لا لتجريم مصطلح "الانتفاضة"
كتبت لميس اندوني
حاول كثيرون منذ انطلاق الانتفاضة الفلسطينية
الأولى عام 1987 تجريم كلمة "انتفاضة"، ولصق تهمتَي الإرهاب
و"العداء للسامية" بمعنى الكلمة وفعل الانتفاضة نفسه. لكن محاولاتهم
فشلت، إذ أضحت المفردة مصطلحاً دخل معظم قواميس اللغات، وأولها معجمَي أكسفورد
وكامبريدج العريقَين، وتكرّس استعمالها عالمياً بعد ذلك، فأدخلتها أهم وسائل
الإعلام العالمية ضمن الكلمات المعتمدة في الأخبار والمقالات بمفردها، على اعتبار
أنّ فعل انتفاضة الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني في عامَي 1987 و2000 حدثان
تاريخيان، وبالتالي اعتراف بانتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني.
استمرّت محاولات تجريم وإلغاء الكلمة تعبيراً
ومفهوماً بعد "طوفان الأقصى" عام 2023، بعد أن تبنّاها نشطاء ومحتجون
وعشرات المثقفين والشعراء في الغرب والعالم، بوصفها تعبيراً يؤيداً مقاومة الشعب
الفلسطيني ضدّ الاحتلال، فجاوز المصطلح مفهوم المقاومة إلى إدانة للاحتلال
الصهيوني، بل واستخدمه المثقفون لنزع شرعية دعم إسرائيل نفسها، والتشكيك بشرعية
المشروع الصهيوني، بعد أن تكشّف للعالم جوهره الكولونيالي الاستيطاني العنصري
الإحلالي على أرض فلسطين.
ورغم كل الضغوط الصهيونية، إلّا أنها لم تُثنِ
المتضامنين الأمميين عن استخدام كلمة انتفاضة تعبيراً تقدّمياً عن رفض حرب الإبادة
على الشعب الفلسطيني ومحاولة محو هويته وحقوقه وتاريخه من الوجود.
كانت محطة بي بي سي البريطانية أول من أعلن الحرب
في ذكرى الانتفاضة، فشطبت تعريفها بأنها "هبة شعبية غير مسلحة ضدّ الاحتلال
الإسرائيلي" من قاموس مفرداتها الإعلامية، وتبع ذلك في الأسبوع نفسه قرار
للشرطة البريطانية بعدم السماح للنشطاء والمتضامنين بـ"عولمة
الانتفاضة"، أي تجريم مصطلح الانتفاضة، أو على الأقل لترهيب الناس وتخويفهم
منه.
بالنسبة لـ"بي بي سي"، أثبت أداؤها منذ
بدء حرب الإبادة الإسرائيلية انحياز إدارتها لإسرائيل على نحوٍ غير مسبوق، واتخاذ
إجراءاتٍ تعسّفية ضد عاملين فيها مما أدى أيضاً إلى استقالات عديدة، وإلى منع عرض
فيلم من إنتاجها يفضح ارتكاب الجيش الصهيوني عمليات إبادة بالصوت والصورة، وشهادات
شخصية عن قتل وخطف وتعذيب الجيش الصهيوني لعدد كبير من الأطباء وطواقم الرعاية
الصحية في قطاع غزة انتقاماً من أهله وأداةً في حرب إبادة مستمرة ضد الشعب
الفلسطيني.
توظيف التحريض ضدّ مصطلح "الانتفاضة" والتخويف منه ليس
جديداً، لكن ازدادت الوتيرة والشراسة في شيطنة التعبير خلال العامَين الأخيرَين،
وبخاصة في أميركا، لتشويه صورة المتظاهرين والحركات الطلابية في الجامعات. وأصبح
استخدام "عولمة الانتفاضة" و"عولمة الجهاد" تعبيرَين شائعَين
على لسان بعض السياسيين والقيادات والكتاب المدعومين من اللوبي الصهيوني في أميركا
في محاولة لإلصاق مفهوم الانتفاضة بـ"الإرهاب" وتنظيم القاعدة؛ لزرع
الرعب في قلوب الأميركيين والتذكير بتفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
مع ذلك، لم تؤثر كل حملات الترهيب على حركات التضامن، بل انضم
إليها عشرات من نجوم التمثيل والغناء ومن أهم المثقفين في العالم. غير أن خطوة
الـ"بي بي سي" في تواطؤها المشين مع الاحتلال الصهيوني تمثل بداية حملة
أكثر حدّة ووضوحاً ووقاحة، وتهيّئ الأجواء لتجريم تعبير انتفاضة ولإجراءات محتملة
من الشرطة البريطانية ضد المتضامنين والصحافيين والمثقفين، وبخاصة المهاجرين منهم.
هنا لا بدّ من التوضيح أن الإشارة إلى المقاربة
المفتعلة بين مصطلحَي "عولمة الانتفاضة" و"عولمة الجهاد" لا
يعني القبول بتشويه مصطلح الجهاد، إن كان بمفهومه الديني الأصيل أو السياسي
المقاوم ضد الظلم. صحيحٌ أن التنظيمات الإسلامية المتطرّفة، كالقاعدة وتنظيم الدولة
الإسلامية (داعش)، قد أسهمتا كثيراً في تدمير معنى الجهاد، سواءً أكان جهاداً
لتطهير النفس أم في مواجهة الصعاب أم في رفض الاحتلال. ولكن حملات التشويه بدأت
قبل ظهور القاعدة بعقود، إذ كانت جزءاً من الإسلاموفوبيا السياسية ذات الأهداف
الاستعمارية، والإسلاموفوبيا المفتعلة في معظمها كانت أداة لتشويه صورة
الفلسطينيين والعرب والشعوب الإسلامية لتسهيل مهمة الاحتلال الصهيوني، جزءاً من
حماية إسرائيل في الغرب، وأداة لبسط أميركا هيمنتها وابتزازها على الدول الإسلامية.
عليه؛ وجد توظيف مصطلح "الجهاد" فائدة
في محاولة التغطية على إسرائيل وتبرئتها من جريمة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين،
خصوصاً وأن حركة حماس إسلامية. لكن التاريخ يثبت أن الدعاية الصهيونية في أميركا
وأوروبا، والحكومات الأميركية، لا تعادي حركات المقاومة الفلسطينية وتحاربها لأنها
إسلامية التوجّه، فقد صنفت حركة فتح والحركات الأخرى، وحتى منظّمة التحرير
الفلسطينية، إرهابيةً مدة طويلة، في تهديد وابتزاز دائمَين، فرضوخ السلطة
الفلسطينية لا تعتبره كافياً، ولم يتوقف ابتزاز المنظّمة بحجّة إثبات أنها ضد
الإرهاب، عدا أن التصنيف يخدم تشويه أي عمل فلسطيني مقاوم، بغض النظر عن هوية الحركة،
جديدة كانت أو قديمة، علمانية أو يسارية أو إسلامية، فكلّها في نظر أميركا
"مشاريع إرهابية".
في التصنيف الغربي المحابي لإسرائيل ومشروعها،
مفهوم الانتفاضة الفلسطينية، سلمية أو تخلّلتها مقاومة مسلحة، غير مشروعة ومرفوضة
ويجب هزيمتها في عرف السياسات المؤيدة والمتواطئة مع إسرائيل. لذا؛ فدخول كلمة
انتفاضة، كلمة ومفهوماً، في المعاجم اللغوية في الخطاب السياسي أو الثقافي
العالمي، وتعبيراً متفقاً عليه إعلامياً، كان وما يزال يعتبر نصراً لتمسّك الشعب
الفلسطيني بحقوقه التاريخية والقانونية المشروعة، بما ذلك حقة في مقاومة اقتلاعه
من أرضه وتشريده والقضاء على هويته.
ولكن
التعبير أصبح أشد "خطراً" بالنسبة لمؤيدي إسرائيل ومموليها، بعد طوفان
التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني الرافض مشروع إسرائيل الاستيطاني التوسعي، وكل
مبرّرات جرائمها وإدانة الحكومات والشركات الرأسمالية الممولة لها. أي أنه أصبح
لكلمة انتفاضة معنى عالمياً، فلم تعد عملاً فلسطينياً وإنما فعلاً أممياً، ومن هنا
بدأت المعركة على المصطلح الذي استعمله الفلسطينيون في عام 1987 لوصف انتفاضهم ضد
الاحتلال الجاثم على صدورهم. بيد أن ما حدث بعد 7 أكتوبر (2023) وإطلاق عنان الجيش
الصهيوني في حرب إبادة لأهل غزّة ومجتمعها وكل نواحي الحياة فيها فجر انتفاضة
إعلامية ضد إسرائيل، ولهذا تسعى الحكومات التي مكّنت إسرائيل من جرائمها إلى تجريم
مصطلح "انتفاضة" والقضاء عليه.
لم تكن الشرطة البريطانية أو السياسيون الأميركيون
المؤيدون لإسرائيل أول من أطلق مصطلح "عولمة الانتفاضة"، بل أطلقه
النشطاء والمحللون في وصف لاتساع حركة التضامن المستمرّة مع فلسطين، ولبعث رسالة
مفادها بأنه عمل مستمر وحركة مستمرّة، فمن يعي حقيقة المشروع الصهيوني ببساطة لم
يتحمّل مشاهدة فظاعة الحرب الإسرائيلية على غزّة والاستهانة بحياة الأطفال وكل
إنسان بالقطاع من قتل وتدمير وتجويع، انضم إلى حركة عالمية ترفض الظلم الواقع على
الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام.
وما
محاولات طمر كلمة انتفاضة وتجريمها إلّا ردة فعل تدلُّ على خوفٍ على إسرائيل
ومصالح الحكومات وتجار الأسلحة والشركات الرأسمالية من تقليص أو تأثر أرباحهم
المتراكبة على جثث ودماء الشعب الفلسطيني. لكنّها محاولة حمقاء وخاسرة، والأهم
ألّا تشارك فيها دول عربية، وألّا نصحو لنجد أن استعمال تعبير انتفاضة يعدّ جرماً
يحاسب عليه قانون عُرفي جدّي في دول اللاقانون.
العربي الجديد

















