شيء من الروح إلى نبض المقاومة.. وطالما هناك
مقاومة، هناك عودة حتمية إلى الوطن.