أخيراً زرت فلسطين.. هذه تجربتي وزميلاتي في المعتقل الاسرائيلي بعد “اسطول الصمود”


د. لينا الطبال
هكذا يبدأ هذا المقال، وهكذا انتهت
الرسالة التي وجهتها لي الصديقة والاخت "ام القسام” زوجة المناضل "مروان البرغوثي”
… نعم، أخيرا زرتُ فلسطين، زيارة مؤلمة وجميلة، وعبور بين جرحين..
رأيتُ صحراء النقب تمتد أمامي بجمود لا
نهائي، شاهدتها لمدة ساعتين من فتحة ضيقة في شاحنة معدنية مغلقة، لا تصلح حتى لنقل
البضائع التالفة، لكن الاحتلال قرر أن يختبر فيها قدرتنا على الصمت تحت الضغط
والحر الشديد وبرودة مكيفاتهم وضجيجها … لكن رؤية ارض فلسطين جعلت الزمن يتوقف ولم
يعد لطقوس تعذيب الاحتلال المفضلة… وعندما توقفت الشاحنة، أمام المطار لترحيلنا،
هددونا بإعادة اعتقالنا إن رفعنا شارات النصر…
جيشٌ مدجج بالسلاح، هو الرابع عالميا،
ودولة نووية تخاف من أصابع مرفوعة! أي قوة هذه التي تَرتَعب من رمز ؟؟
خرجنا بكل هدوء، رؤوسُنا مرفوعة، ننشد
أغنية هادئة عن فلسطين، ونهتف بشعارات وإشارات النصر.
ثم رأيت الجبال أمامي… سلسلة جبال رامون
تمتد حتى الأفق. كانت تلك اللحظة عبارة عن سكون وهدوء وشعور روحاني لم اختبر مثيل
له…
وأؤكد لكم نعم، رؤية فلسطين… تستحق كل
شيء.
ابحثوا عن جبال رامون في "غوغل”، ثم أغمضوا أعينكم… وتخيلوها أمامكم.
نحن مجموعة ارادت الإبحار وكسر حصار غزة
في مهمة إنسانية لا عنفية، حملنا طحين وأدوية وما تبقى من ضمير وإنسانية … تعرفون
بقية الحكاية: تمّ اختطافنا في المياه الدولية، تحت الشمس وفي البحر، لكننا
اقتربنا من غزة… رأينا غزة عند الفجر: نعم، رأيناها ونحن مخطوفون، وفوقنا سماء
فلسطين.
عملية الاعتراض كانت "احترافية”،
كما يحب الجيش الإسرائيلي أن يصف جرائمه بالضبط، أي انها غير قانونية، وغير
إنسانية، لكنها مبررة كالعادة .
اقتادونا إلى ميناء "أشدود”، وهناك بدأ
العرض الإسرائيلي المعتاد: شتائم، تهديدات… الكراهية ذاتها التي لم تتغير منذ
عقود نفس اللغة، نفس الغرور، ونفس الانحطاط العنصري.
ألقوا بنا في الشاحنات… تلك التي
لا تصلح لنقل شيء، لا بشر ولا حتى بضائع تالفة. دفعتني شرطية إلى داخل زنزانة
معدنية لا تتجاوز متر ونصف، بالكاد تتسع لأربعة أنفاس بشرية. ضربت رأسي بجدار
الشاحنة المعدني، للحظة ظننت أنها أطلقت النار علي… إلى جانبي جلست ريما حسن
النائبة الأوروبية، التفتت نحوي وقالت: "لقد ضربوني أيضا، على الأرجح سيأخذوننا
الى لانفرادي لكننا على الأقل معا”… ضحكنا، لأن الخوف، حين يتعب، يتحول إلى سخرية
باردة.
بعد قليل، رمت الشرطية في الزنزانة
امرأة جزائرية سبعينية اسمها "زبيدة”، نائبة سابقة، ومعها "سيرين” ناشطة شابة.
أربعة نساء من ثلاث قارات في قفص واحد
لا يتسع حتى لأنفاسهن. الجو خانق، والهواء الذي تنفثه الشاحنة خليط من العنف
والتهديد… ابتلت أجسادنا من العرق، وحين احترقت تماما من الحرّ، قرروا تشغيل
المكيّف البارد، لا بدافع الرحمة، انما كجزء من هندسة دقيقة للتعذيب… يتفنن
الاحتلال في التعذيب: ويبدل درجات الحرارة بارد… ثم ساخن… ثم بارد.
واقتادونا الى المعتقل، الى غرفنا في
القسم 5 و6….جرى تقسيم النساء على 14 زنزانة. أما أنا، فقد وُضعت في الزنزانة رقم
سبعة. رقم جميل، لكنه جلب لي سوء الحظ في الليلة الأولى وتحديدا في الرابعة فجرا،
دخل علينا "إيتمار بن غفير”، وزير تعويذة الشؤوم. قال بكل غباء انا وزير الأمن
القومي، جاء بجيشه وكلابه البوليسية الى منتصف الزنزانة ليهدد نساء نائمات. سألني
عن جنسيتي، صمت. ماذا لو قلت لبنانية؟ لا… افضل الان النوم على ان افتح
معركة.
الم أقل لك يا بن غفير، قبل أن تتحرك أو
تتكلم، استشر الذكاء الاصطناعي؟ فهو على الأقل يملك "ذكاء”.
اما غباءك فلو كان طاقة متجددة، لأضاء
صحراء النقب كلها، وربما أنار معها عتمة عقلك أيضا.
في الصباح أيقظونا لإحصاء متكرر: 14
امرأة، نعم كل صباح ومساء و في كل مرة يجرون العد فان العدد لا يتغير… يأتون مجددا
لكن الرقم لا يتغير، يصرّون على العد كثيرا خاصة في الليل… كنا نضحك في كل إحصاء
ونعيد النوم.
الطعام شبه معدوم، الماء لا ماء،
والتهديد بالقتل وبالغاز حاضر دائما. لا حقوق لنا لا محام، لا طبيب، لا دواء. حتى
الباراسيتامول لا وجود له.
كنا نساق كل يوم إلى القفص الذي يشبه
اقفاص غوانتانامو. مساحته 15 متر ويحشرون به نحو 60 امراة تحت شمس النقب لمدة خمس
اوسبع ساعات، بحجة الذهاب لروية قاضي قد لا يأتي احيانا. مرّة صوب شرطي سلاحه إلى
رأسي لأنني لم أضع يدي خلف ظهري. قال بجدية تثير الشفقة "سأقتلك”، ابتسمت له.
لعبتنا المفضلة كانت تحدينا لهم بصوت
واحد: "هيا، اقتلني!”… "اقتلونا”… كلمات نطفئ بها الخوف كما يطفئ المرء شمعة ثم
يعيد إشعالها. الشرطة الإسرائيلية لم تفهم من اي كوكب اتينا؟؟؟ اتعبناهم. كنا نغني
ونهتف "تحيا فلسطين”، ونحدق في أعينهم مباشرة بصلابة وابتسامة قد اخجلتهم من
انفسهم ربما… قال لي احد الشرطيين "ما تفعلونه جيد” …
لا أنكر خوفي: كنت خائفة ومتوترة ومتعبة
طيلة فترة الاحتجاز، وكان احتمال التعرض لأسوأ السيناريوهات حاضر باستمرار.. لكن
يملك الحق لا يخاف من المطالبة به مرات ومرات، أليس كذلك يا صديقي؟
كنا نواصل الصراخ والهتاف ثم يأتوا
الينا بالأسلحة والغاز والكلاب، وما إن يبتعدوا نعيد الكرّة من جديد.
اما أجمل ما قرأته في حياتي فكان مدون
على جدران زنازين هذا المعتقل … أسماء محفورة بالأظافر وبرصاصة قلم وجدناها خلف
النافذة… أبو إياد، أبو مأمون، أبو عمر، أبو محمد من بيت لاهيا، جباليا، حيّ
الأمل، الشجاعية، وشمال غزة. كتبوا تواريخ اعتقالهم على الجدران، آخرها 28 أيلول،
قالوا رحلّونا اليوم من هنا… ربما أفرغوا واعدوها الزنازين لنا.
في الزنزانة رقم 7 كانت "جوديت”، أصغرنا
، شابة ألمانية لا يتجاوز عمرها الثامنة عشرة؛ إلى جانب "لوتشيا”، النائبة
الإسبانية، و”ماريتا” الناشطة السويدية، و”جونا” السياسية والمغنّية الأميركية،
و”زبيدة” النائبة الجزائرية ، و”حياة” مراسلة الجزيرة، و”باتي” نائبة البرلمان
اليونانيّة، و”دارا” المخرِجة اليونانية، وغيرهن. جميعنا من ثقافات مختلفة، اصبحنا
صوت واحد خلف القضبان: "تحيا فلسطين!”
قررتُ أن أتعامل مع السجانين كما يتعامل
الحقوقي مع الوقائع: بالتوثيق أولا، ثم بالتصنيف. هناك "الطيب” ، ذاك الذي يُهرب
لي الأخبار كأنها رسائل سرية، موعد الإفراج، زيارة القناصل. ثم "الشرير” الذي
يُطلق النار بنظراته كل صباح ليذكر أن الحقد موجود. وأخيرا "اللامبالي” ذاك
الذي لا يكره ولا يحب، فقط ينفذ.. هو نوع من الروبوتات الإدارية التي تدور بلا
ضمير.
ثم جاء وقت الترفيه الثقافي: أجبرونا
على مشاهدة فيلم دعائي عن "7 أكتوبر”. رفضنا، ببساطة وصرخنا "أوقفوا الإبادة في
غزة”… جن جنونهم ورفضنا مجددا وصرخنا مجددا… كانت هذه معركتنا الصغيرة الأخيرة
وانتصرنا بها أيضا..
نسيت ان أقول لكم اننا كنا في معتقل
اسمه النقب. بالعبري يدعونه "كتسيعوت” وفي الانتفاضة الأولى كان اسمه "معتقل انصار
2” …. شباك زنزانتي يطل على ملعب وهناك لوحة عملاقة لغزة مدمرة كتبوا تحتها "غزة
الجديدة” وعلى الجدار علم إسرائيلي ضخم، متغطرس.
هكذا كانت زيارتي لفلسطين: حفلة تعذيب
وتهديد وسجن مؤقت في أرض محتلة. لكني رأيت الجبال، رأيت غزة من بعيد، ورأيت الخوف
الإسرائيلي عن قرب.
نعم، أخيرا… زرتُ فلسطين ،
وللحكاية بقيّة … انتظرونا في
ديسمبر، فالسفن تتوقف قليلا لكنها تواصل الإبحار.
اكاديمية وباحثة لبنانية/ فرنسا