مريض الهيموفيليا والاسير الفلسطيني أيام متشابهة
جاد كنعان جادالله الطويل *
يصادف السابع عشر من نيسان من كل عام
ذكرى يوم الأسير الفلسطيني ويوم الهيموفيليا العالمي. وبينما يركز المجتمع
الفلسطيني في هذا اليوم اهتمامه مشكورا بالأسير السياسي الفلسطيني، فإننا نرى
جمعيات الهيموفيليا ومرضى نزف الدم الوراثي وعائلاتهم حول العالم، تحتفل بهذا
اليوم من خلال أنشطة وفعاليات تسلط الضوء على أمراض نزف الدم الوراثية، من أجل نشر
الوعي والتثقيف المجتمعي والمتخصص، وتعزيز الفهم حول الامراض الوراثية واثارها
ومضاعفاتها على المرضى ومجتمعاتهم.
وتقوم فكرة تخصيص يوم عالمي لهذه الفئة الخاصة تأكيدا على الفهم أن
مسؤولية رعايتها يجب الآ تكون عبئا على المرضى وعائلاتهم، بل يجب أن تكون مسؤولية
مجتمعية لأنها فوق طاقة الغالبية الساحقة من المرضى.
ولذا يؤمن كل مدرك لاحتياجات وهموم
فئة مرضى الهيموفيليا المهمشة، ويعمل، على ضرورة توفير علاج لهؤلاء المرضى وديمومة
استمرار الرعاية الصحية والنفس اجتماعية الشمولية لهم، وحسب البروتوكولات العلاجية
المتبعة عالميا.
الهيموفيليا مرض وراثي ومزمن، ويشمل
ثلاثة عشر نوعا وليس الهيموفيليا من نوع ألف وباء فقط. ويجب أن تتوفر الرعاية
للمصابين بأي نوع منه منذ اليوم الاول لولادتهم ويستمر علاجهم طيلة حياتهم. وينطبق
هذا الامر على جميع أمراض نزف الدم الوراثية
بدأ المجتمع الدولي الاحتفال باليوم
العالمي للهيموفيليا منذ عام 1989، وتم اختيار يوم السابع عشر من نيسان على شرف،
وفي ذكرى، ميلاد فرانك شنابيل مؤسس الاتحاد العالمي للهيموفيليا، ويهدف الاحتفال
باليوم العالمي للهيموفيليا لتوجيه البوصلة والعمل من اجل توفير واستغلال المصادر
لعلاج المرضى.
تحتفل المجتمعات الدولية باليوم
العالمي للهيموفيليا ليس من اجل رفع شعار او تسجيل نشاط، بل من اجل التوقف في محطة
على طريق مأسسة وتنسيق الجهود لوضع الخطط، الميزانيات واليات عمل، لتفعيل وتطبيق
مبدأ "العلاج للجميع" لكافة مرضى نزف الدم الوراثي.
وإذا كان ربما سوء طالع وربما وحدة مصير، أن يصادف اليوم العالمي
لمرضى الهيموفيليا، مع ذكرى يوم الأسير، حيث يؤثر ذلك على مدى التركيز والاهتمام
بالمرض، فإن ترافقه هذا العام مع جريمة الإبادة المتواصلة في قطاع غزة ليس فقط
يشتت الجهد، ولكن تأثير استمرار العدوان يؤثر بصورة غير متناسبة على مرضى
الهيموفيليا أكثر من فئات الأمراض المزمنة الأخرى وحتى سوء التغذية، فانعدام
الدواء يهدد عشرات الضحايا، الذين انقطعت الصلات بأغلبهم، وضاع الاهتمام بهم تحت
الركام.
يحتاج مريض الهيموفيليا وعلى مدار
الساعة توفير أدويته (العوامل المخثرة -ابر وريدية-) وبالجرعات المناسبة، حسب نوع
مرض نزف الدم، يأخذ المريض ادويته طيلة حياته، ويحتاج رعاية طبية ونفس اجتماعية
شمولية دورية لمتابعة مضاعفات النزف لديه.
بدأت جهود تنظيم وترتيب مجتمع
الهيموفيليا في فلسطين منذ ثمانينات القرن الماضي، أثناء تلقي المرضى علاجهم
وتعارفهم وعائلاتهم على بعض في أروقة مستشفيات الضفة الغربية وغزة او داخل الخط
الأخضر.
يرجع تاريخ مأسسة عمل مجتمع الهيموفيليا في فلسطين إلى أواسط تسعينات
القرن الماضي، عندما بادرت مجموعة من مرضى الهيموفيليا وعائلاتهم وبعض المتخصصين
والمتطوعين بنقاش الامر، ولاحقا تواصلهم، واستشارة وطلب المساعدة من رئيس الاتحاد
العالمي للهيموفيليا، في تلك الفترة السيد بريان اوماهوني الأيرلندي الجنسية.
نصح السيد بريان
اوماهوني بأعداد قاعدة بيانات تشمل أعداد مرضى الهيموفيليا في فلسطين، وتحديد
أماكن تواجدهم، ومن هي الجهات المقدمة للخدمات والمصادر المتوفرة لهم بالعلاج،
اماكن علاجهم، وبعدها شجع السيد بريان اوماهوني على تأسيس جمعية للعمل والتنسيق
بين المرضى والمتطوعين والمؤسسات الرسمية والمقدمة للخدمات.
مرت ثلاثة عقود منذ عام 1994، وهي
ذكرى نضوج الفكرة وبداية البناء، وبتوجيهات رئيس الاتحاد العالمي للهيموفيليا تم
تأسيس الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم بهدف التحدث باسم هذه الشريحة المهمشة،
المطالبة والعمل والمساهمة في تحصيل حقوق المرضى.
يعاني مرضى نزف الدم الوراثي في
فلسطين، من تشتت مطالبهم واضاعة حقوقهم، وتدهور أوضاعهم الصحية، الجسدية والنفسية،
وتتراكم إعاقات المرضى، ويفقد جزء منهم حياته، بسبب عدم توفر وعدم تلبية
احتياجاتهم وغياب الرعاية الصحية والنفس اجتماعية المناسبة لهم.
يدرك المواطن العادي أو المتخصص، أن
الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي القائم في فلسطين، ومنذ عام 1948،
هي أسباب أساسية لعدم توفر الخدمات المناسبة لغالبية الشرائح المهمشة في المجتمع
الفلسطيني.
إنه لمن العار والمعيب،
على أي فرد أو مسؤول او جهة رسمية محليا وعالميا، ان تستخدم شماعة الاحتلال او أي
شماعة أخرى لتبرير التقصير والنقص الحاد وغياب او انقطاع أو عدم توفر اساسيات
العلاج لاي مريض، وخاصة لشريحة مرضى الهيموفيليا في فلسطين.
ومن خلال متابعة، تدقيق
وتوثيق احتياجات مرضى فلسطين وعلى مدار الساعة، يلمس المتابع عن قرب بوضوح الآثار
السلبية للبيروقراطية في العمل الإداري وغياب منهجية العمل داخل المؤسسة
الرسمية. كما ويتم توثيق شح الاختصاصيين على كادر الوزارات المختلفة، ومن ضمنها
وزارة الصحة، عدم توفر او محدودية الموازنات او خلل في توزيعها، تأخر إنجاز
العطاءات، عقم اليات الشراء، وتراكم مديونية الشركات الموردة للأدوية والمستلزمات.
إن الارتباك في توفر او
خلل لوجستيات توزيع الطواقم، الادوية والمستلزمات والخدمات في أروقة، اوبين مرافق
ومستودعات وزارة الصحة، واضح وجلي في شكاوى المرضى ايضا. كما هو حال عدم إدراك
كثير من الموظفين الإداريين بخطورة الامراض ومضاعفاتها على حياة المواطنين، وهذا
يتزامن مع غياب متابعة الجهات الرقابية لتطبيق مبدأ الحق بالصحة للمواطن
الفلسطيني، فنجد حقوق المريض قد ضاعت، مع أن الحق بالصحة قد اقرته القوانين
المحلية والعالمية والمواثيق الإنسانية. ويؤثر غياب هذا الحق الانساني على صحة
المرضى الجسدية والنفسية وخاصة على مرضى الهيموفيليا.
لا ينكر أحد أن هناك جهوداً مشكورة
تبذل ومنذ عقود مضت، من قبل أفراد وهيئات ودوائر معينة في المؤسسة الرسمية
الفلسطينية، وهناك من يعمل على توفير اللازم والافضل للمرضى. إلا أن الحرب الدائرة
على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر2023، كشفت وسلطت الضوء على أن الجهود المبذولة والموارد
البشرية والمادية والخطط لم تكن كافية على الإطلاق. واتضحت هشاشة وقصور النظام
الصحي في فلسطين.
يواجه مرضى فلسطين وعائلاتهم تجارب
مؤلمة ومأساوية بالإضافة لمرضهم، ومن ممارسات قاصرة وخاطئة على الأرض، وهناك دلائل
واضحة على الحاجة الماسة لتحسين الأوضاع الصحية والطبية والنفسية، وحتى الإدارية
في داخل المؤسسة الرسمية والمؤسسات المقدمة للخدمات، وهذا مثبت في شهادات ومطالب
المرضى وعائلاتهم، اومن التغطية الإعلامية او عبر ما ينشر على منصات التواصل
الاجتماعي وما ينشر من التقارير المهنية المتخصصة الرسمية المحلية والعالمية.
يتحمل المجتمع المحلي مسؤولية هذا
التقصير، افراداً ومؤسسات أولا ثم المجتمع الدولي، فمطالب المرضى منسقة وواضحة
ومركزة، ويجب أن يكون العمل واضحاً واساسه بناء وتطوير وحماية المنظومة الصحية في
فلسطين، والمطالبة بحقوق المواطن الفلسطيني وتوفير الخدمات له، وسد العجز في
الادوية والخدمات وتوفير الرعاية الصحية والاحتياجات وديمومتها.
اختلال الأمور كما وصفت أعلاه تهدد
حياة مرضى الهيموفيليا، فاحتياجات المرضى والاهتمام بهم ليست أولوية لدى الجهات
الرسمية، وتظلمات هؤلاء المرضى لا تصل طاولة صناع القرار ومقدمي الخدمات. إن
مستقبل المرضى ريشه في مهب الريح، والخطر يداهم حياتهم اي لحظة.
تستمر معاناة مرضى الهيموفيليا في
فلسطين على مدار الساعة، وهي معضلة تاريخية متجددة، وعدد مرضى نزف الدم الوراثي
بأنواعه الثلاثة عشر يقدر بالآلاف، حسب الإحصاءات والتقديرات العلمية، إلا أن ما
هو مسجل من مرضى هيموفيليا لدى الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم تقريبا ستمائة
مريض.
يدرك المتابع عن قرب هول مأساة شريحة
مرضى نزف الدم الوراثي في فلسطين والتي تشمل الهيموفيليا، ويشعر من يطلع على الم
ومعاناة هؤلاء المرضى بعمق معاناتهم والحاجة الماسة لخدمتهم.
قصص الألم في حياة مرضى الهيموفيليا في فلسطين ليست محصورة او مقصورة
على مرضى قطاع غزة من أمثال لافي أو محمد أو حسام أو أنس، وكل من أصبح بالإضافة
لمرضه مشرد أو نازح في مخيمات الايواء وخاصة في رفح، ومثل بدر ابن دير البلح والذي
يعاني من الهيموفيليا نوع الف وابن ال 15 عاماً، والذي تم إجلاؤه مؤخرا من قبل
مؤسسة انسانية للعلاج في الأمارات، وبعد ان وجد مصابا تحت أنقاض منزله الذي قصفه
الاحتلال و تضررت قدمه ويده، فضلا عن نزيف شديد في عينه، وبقي بدر بلا علاج لمدة
ستين يوماً.
كما أن ما يمر به مرضى الهيموفيليا
في الضفة الغربية أيضا من ظروف صعبة، ليس أفضل حالاً بكثير من اوضاع مرضى قطاع
غزة، فلا تتوفر ادويتهم بانتظام او بالكميات المناسبة، وتختفي العوامل المخثرة
لأسابيع وأشهر بأنواعها المختلفة.
يتواصل كثير من مرضى
الهيموفيليا، ويطالب ويلح او أولياء أمور هم مثل إيمان ويناي من محافظة
الخليل، مطالبين بالمساعدة وحث وزارة الصحة لتسريع توفير ادوية بناتهن من العامل
المخثر العاشر، كما هو حال المريضين علي ومحمود من محافظتي سلفيت والخليل يوثقان
ويشتكيان للجمعية من عدم توفر العامل المخثر التاسع لهما في مستشفيات وزارة الصحة
منذ أشهر. اما عارف من محافظة رام الله والبيرة فوضعه مقلق ومحزن، فهو يتنقل بين
دوائر وزارة الصحة المختلفة في رام الله، ويحضر لمكاتب الجمعية في مدينة البيرة،
قادما من قريته مطالبا التدخل لدى الوزارة لتعجيل توفير دوائه المناسب من
العامل المخثر نوع فان ويلبراند، والذي من المفروض ان توفره له وزارة الصحة عبر
آلية الشراء الخاص.
يتضح اتساع حجم وعمق معاناة ومأساة
مرضى الهيموفيليا في فلسطين عندما وكلما غصنا في تفاصيل مشاكل المرضى. فلماذا لا
يستطيع مريض الهيموفيليا الكفيف لافي من قطاع غزة، ومن قبل ان يتشرد وينزح، تغيير
مفصل ركبته، وحتى عندما كانت هناك مستشفيات تعمل في غزة، او حتى عندما حضر بتحويلة
قبل الحرب الى الضفة الغربية للعلاج؟، ولماذا لا تستطيع الشابة حنين من محافظة رام
الله والبيرة، والتي تعاني من خلل في عامل بروتين سي للتخثر من الحصول على موعد
لإجراء عملية المرارة؟، ولماذا محمد من محافظة طولكرم والذي لديه نقص في العامل
المخثر الثامن لا يتوفر طبيب اسنان يشرف على علاجه ويقدم له خدمات علاج للأسنان؟
تتجدد في ذكرى اليوم العالمي
للهيموفيليا عام 2024المسؤولية المهنية والاخلاقية على مجتمع الهيموفيليا في
فلسطين، وبان تعمل كل المكونات بجدية وإخلاص، لتصبح هذه المناسبة نقطة انطلاق
جديدة، وتتضافر الجهود والتعاون والتنسيق والعمل بتكاملية بين صناع القرار ومقدمي
الخدمة في المؤسسة الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأسها وزارة الصحة
الفلسطينية، اللجنة الوطنية العليا للهيموفيليا وكل الجمعيات العاملة في هذا
المجال.
يتحتم الاسراع بتشكيل الفيديرالية الفلسطينية للهيموفيليا لتمثيل
مجتمع الهيموفيليا الفلسطيني عالميا، مع محافظة كل الهيئات المحلية العاملة على
وضعها الإداري والقانوني القائم والمستقل محليا. ما دام هناك اتفاق، وهدف
جميع العاملين والمتطوعين والمرضى وعائلاتهم هو مأسسة وتطبيق البروتوكولات
العلاجية المعتمدة عالميا، وتوفير العوامل المخثرة بكافة أنواعها، والتي يحتاجها
المرضى وتوفير خدمات الرعاية الصحية والطبية والنفس اجتماعية الشمولية ولإيقاف
النزف والحد من النزيف المتكرر في مفاصل او عضلات او أعضاء المرضى الداخلية، ومنع
والحد من مضاعفات النزف والاعاقات الجسدية والحركية والاضطراب النفسي والاجتماعي
في حياة المرضى، وللحد من معاناة مرضى نزف الدم الوراثي في فلسطين وادماجهم
مجتمعيا.
** ناشط مجتمعي واعلامي
فلسطيني مقيم حاليا في الضفة الغربية، مهتم بالحقوق المدنية والصحية وحقوق مرضى
الهيموفيليا واحد مؤسسي الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم ورئيس مجلس إدارة
الجمعية الحالي.