انهيارات.. وضمائر!
طاهر المصري
(أنا
جندي في الخدمة الحالية في القوات الجوية الأميركية. لن أشارك بعد الآن في الإبادة
الجماعية. سأنظم، الآن، احتجاجا عنيفا للغاية، لكن احتجاجي لن يكون كبيرا
بالمقارنة مع ما يعيشه الفلسطينيون على أيدي مُستعمرِيهم)..!
هذا
ما قاله الجندي الأمريكي الشاب (آرون بوشنيل)، مهندس البرمجيات، وهو يرتدي ملابسه
العسكرية الكاملة، أثناء خطواته القليلة التي مشاها على الرصيف، باتجاه السفارة
الإسرائيلية في واشنطن؛ ليتوقف بهدوء وثبات أمامها، ويسكب على جسده مادة سريعة
الاشتعال، ثم يشعل النار في جسده، ويبدأ في الاحتراق، بينما يعلو صراخه المتواصل:
(الحرية لفلسطين)، إلى أن انقطع نفسه، وهمد جسده. ليُعلَن عن وفاته لاحقاً.
وقد
تم بثّ ذلك على الهواء مباشرة، على موقع الجندي على الانترنت. لهذا لم يتمكن أحد
من التدخل في حجب المشهد. ولكن الإعلام الأمريكي الرسمي والأوروبي، الصحفي
والمتلفز، ما زال يحاول محاصرة الانتشار الرسمي للمشهد الخطير. حيث اكتفت وزارة
الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بوصف الحدث بأنه (حادث مأساوي)، بينما أغفلت الصحف
ومحطات التلفزة الكبرى ذكر السبب الذي جعله يقدم على هذه الخطوة، فضلاً عن إغفال
وعدم ذكر ما قاله الرجل، عن رفضه أن يكون شريكاً في الإبادة الجماعية في غزة
وتضامنه مع فلسطين. وهو ما حدث عكسه تماماً في وسائل التواصل الاجتماعي، التي شهدت
انتشاراً واسعاً لمقطع الفيديو، وإشادة واسعة لم تتوقف حتى الآن بما قاله الرجل،
عن سبب إقدامه على هذا الاحتجاج العنيف.
لم
يكن هذا حدث عادي، ولن يكون..
فهذا
مواطن أمريكي أبيض، كامل النقاء العرقي الغربي. وهو عسكري متعلم بمستوى عالٍ، وعلى
رأس عمله، وبكامل زيّه العسكري؛ يعلن احتجاجا عنيفاً ينهي بها حياته حرقاً، أمام
سفارة دولة العدوان الإسرائيلي، وفي عاصمة الراعي الرسمي لتلك الدولة؛ يعلن الشاب
الجريء أمام الملأ بأنه لن يكون شريكا بعد اليوم في الإبادة الجماعية، وبأن
احتجاجه العنيف هذا هو أقل بكثير مما يحدث في فلسطين..
فما
الذي يجعل شاباً أمريكيا غربيا، بهذه المواصفات، على الإقدام على خطوة كهذه؟ بل
وما معناها الحقيقي؟
ربما
تكمن الإجابة في مفردة واحدة وبسيطة؛ لأنّه (إنسان).
إنسان
آمن بالقيم والمعايير والقوانين الإنسانية التي كرّستها الحضارة الغربية، وها هو
اليوم يكتشف، كما غيره من الناس في بلاد الدنيا، انهياراً كاملاً لتلك القيم
والمعايير والقوانين، التي تم إقرارها منذ عقود. وهو انهيار عنيف يتجاوز حدود ما
فعله (بوشنيل) بجسده، يتمثّل في الإبادة الجماعية المتواصلة، منذ أكثر من أربعة
شهور، وعلى مدار الساعة في غزّة، والتي تشارك فيها بلاده الأمريكية بكل إمكاناتها
ونفوذها، لهذا رفض الرجل أن يكون شريكا في تلك الإبادة، والتي هي ضدّ كل القيم
التي تعلمها ونشأ عليها.. ولعلّ ما هو مُفارقٌ أكثر هو أن الرجل عسكري، وله قيم
عسكرية أيضاً يؤمن بها، ورأى فيما يحدث انتهاكا لتلك القيم أيضاً!
كل
مخاطر الانهيار تلك تدركها قرون الاستشعار الفكرية والسياسية والاستراتيجية
الأمريكية قبل غيرها، وبالتأكيد قبل كثير من المجرمين القاعدين الآن في سدّة الحكم
في دولة العدوان الإسرائيلي. وهو استمرار لإدراك أمريكي لمخاطر التداعيات التي تلت
واقعة 7 أكتوبر، والتي بدأ التحسبّ والتدبير الفعلي لمفاعيلها منذ اليوم الأول،
فتحركت البوارج والأساطيل إلى مرافىء بلادنا على عجل، وما تزال. وهي تداعيات لم
تتوقف عند مخاطر الخسارات العسكرية المباشرة، بل تعدتها إلى مخاطر خسارات النفوذ
المعنوي والقيمي والأخلاقي عند شعوب العالم، بما في ذلك خسران المضامين الفعلية
للعناصر الأساسية المكونة للخطاب الأمريكي والغربي السياسي والثقافي والفكري
والأخلاقي. ولعل السماح الأمريكي لبازار المسرح الخطابي في محكمة العدل الدولية،
الذي أتاحته أمريكا لجميع الدول، لاحتواء ومحاصرة ما أحدثته وتُحدثه الإبادة
الجماعية الإسرائيلية في غزة من انهيارات قيمية وأخلاقية في منظومة الخطاب
الأمريكي والغربي، لعل ذلك السماح هو خير دليل على تحسس الولايات المتحدة لخطورة
ذلك الخراب وما سيليه.
ليس
هناك في التاريخ المعاصر وقائع يمكن مقارنتها والقياس عليها مع ما نشهده اليوم من
إبادة جماعية كارثية في غزة، وما تولّده يوميا، على المستوى العالمي، من خسارات
وانهيارات لمجموعة القيم الناظمة للاجتماع الإنساني. وحتى مشهد (طفلة النابالم
الفيتنامية؛ فان ثي كيم فوك) العارية، في العام 1972، وهي تركض عارية بعد إصابتها
بحروق بالغة، من جراء قصف قريتها قرب العاصمة (سايغون) بقنابل (النابالم) الحارقة،
والتي تحوّلت إلى أيقونة عالمية على جرائم الأسلحة المحرمة دولياً، تصعب مقارنة
ذلك المشهد بالفعل الإنساني التضحوي القاسي والعنيف، الذي قام به (آرون بوشنيل) في
العام 2024، احتجاجا على الإبادة الجماعية في غزة.
فهل
يتحول الشاب الأمريكي (بوشنيل) إلى أيقونة هذا العصر، الشاهدة على جريمة الإبادة
الكارثية غير المسبوقة، والتي يحمل الكثيرون أوزار جنايتها، وعلى رأسهم الولايات
المتحدة الأمريكية وثكنتها العسكرية المتقدمة إسرائيل؟
بقي
أن نلحظ المفارقة الإنسانية الكبرى في المشهد المروع كله، إنسانيا وأخلاقياً، وهي
أن فداحة الفعل الكارثي تحدث في بلادنا، وأمام أنظارنا، وفي انتهاك لكل ضمائرنا،
بينما يتصاعد الاحتجاج بشكل متنامٍ في عواصم الغرب، وآخرها الفعل الإنساني المدوّي
لشهيد الأخلاق والضمائر الحية (آرون بوشنيل)!
نقلا عن "الاول نيوز"