المسيحيون المشرقيون وهويّتهم الأصيلة: نقد مصطلح “المسيحيين العرب” وإعادة الاعتبار للجذور الكنعانية–الآرامية–السريانية
د. طارق سامي خوري
إنّ توصيف مسيحيّي المشرق بعبارة «المسيحيين العرب» يمثّل
تبسيطًا مُخلًّا لتاريخ هذه الجماعات وهويّتها الحضارية، فهو يختزلها داخل إطارٍ
لاحق لم ينشأ فيه تكوّنها الروحي ولا الثقافي. فالمسيحية لم تظهر في بيئة عربية
ولا نشأت داخل فضاء قومي عربي، بل وُلدت وترسّخت في مشرق أقدم هو امتداد للحضارات
الكنعانية، الآرامية، السريانية التي صنعت هوية هذه الأرض قبل التعريب بزمن طويل.
وقد أكّد عدد من كبار المرجعيات الكنسية المشرقية ومنهم
البطريرك زكّا عيواص أنّ المسيح وُلد في بيئة سريانية اللسان والروح، وأن الكنيسة
الأولى حملت رسالتها بالآرامية وداخل حضارة مشرقية واضحة المعالم. وهذا يعني أنّ
الجذر الذي خرجت منه المسيحية في منطقتنا سرياني–آرامي بالثقافة واللغة والوجدان،
لا عربيّ بالمنشأ أو التكوين.
لقد التبس مفهوم الهوية على كثيرين لأن العروبة، بصيغتها
القومية الحديثة، باتت إطارًا لغويًا–سياسيًا جامعًا في القرنين الأخيرين، فظهر
آنذاك ولأسباب سياسية وفكرية وصف «المسيحيين العرب». غير أنّ هذا المصطلح حديث
نسبيًا ولا يعكس حقيقة التشكل التاريخي للمسيحية المشرقية، بل جاء مواكبةً للنهضة
العربية وصعود الدولة الحديثة، بينما الجذور أعمق وأقدم وأوسع من حدود هذا الإطار.
إنّ فهم هوية المسيحيين المشرقيين يبدأ من لغة التكوين الأولى
لا من لغة التفاعل اللاحق. فالآرامية–السريانية كانت الوعاء الذي حمل البشارة
الأولى، وهي اللغة التي نطق بها المسيح وتلاميذه والكنيسة الناشئة في أنطاكية
والقدس والرها. ومن هنا، فإن الهوية المسيحية المشرقية تكوّنت داخل فضاء مشرقي
أصيل سبق التعريب بقرون، ولم يكن جزءًا من الجزيرة العربية لا ثقافيًا ولا لغويًا
ولا أنثروبولوجيًا.
المسيحي المشرقي لم ينتقل من الجزيرة إلى المشرق، بل العكس:
المشرق هو مكان الجذور الأولى. وبعد الفتح العربي جاءت مرحلة التعريب اللغوي
والثقافي، فاندمج المسيحيون بحسّهم الحضاري في الفضاء العربي الناشئ، لكنهم حافظوا
بالذاكرة والليتورجيا والتقاليد على جذور مشرقيتهم الأعمق.
من هنا، فإن التعبير الأدق تاريخيًا هو:
«مسيحيو المشرق» أو
«المسيحيون المشرقيون»،
لا بوصفه شعارًا هويّاتيًا ضيقًا، بل لأنه التوصيف الأقرب إلى
الحقيقة العلمية واللغوية والجغرافية. فالمسألة ليست رفضًا للعروبة ولا إنكارًا
لتفاعل المسيحيين مع النهضة العربية الحديثة ودورهم الطليعي فيها، بل هي دعوة إلى
تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة:
نحن مشرقيون بالجذور، وعربٌ باللسان والثقافة، لا العكس.
إنّ هوية المشرق، بما تمثّله من عُمق حضاري وتراكم روحي، تسبق
كل التصنيفات القومية اللاحقة. ومن حق الشعوب أن تُعرّف نفسها بجذورها لا بظلالها
المتأخرة.
فالانتماء الأصيل لا تلغيه اللغة المكتسبة، ولا تختصره
المصطلحات التي فرضتها السياسة في زمن متأخر.

























