حين تحدى محمد بكري الصهيونية في هوليوود
لميس اندوني
في العامين الأخيرين، أضاءت السينما الفلسطينية سماء هوليوود،
ولعل قباحة حرب
الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة فتّحت العيون وأيقظت قلوب الملايين في الغرب، فرأينا
قفزة نوعية في تحدي هوليوود ونجومها سطوة اللوبي الصهيوني المهيمن عليها، التي
كانت من المحرمات، وضغوط الحكومة الأميركية، حتى أن أربعة أفلام رُشحت لجائزة
أوسكار لعام 2026.
لكن المشهد لم يكن كذلك قبل أربعة عقود، لذا كانت المفاجأة
حين بدأ عرض فيلم لا يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي، بل يتحدى ادعاء الصهيونية بأن
إقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين هو تكريم لضحايا الهولوكوست وضرورة لحماية
اليهود من محرقة أخرى. ذلك كان فيلم "هانا ك." (.Hanna K)، وهو مختصر اسم
هانا كوفمان.
الفيلم، الذي عرض أول مرة عام 1983، وضع هوليوود وعالم
السينما أمام حقيقة لا يريد أحد رؤيتها؛ أي استغلال إسرائيل لمأساة المحرقة
اليهودية في ألمانيا النازية، وما هو إلا تورية غير أخلاقية لحقيقة اقتلاع الشعب
الفلسطيني من أرضه.
كانت تلك المرة الأولى التي سمعتُ فيها اسم محمد بكري (1953 -
2025)، ثم شاهدت الشاب الفلسطيني الجميل على الشاشة يلعب دور شاب فلسطيني يدعى
سليم بكري. في هذا الدور، يمثّل بكري نموذجاً لكل فلسطيني فقد بيته جراء النكبة،
ويجسد مشاعر كل فلسطيني مصمم على استرداد حياته.
كان يتحرك بشموخ حتى حين حاصره الجنود الإسرائيليون لاعتقاله.
كانت عيناه الزرقاوان تخفيان عمقاً من العواطف يعبّر عنها بنظرة، أو نظرات، من
الغضب والحزن والحب من دون أن تتزعزع إرادته أو تلين.
عنوان الفيلم خدع كثيرين؛ فلم تكن فلسطين في العنوان، ولكن
الفيلم شكك وبشجاعة في مشروعية المشروع الصهيوني والادعاءات غير الأخلاقية التي
كان تُروّج تحت شعار العدالة لضحايا الهولوكست.
عنوان الفيلم كان يحمل اسم محامية يهودية هي هانا كوفمان، وفي
ذلك الزمن أوحى بقصة أخرى عن إسرائيل بوصفها معجزة خلاص يهود العالم، لكن المخرج
العالمي (اليوناني الفرنسي) العبقري كوستا غافراس قدم نصاً عميقاً في معناه بسيطاً
في سلاسة سرديته: مهاجرة يهودية إلى "أرض الميعاد" تواجه من جاءت لتحل
محله وتسلبه بيته وهويته.
بدت الفنانة الأميركية جيل كلابيرغ (1944 - 2010) مترددة في
دورها، قد يكون ذلك دليل عدم اقتناعها، ربما لم يكن تردداً، بل هو مدخلها إلى رحلة
لاكتشاف زيف الأسطورة التي روّجتها إسرائيل وقبلها الغرب. كان تفاعلها مع الشاب
الفلسطيني مؤلماً يُراوح بين الصدمة وعدم التصديق، فيما بقي محمد بكري يتحرك بهدوء
غير آبهٍ لمحاولات إلصاق تهم الإرهاب، أو أنه "مُخَرِّب"، فالفلسطينيون
الذين يرفضون التنازل عن حقوقهم ويقاومون مستعمِرَهم مجرد "مخربين"
يستحقون السجن والقتل.
تدور القصة حول لحظة فارقة في حياة المحامية الإسرائيلية،
المهاجرة من أميركا، هانا كوفمان، حين توكلها المحكمة للدفاع عن فدائي فلسطيني لجأ
إلى السلاح في نضاله لاسترجاع بيته الذي طردت العصابات الصهيونية المسلحة أهله حين
كان طفلاً، في حملة دمرت خلالها أكثر من 400 قرية فلسطينية، في سعيها إلى تشريد
الفلسطينيين ونقلهم إلى مدن أخرى للسيطرة عليهم، وحتى لا تبقى هذه القرى في
الذاكرة ووعي أهله وأهل فلسطين.
في أول الفيلم، تلتقي المحامية هانا مع سليم في المعتقل، وتجد
صعوبة في التعامل معه، فهو يرفض الاعتراف بـ"الذنب" ويصر في جدله معها
على أنه يطالب بحقه المسلوب، وتبدأ المحامية بالتعرف إلى الجانب الآخر من الواقع
الذي تعيشه.
فهي تريد تصديق أن هجرتها إلى إسرائيل تعطيها الأحقية بكل
شيء، بما في ذلك العيش في منزل على الأرجح طُرد أهله منه، كيف لا وهي الأحق بهذه
الأرض، فهي ابنة اثنين من الناجين من الهولوكوست، وهذا يعطيها شرعية لا يمكن
التشكيك فيها للعيش هنا على حساب أهل الأرض الأصليين التي لم تفكر فيهم حتى لحظة
اللقاء مع سليم.
تقرر المحكمة العسكرية إبعاد سليم، ولكنه يتسلل مجدداً
عائداً، ويكتشفه الجيش ويأسره مرة أخرى. إصرار سليم على العودة يذكّر بمئات من قصص
الذين تشردوا في عام 1948 وحاولوا العودة مشياً على الأقدام، وكان الجيش
الإسرائيلي يقنصهم أو يطردهم؛ هي روايات تحكى بالدموع والحسرة، فكيف يستوعب المرء
أنه خسر حياته التي يعرفها؟ أو أن قريته أو بلدته تهدمت وتم تغيير اسمها؟ العودة
إلى بيته كانت حلم سليم، أما الإبعاد فهو حكم يقترب عنده من الإعدام.
بعد اعتقاله للمرة الثانية يطلب سليم من هانا أن تتولى قضيته،
إذ يشعر أنها بدأت تستفيق من الوهم ولو قليلاً، وتعيش في تناقض كونها ضحية أو ابنة
ضحية، مع ارتكاب إسرائيل جرائم باسمها.
الوضع هذه المرة أعقد، فيعرض عليه القاضي إبعاده إلى جنوب
أفريقيا التي كانت تحت نظام الفصل العنصري (أبارتايد) في حينها، والحصول على
الجنسية الجنوب أفريقية ويعود إلى فلسطين (إسرائيل) مهاجراً، بدا سليم موافقاً،
لكنه لم يتحمل فكرة تخليه عن حقه وهويته، ليدخل في إضراب عن الطعام ينتهي بقبول
القاضي بأخذ المحامية هانا لسليم تحت رعايتها، في إيحاء منها أنها اختارت علاقة مع
سليم وتركت خطيبها (المدعي العام) الإسرائيلي اليهودي.
لم تكن النهاية مقنعة، لكنها كانت تصوراً فنياً لم يساوم على
الحق الفلسطيني، وفي النهاية لم تستطع المحامية هانا الزواج من خطيبها الإسرائيلي
الذي حاول إقناعها أنها يجب أن تدافع عن إسرائيل، وإن تطلب ذلك المشاركة في اضطهاد
الفلسطينيين ونكران حقوقهم.
الأهم أن الفيلم مثل صدمة في وقتها ولاقى هجوماً وحملات
إعلامية وسياسية، حتى إن كوستا غافراس اضطر أن يدفع من جيبه لترويج الفيلم بعد أن
تراجعت الشركة المنتجة للفيلم عن الدعاية له، لكن شركة يونيفرسال المتعهدة بتوزيعه
سحبته من دور السينما، وانتهت علاقة الفنان الفلسطيني محمد بكري بهوليوود، محتفظاً
بكرامته من دون مساومة أو خضوع.
اختار محمد بكري الانغماس في تطوير الفن النضالي المسرحي
والسينمائي في فلسطين، فترك إرثاً فنياً غنياً، ولم يتخل لحظة عن ممارسة المقاومة
من خلال الفن بدون التضحية بالسوية الفنية والإبداعية في أعماله، حتى في فيلمه
الهوليوودي الوحيد.
العربي الجديد













