مروان البرغوثي...الطريق من "الزنزانة" إلى "المقاطعة" يمر بغزة
كتب: عريب الرنتاوي
من دون مقدمات، يكشف
الرئيس الأمريكي عن تلقيه طلباً بالإفراج عن مروان البرغوثي (لا ندري ممن ومن
أين)، وأنه يدرس الأمر مع معاونيه، وأن القرار بشأنه في يده وحده (وليس في جيب
نتنياهو) ...وفي تصريحات لاحقة، سيبوح ترامب ببعضٍ مما في جوفه، ومما جاء على
لسانه، ويعكس جزءاً من تفكيره، أنه كال مديحاً مفاجئاً للرئيس عباس، واعترف بحبه
له، وعدَّدَ بعضاً من مناقبه كالعقلانية والحكمة، مستدركاً كعادته، بأن على السلطة
أن تقطع مشواراً طويلاً مع الإصلاح، وأن الشعب الفلسطيني يشكو غياب "قائد
واضح" له، وأن عباس لن يعود لحكم غزة...ولاحقاً سيكشف مسؤولون أمريكيون أنهم
طلبوا إلى بعثاتهم في المنطقة، موافاتهم بتقارير وتقديرات حول هذه المسألة، ليبنوا
على الشيء مقتضاه.
آخر كلام ترامب عن
الرئيس عباس ينفي أوله، ومن المحزن أن السلطة، وعلى لسان الناطق
"الأزلي" باسمها، لم تر سوى نصف الكأس الملآن بالمديح والثناء، أما
نصفها الفارغ، والمسموم، فلم تلتفت إليه، وتجاهلته عن سبق الترصد والإصرار، رغم
أنها تستبطن تجريدها من ولايتها وسيادتها على أحد جناحي وطنها وشعبها!
ما الذي جعل ترامب، يثير
مسألة ظلت حتى فجر يوم إبرام الاتفاق موضع شدّ وجذب بين المتفاوضين؟
على الرغم من أن
الإفراج عن مروان ليس في حكم "المُسلّم به" بعد، لكن ثمة ما يشي بأن
وراء الأكمة ما وراءها، وأن الرئيس الذي يخضع لضغوط متعاكسة من أطراف عدة، بدأ
يرجح كفة فريق من الوسطاء العرب والإقليميين، يفضل هذا الخيار، باعتباره الأكثر
ملاءمة لواقع غزة، والأكثر "برغماتية" للتعامل مع ثقل حماس والفصائل في
القطاع، وهو أمر لا يمكن لأي اتفاق أو مبادرة، أن تسقطه بجرة قلم، أو بنزوة على
شكل تصريح مدجج بالتهديد والوعيد.
لماذا والحالة كهذه، لم
يضغط الوسيط الأمريكي على نتنياهو للإفراج عن مروان البرغوثي في حمأة التفاوض على
قوائم التبادل؟
في ظني، وليس كل الظن
إثم، أن الأمر قد يكون عائداً لواحدٍ أو أكثر من أربعة أسباب:
الأول؛ أن واشنطن لا
تريد لصورة نتنياهو أن تتهشم بالدبلوماسية بعد أن تهشمت بخسارة "النصر
المطلق"، هنا نفتح الباب لاحتمال أن واشنطن أرادت تجريع نتنياهو كأس إنهاء
الحرب قطرة قطرة، ونستحضر تسريبات، بأن الأمر قد لا يتوقف عند مروان، بل قد يشمل
قادة آخرين، وإن بعد حين.
الثاني؛ أن واشنطن
أرادت للبرغوثي، إن صدقت التقديرات بشأن إفراجٍ وشيك عنه، أن يكون مديناً لها
بحريته، لا لحماس، مراهنةً على أنه في حالة كهذه، سيكون أكثر تحرراً من الحركة،
معنوياً وأخلاقياً، وأكثر قدرة على دفعها، إن لزم الأمر، للاستجابة لمندرجات
مبادرة إنهاء الحرب بمراحلها المختلفة.
والثالث؛ أن ثمة شعوراً
لدى واشنطن، بضعف قدرة السلطة على التعافي والإصلاح واستعادة شعبيتها، وأنها باتت
بحاجة لجراحة (من خارجها)، ولكن على يد تيار منها، لتعود فتشكل "معادلاً
موضوعياً" لثقل حماس ونفوذها وشعبيتها، وليس ثمة أقدر من مروان البرغوثي على
القيام بهذه المهمة.
أما الرابع؛ فيتصل بشخص
ترامب وشخصيته، فهو يفضل عادة أن تنسب إليه "الأفعال الكبيرة"، والإفراج
عن مروان حدثٌ كبير، وربما يكون تلقى تقارير بأن الرجل ستكون له "شأن
عظيم" في النظام الفلسطيني المستقبلي، فآثر أن يطوق عنقه بـ"جميل"
حريته، وتلكم مسألة مهمة في العلاقات الدولية كما في العلاقات بين الأفراد.
موقف حماس
ليس خافياً على أحد، أن
الخلاف بين وفدي التفاوض، الفلسطيني والإسرائيلي، حول مروان البرغوثي ورفاقه
القادة الأسرى، كاد أن يطيح بصفقة التبادل الأخيرة، وتهديد "وقف إطلاق
النار"...حماس وضعت هؤلاء في صدارة قائمة المطلوبين للحرية، وفي المقابل،
رسمت حكومة اليمين الأكثر تطرفاً في إسرائيل، خطوطاً حمراء حولهم، متعهدة بإبقائهم
في زنازينهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
قبلها، أخفقت محاولات
عدة لحماس لإدراج البرغوثي مروان، والبرغوثي عبدالله، وأحمد سعدات، وآخرين، في
لوائح المفرج عنهم في صفقات التبادل، حتى نظير إبعادهم عن أرضهم ووطنهم...إسرائيل،
منذ الإفراج عن الأسير/الشهيد يحي السنوار في صفقة شاليط، باتت تتصرف
كـ"المقروص الذي يخشى جرة الحبل"، كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني.
إصرار حماس على الإفراج
عن عضوٍ في اللجنة المركزية لحركة فتح، يسجل في ميزان مسؤوليتها الوطنية، وينبع من
إدراك لمسناه من قيادتها مباشرة، بعد أسابيع قلائل من "الطوفان"، بأن
مروان يمكن أن يلعب دوراً استنهاضياً لحركة فتح، وأن يشكل جسر تواصل بين فصائل
المقاومة والحركة والسلطة والمنظمة، وقد يكون سدّاً في وجه بدائل مصنّعة في
الخارج، على مقاس "الحل الإسرائيلي" و"دفتر الشروط" الأمريكي،
وتلكم اعتبارات تكاد تكون موضع إجماع وطني.
مروان البرغوثي، صاحب
أعلى الأرقام في استطلاعات الرأي العام الفلسطيني المتواترة منذ سنوات طوال، رجل
مصالحة ووحدة وطنية، وكان مع رفاقه القادة الأسرى من مختلف الفصائل، سبّاقون في تقديم
وثيقة وفاق وطني، التي لو تمت الاستجابة لها، لما طال الانقسام واستطال، ولما كانت
نمت على جذعه، شبكات من الحسابات والمصالح والمؤسسات المتناظرة والمتوازية، ولما
كنّا اليوم أمام أحاديث "اليوم التالي"، بل ولربما اتخذت الأحداث على
المسرح الفلسطيني مساراً مغايراً، وقد نكون بصدد الإعداد لثالث أو رابع انتخابات
تجري منذ انتخابات 2006.
ينتمي الرجل إلى
المدرسة العرفاتية في التفكير السياسي والكفاحي، والتي هي خليط من أوسلو و"حل
الدولتين" من دون إسقاط أو "شيطنة" خيار المقاومة، وهو دفع من كيسه
وكيس عائلته، ثمن انتقال ياسر عرفات، من منتجع كامب ديفيد إلى خندق الانتفاضة
الثانية، ربع قرن في زنازين الاحتلال، أما "أبو عمار" فقد ارتقى
"شهيداً، شهيداً، شهيداً، لا أسيراً ولا طريداً".
بهذا المعنى، يتفق
الرجل ويفترق عن حركة حماس، مع أن التطورات التي طرأت على مواقفه ومواقف الحركة في
السنوات العشر الفائتة، جعلت الفجوة أقل اتساعاً...وبهذا المعنى أيضاً، يلتقي
الرجل ويبتعد عن نهج السلطة والقيادة في رام الله، وثمة رهان من الطرفين، على
اكتساب "الأسير المحرر"، إلى جانب كلٍ منهما، أو أقله، أن يستحدث
"بيضة قبان" يمكن أن ترجح كفّة أحدهما على الآخر، وفي أحسن سيناريو أن
يكون جسراً للتوافق والوفاق الغائبين.
رابحون وخاسرون
الخاسر الأكبر إن صدقت
الرهانات، هو تيار اليمين الفاشي المتطرف، نتنياهو وصحبه، وأبرزهم بن غفير، صاحب
الصيحات المتكررة لإعدام الأسرى وتدميرهم، وجعل حياتهم في السجون جحيماً لا يطاق...هؤلاء
الذين لطالما تمنوا أن يتعفن القادة الأسرى في زنازينهم، ستسوؤهم رؤية الرجل وقد
تنفس نسائم الحرية، وعاد إلى مسرح السياسة والجغرافيا الفلسطينيتين من أوسع
بواباته، وسيسوؤهم أكثر، إن رأوا صوره على الشاشات، إلى جانب قادة دوليين، لطالما
تسابقوا لالتقاط الصور مع قادة إسرائيل.
التيار المتنفذ في
السلطة (وليس السلطة)، هو المتضرر الثاني من الصفقة المحتملة، هؤلاء لم يظهروا
حماسةً يوماً، للإفراج عن مروان، ولقد توفرت لهم الفرصة بعد تصريحات ترامب، لشن
حملة "شعواء" للإفراج عن ابنهم وأحد قادتهم الكبار، لكنهم لم يفعلوا،
وبدلاً من ذلك، رأينا المراسيم الرئاسية تسابق موعد الاستحقاق، فتعمل على شراء
الوقت، بتعيين هذا خلفاً لذاك، إن شغر المنصب بالعجز أو الوفاة.
هؤلاء يدركون، كما تدرك
المقاومة وحماس، أن الإفراج عن مروان لتولي شأن غزة، لن يقف عند حدود القطاع، إلا
لمرحلة انتقالية فقط، فالرجل مرشح لدور أكبر من قطاع غزة حين تُفتح مراكز الاقتراع
أبواها في أول انتخابات تشريعية ورئاسية، وغزة ستكون محطة تمهيدية/انتقالية في
طريق مروان الراجحة، من زنزانة في سجن عوفر إلى "المقاطعة" في رام الله.
أما الرابحون، فهم فتح
والسلطة والمنظمة والمقاومة والمصالحة والوحدة الوطنية والشعب الفلسطيني، فتح إن
أرادت نهضةً واستنهاضاً...السلطة إن أرادت فاعلية وتفعيلاً...المنظمة إن أرادت
التجدد بالمصالحة والوفاق، والشعب الفلسطيني الذي ملّ الانقسام، وتنتظر مشروعه
وقضيته الوطنية، تحديات جسام.
ثمة طابور من الخاسرين
"الثانويين"، يضم شخصيات قدمت كل ما بحوزتها من "أوراق
اعتماد" لليوم التالي، وعواصم عربية رعت لسنوات عديدة، بدائل و"رؤوس
جسور" للإمساك بالورقة الفلسطينية، يقابله طابور من الرابحين
"الثانويين"، من شخصيات تحتسب نفسها على "تيار مروان" من دون
أن تتمثل حقيقة أن مروان حالة وطنية أكبر وأوسع من "تياره"، وأن مقتله
يمكن في دورانه في حلقة ضيقة مفرغة من الأنصار والمريدين.
أما بعد!
لا ندري إن كان مروان
سيتحرر قريباً، أم بعد حين من الدهر، ولا ندري كيف ستكون موافقه وأداؤه في الظرف
الفلسطيني النوعي الجديد، في زمن الطوفان وما بعده، وفي البيئة الإقليمية والدولية
المتغيرة، ولا ندري كيف ستستقبل فتح والسلطة "الوافد الجديد-القديم"،
لكننا على أتم يقين بأن "حجراً كبيراً" سيُلقى في مستنقع الركود الذي
أصاب النظام السياسي الفلسطيني الرسمي، أما كيف وإلى أين ستنتهي تفاعلات حدث كهذا،
فوحدها الأيام، ستجيب هذه الأسئلة والتساؤلات.

























