إعادة إنتاج السيطرة الصهيوأمريكية بأدوات ناعمة إلى غطاء للهيمنة وإدارة الاستسلام
وائل منسي
القرار الأمريكي المزعوم بعدم السماح بضم الضفة الغربية لا
يعدو كونه جزءاً من هندسةٍ إعلامية دقيقة تهدف إلى امتصاص الغضب العربي والدولي
وتجميل صورة واشنطن كوسيطٍ "عاقلٍ” في صراع لم تكن يوماً طرفاً محايداً فيه، بل
مهندسَهُ الأبرز. فالتصريحات التي تخرج من البيت الأبيض أو الخارجية الأمريكية
ليست تعبيراً عن تحوّل استراتيجي حقيقي، بل مجرد بروباغندا مصمّمة بعناية لتطمين
الشركاء العرب وذرّ الرماد في العيون، فيما تستمر إسرائيل على الأرض في توسيع
المستوطنات، وبناء الطرق الالتفافية، وتفريغ المدن الفلسطينية من قدرتها على
البقاء.
عندما قال ترامب "لن نسمح
بضم الضفة”، لم يكن يقصد وقف الاستيطان أو حماية الحقوق الفلسطينية، بل كان يتحدث
بلغة تكتيكية مؤقتة هدفها ضبط إيقاع الضم بحيث لا يحرج المصالح الأمريكية ولا يفجر
السكون الإقليمي الذي تبني عليه واشنطن تحالفاتها الاقتصادية والأمنية الجديدة.
الولايات المتحدة تتعامل مع هذا الملف من زاوية "إدارة الصراع
لا حله” وهي سياسة ثابتة منذ عقود، تضمن بقاء جميع الأطراف في حالة تبعية
استراتيجية لها. فهي تسمح لإسرائيل بتوسيع نفوذها الفعلي على الأرض بشرط أن يتم
ذلك دون إعلان صاخب، وتمنح الأنظمة العربية مساحة خطابية تتحدث فيها عن "السلام”
و”حل الدولتين” دون أي التزام عملي أو ضغط حقيقي. والنتيجة هي تكريس ضمٍ زاحفٍ
هادئ يتحول تدريجياً إلى أمر واقع، بينما تتولى واشنطن مهمة حماية صورته الخارجية.
لكن ما يغيب عن الأذهان أن هذا القرار رغم مظهره
الرمزي، ينطوي على مخاطرات استراتيجية رئيسية يجب مراقبتها فوراً. أولها، خطر تحول
الضفة إلى كانتونات مغلقة بلا تواصل جغرافي ولا قدرة على الاستمرار الاقتصادي، ما
يعني موت فكرة الدولة الفلسطينية فعلياً. وثانيها تفاقم التوتر الإقليمي نتيجة
شعور الشعوب العربية بالعجز والخداع، الأمر الذي قد يولّد موجات غضب غير قابلة
للضبط أو الاستيعاب في ظل بيئة إقليمية متوترة.
وثالثها، تآكل شرعية
الأنظمة المعتدلة التي راهنت على الوعود الأمريكية في السلام، وهو ما سيضعف تماسك
الجبهة العربية الداخلية ويزيد اعتمادها على الدعم الخارجي.
ورابعها تمكين إسرائيل
استراتيجياً من السيطرة على كامل المجال الجيوسياسي بين النهر والبحر، بما في ذلك
التحكم في مصادر المياه والطاقة والمعابر، وهو تطور يهدد الأمن الوطني الأردني
مباشرة ويعيد خلط الأوراق في وادي الأردن والحدود الشرقية.
أما الخطر الخامس والأخطر فهو انزلاق الخطاب الأمريكي نحو
التطبيع القسري، عبر فرض منطق "الاستقرار مقابل الصمت” وتحويل القضية الفلسطينية
إلى ملف إنساني أو إداري منزوع البعد السياسي.
إن هذه المخاطرات إذا لم تُرصد وتُواجه بوعي استراتيجي عربي
مشترك، فإنها ستؤدي إلى تثبيت نظام إقليمي جديد تُصبح فيه إسرائيل مركز الثقل
السياسي والأمني والاقتصادي، بينما تتراجع القضية الفلسطينية إلى الهامش. لذا فإن
تصريحات واشنطن ليست تطوراً دبلوماسياً إيجابياً، بل إنذاراً مبكراً لمرحلة جديدة
من التواطؤ المقنّع، تُستخدم فيها أدوات الخطاب الناعم لتغطية عملية ضمّ بطيئة
وشاملة.
فكل حرف في البيان الأمريكي يحمل بين سطوره تلاعباً
بالمفاهيم: حديثٌ عن "التهدئة” يخفي شرعنة الاحتلال، ووعودٌ بـ”السلام” تخفي تثبيت
السيطرة، ومفردات "عدم الضم” ليست إلا إعلاناً عن ضمّ مؤجل يجري تنفيذه ميدانياً
بصمت.
في الجوهر ما يحدث هو
إعادة صياغةٍ للنظام الإقليمي على حساب الفلسطينيين والعرب، بثمنٍ سياسي وأخلاقي
باهظ إن لم تدرك مخاطره وتُواجه بخطة عربية واقعية جريئة تتجاوز لعبة التصريحات إلى
الفعل الميداني والسياسي الحقيقي.

























