ما بعد 7 أكتوبر: لحظة التحول الكبرى... بين النظام السياسي والنظام المالي العادل- الحلقة الثالثة
وائل منسي
منذ السابع من أكتوبر، والعالم لا يعود إلى ما قبله، فقد شكّلت
المجازر الصهيونية في غزة، والدعم الغربي الأعمى لإسرائيل، لحظة انكشاف أخلاقي
وسياسي غير مسبوقة.
ولم تعد القضية الفلسطينية شأناً داخلياً أو عربياً فقط، بل
أصبحت بوصلة أخلاقية عالمية تفرز القوى السياسية والاقتصادية وتكشف زيف الخطاب
الغربي حين يتعلّق الأمر بالإبادة والاستعمار.
لكن هذا التحول لم يكن سياسيًا فقط، بل أظهر أن الهيمنة
الغربية والصهيونية لم تكن محصورة بالسياسة والعسكرة، بل متجذّرة في النظام المالي
العالمي ذاته، القائم على خلق المال من لا شيء، واستعباد الأفراد والدول عبر الدين
والمساعدات المشروطة.
وهكذا تُستباح سيادة
الدول وتُنتهك كرامة الإنسان باسم التنمية.
في عمق هذا النظام المالي، الذي يُعرف بـ"الاحتياطي
الجزئي"، تكمن آلية إنتاج "مالٍ وهمي" لا يرتبط بالإنتاج الحقيقي،
بل يُستخدم لتمويل الحروب وإدامة سلطة النخب المالية العابرة للحدود، إنه نظام يقوم
على الوهم والاستغلال، لا على العدالة والتنمية.
جيرمي كوربن: عودة اليسار الأخلاقي:
في قلب الغرب، ينهض من جديد جيرمي كوربن، الزعيم العمالي
البريطاني السابق الذي أُقصي من حزب العمال بعد مواقفه الجريئة المناصرة لفلسطين
ورفضه للإبادة في غزة. وبدل أن يختفي من المشهد، عاد ليؤسس تيارًا تقدميًا جديدًا
تحت اسم "Your Party"، يجمع المستقلين والمستقيلين من الحزب الأم، ويعيد الاعتبار
لليسار الأخلاقي، وللديمقراطية الاجتماعية الحديثة التي تقاوم النيوليبرالية لا
تهادنها.
كوربن يطرح مشروعًا سياسيًا متكاملًا، يرى أن العدالة
الاجتماعية لا تنفصل عن مقاومة الاحتكار المالي، وأن الحرية لا معنى لها في ظل
عبودية الدَّين. وهو بهذا يعيد إحياء الفكرة الأصلية لليسار: أن التحرر الاقتصادي
والسياسي وجهان لقضية واحدة.
هذه الموجة الجديدة من الوعي السياسي لا تقتصر على بريطانيا؛
فقد بدأت تتسع في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يُعاد النظر في النيوليبرالية
كأيديولوجيا أنهكت المجتمعات وعمّقت الفجوة الطبقية، فيما تستعيد الديمقراطية
الاجتماعية روحها الإنسانية ومضامينها الأصلية.
من لندن إلى عمّان: السياق العربي والفرصة التاريخية:
في الأردن والمنطقة العربية، تعاني الأحزاب ذات المرجعية
الديمقراطية الاجتماعية من انجرافٍ متزايد نحو النيوليبرالية، وابتعادٍ عن قضايا
العدالة والكرامة الاقتصادية.
لقد فقدت كثير من النخب
الحزبية بوصلتها، فتحولت إلى واجهات رمزية أكثر منها حركات تغيير حقيقية.
ومع ذلك، فإن التحولات العالمية اليوم تفتح أمامنا بابًا
تاريخيًا: نحو بناء تيار وطني ديمقراطي اجتماعي جديد، يعيد الربط بين التحرر
السياسي والسيادة الاقتصادية. نحن بحاجة إلى مشروع يتجاوز الشعارات إلى إعادة بناء
الاقتصاد والمجتمع على أسس إنتاجية وتشاركية، تعيد المال إلى وظيفته الطبيعية
كوسيلة لا كغاية، وتربط التنمية بالعدالة لا بالمساعدات.
نحو تيار ديمقراطي اجتماعي حقيقي:
لا يُبنى التيار الديمقراطي الاجتماعي الحقيقي بأوراق المواقف
الهشّة ولا بتضخيمها إعلاميًا، بل بالوعي والتنظيم والفعل الجماعي المستمر.
فالمشاريع السياسية التي تقوم على بيانات موسمية وشعارات عامة سرعان ما تذوب أمام
أول اختبار واقعي، لأنها تفتقر إلى البنية الفكرية والمؤسسية القادرة على إنتاج
التغيير.
إنّ التحدي الأكبر أمام التيارات الإصلاحية في الأردن
والمنطقة هو ميلها المتزايد نحو المركزية المفرطة، وإلغاء المنابر والتيارات
الفكرية الداخلية باسم "الانضباط الحزبي”، مما يجعلها مغلقة على ذاتها، تكرر
الخطاب نفسه وتُقصي التنوع الذي يُفترض أن يكون مصدر قوتها.
الديمقراطية الاجتماعية
لا يمكن أن تزدهر في بيئة أحادية الصوت، بل في فضاء يتيح النقاش والاختلاف
والتجديد.
نحن بحاجة إلى تيار يبنى على العقل الجمعي لا الفرد الواحد،
وعلى برامج واقعية لا مواقف عابرة، تيار يربط العدالة الاجتماعية بالسيادة
الاقتصادية، وينقل الخطاب من ردّ الفعل إلى المبادرة، ومن الكلام إلى الفعل
الميداني والتنظيمي.
تيار يؤمن أن الإصلاح لا يُمنح من فوق، بل يُبنى من تحت، من
الناس، من النقابات، من البلديات، من الشباب الذين يملكون الشجاعة ليحلموا بعدالةٍ
لا تصنعها البيانات، بل تصنعها المشاركة الواعية والجهد المستمر.
الأردن: من المديونية إلى السيادة:
بالنسبة للأردن، فإن تبني هذا التحول ليس ترفًا فكريًا بل
ضرورة وجودية، باقتصاد مرهون بالديون، وموازنات تُستنزف، ومساعدات مشروطة، وشباب
مهمّش... والكل محكوم بنظام مالي عالمي يُنتج الأزمات ولا يعالجها.
التحول نحو اقتصاد إنتاجي عادل سيُعيد توجيه المال نحو
الزراعة والصناعة والمشاريع الصغيرة، ويُفعّل أدوات التمويل الوطني المستقل،
ويُمكّن النساء والشباب، ويُعزز السيادة المالية ويُخفّض التبعية.
كما أن تشكيل تيار ديمقراطي اجتماعي مقاوم للنيوليبرالية، على
غرار تجربة كوربن، سيمنح هذا التحول بعدًا سياسيًا حقيقيًا، ويجمع بين المستقلين
والنقابيين والشباب المؤمنين بأن العدالة لا تتجزأ بين اقتصاد وسياسة وكرامة
إنسانية.

























