هل مشكلة الأردن في نقص الموارد أم في طريقة إدارتها؟
تأمل
شخصي في أسئلة قديمة تتكرر، ونتائج لا تتغير، رغم وضوح التحديات.
المهندس
نبيل إبراهيم حداد
مستشار
الهندسة والصناعة وإدارة المشاريع
مع
تقدّم العمر، لا يعود الإنسان منشغلًا بكثرة الأسئلة بقدر انشغاله بتلك القليلة
التي رافقته طويلًا، ولم تتركه. أسئلة يعرف إجاباتها في داخله، لكنه يظل يعود
إليها، لا بدافع الجدل، بل بدافع الحرص.
وأحد
هذه الأسئلة، الذي رافقني عبر سنوات طويلة من العمل في الهندسة والصناعة وإدارة
المشاريع، هو: هل مشكلات الأردن ناتجة فعلًا عن نقص الموارد، أم عن الطريقة التي
نُدير بها ما نملك؟
لا
أطرح هذا السؤال من موقع النقد، بل من موقع التجربة. فمن عمل طويلًا يعرف أن
الموارد مهما كانت محدودة نادرًا ما تكون العامل الحاسم وحدها. ما يصنع الفارق
غالبًا هو الوضوح، والانضباط، والاستمرارية.
بين
ما نعرفه وما نطبّقه
في
الأردن، نعرف تشخيص مشكلاتنا جيدًا. نعرف تحديات الاقتصاد، والتعليم، والمياه،
والإدارة العامة. نعرفها إلى درجة أنها أصبحت جزءًا من حديثنا اليومي.
لكن
ما يثير التفكير هو الفجوة بين هذا الوعي الواسع، وبين ما يتحقق فعليًا على الأرض.
ليست المشكلة في غياب الأفكار أو الرؤى؛ فهي متوافرة ومطروحة. المشكلة تبدو أقرب
إلى ضعف الانتقال من الفكرة إلى التنفيذ.
من
خبرتي، الخطط لا تفشل لأنها خاطئة بالضرورة، بل لأنها لا تُستكمل، أو لا تُقاس، أو
لا تُحمى من التغيّر المستمر في الأولويات.
الاقتصاد:
حديث متكرر عن الإنتاج… وواقع مختلف
لطالما
كان الحديث عن "الاقتصاد المنتج” حاضرًا في النقاش العام. وهو حديث محق. لكن
التحوّل الحقيقي لا يحدث بالكلام، بل بالتركيز طويل الأمد على مسارات واضحة.
في
مشاريع كثيرة رأيتها تنجح، لم يكن السر في عبقريتها، بل في الالتزام بها لسنوات
دون تردد. وفي المقابل، رأيت مبادرات جيدة تتلاشى لأن كل مرحلة تبدأ من جديد، وكأن
ما قبلها لم يكن.
ربما
المشكلة ليست في نقص الفرص، بل في عدم إعطائها الوقت الكافي لتثمر.
التعليم:
سؤال يتجاوز المناهج
حين
نتحدث عن التعليم، غالبًا ما ننشغل بعدد الجامعات أو التخصصات. لكن السؤال الأهم،
في رأيي، هو: هل نُعدّ شبابنا للحياة العملية كما هي، أم كما نحب أن نتخيّلها؟
الفجوة
بين التعليم وسوق العمل ليست لغزًا. هي نتيجة تراكم قرارات لم تُراجع بصدق. وربط
التعليم بالإنتاج وبالمهارة والعمل الحقيقي لم يعد خيارًا، بل ضرورة.
المياه:
حين تختبرنا الإدارة
في
بلد مثل الأردن، لا يمكن فصل ملف المياه عن كفاءة الإدارة. شحّ المياه حقيقة، لكن
طريقة إدارتها هي ما يحدد حجم الأزمة.
من
تجربتي، كثير من المشكلات التقنية يمكن احتواؤها إذا توفرت إدارة ثابتة، ومعايير
واضحة، ومتابعة حقيقية. المياه ليست ملفًا موسميًا، بل اختبارًا مستمرًا لقدرتنا
على التخطيط طويل الأمد.
أفكار
نعرفها… لكن هل نلتزم بها؟
أصبح
الحديث عن دولة القانون، والمساءلة، وربط المسؤولية بالنتائج، جزءًا من الخطاب
العام. هذه أفكار ناضجة، ولا خلاف عليها.
السؤال
الذي يستحق التوقف عنده هو: هل نعامل هذه الأفكار كمرجعية ثابتة، أم كشعارات
تتبدّل مع الظرف؟
في
العمل المهني، لا يكفي أن تكون الفكرة صحيحة؛ يجب أن تكون ملزمة ومستقرة.
خاتمة
ومع
تقدّم العمر، يتعلّم الإنسان أن الخبرة لا تمنحه يقينًا مطلقًا، لكنها تمنحه
طمأنينة مختلفة: طمأنينة أن ما نواجهه اليوم ليس مستحيلًا، وأن كثيرًا مما نبحث
عنه كان حاضرًا في معرفتنا، ينتظر فقط صبرًا أطول وانضباطًا أصدق.
بعد
سنوات من العمل، ومتابعة المشاريع، والاحتكاك بالواقع كما هو لا كما نحب أن يكون،
يزداد الإيمان بأن الأردن يملك ما يكفيه من العقول، والقدرة، والفرص. وما نحتاجه،
في الغالب، ليس قفزات كبيرة، بل خطوات ثابتة لا نتراجع عنها مع تغيّر الظروف.
لعل
أجمل ما يتعلّمه الإنسان مع تقدّم العمر أن بعض الأسئلة التي رافقته طويلًا لم تكن
عبئًا، بل كانت دليلًا. أسئلة نعرف إجاباتها في داخلنا، ونعود إليها لا بدافع
القلق، بل بدافع الأمل في أن نراها يومًا وقد تحوّلت إلى فعل.

















