الطِب النَّفسي في العَالم العَربي.. يحتاجُ إلى تطبيب؟
رفيق طيبي
حين قرّر "هتلر” المضي في فكرة "الجنس
الآري” المتفوّق وبِناءْ دَولة متفرّدة أسس مراكز بحوث للدراسات النفسية المعمقة
لدراسة نفسيات شعوب العالم من أجل فهمها ودراسة نخبها تمهيدا لغزوها، الفكرة
العنصرية (الآرية) طوّرها مفكرون من بينهم الفرنسي جوزيف آرثر دو غوبينو (1816 –
1882) الذي دشن نظريته العنصرية بمقال مهم حول عدم المساواة بين الأجناس والذي
نشره سنة 1848 ادعى فيها أن الأرستقراطيين كانوا
متفوقين على عامة الناس ويمتلكون سمات وراثية آرية بسبب
قلة التعارف والإختلاط مع الأجناس الدونية القادمة من جبال الألب والمتوسط والغريب
في مسيرته أنه شاعر وروائي! صِفتان تَفترضان حُب الإنسان والنظر إليه نظرة حالمة
ورومنسية لكن ل "دو غوبينو” رأي آخر! هذه الأهمية فهمتها النازية بكل سوئها مبكرا،
وبعد مضي ما يقارب ثمانين سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهاء النازية
استمرت ألمانيا تحقق تقدُّما في علم النفس انطلاقا من أفكار تأسيسية كبرى لأهميته
ودوره في صناعة شعب متطور على الصعيد الفردي والجمعي، لكن في بلدان أخرى خاصة
العربية لم يتم الانتباه إلى هذا المعطى، الضروري والرئيسي لإحداث وثبة في رأس
المال البشري الذي دونه لن يتحقّق أي تقدم أو تغيير.
في سياق الاهتمام بعلم النفس كوّنت
علاقات قد تكون علاجية بأشخاص واجهوا متاعب نفسية مزمنة، ووقعوا غالبا ضحايا توجيه
نفسي خاطئ من معالجين غير أكفاء، كما ساهم محيطهم محدود الوعي في تعميق أزماتهم،
في مرحلة كنت قد بذلت جهدا عميقا لفهم شخصيتي أولا ووضعها تحت سلطة النقد الذاتي
بخلق متاريس ونقاط مراقبة لكل فكرة بإمكانها التسلل إلى العقل الباطن والتأثير
عليه ولمساءلة كل سلوك ينبع من العقل الباطن قد يكون خاطئا وغير مراقب، مما أهلني
في حدود اعتقادي إلى مساعدة الأصدقاء من خلال أفكار تلقيتها بكثافة من خلال عشرات
الكتب والمحاضرات النفسية، يضاف إليها رصيد ثقافي وأدبي كوّنته خلال سنوات، تلك
الأفكار التي كانت جاهزة للترويج صادفت في بدايتها شابة مرموقة نختار لها إسم
"ليلى” تشغل منصب مهندسة في القطاع العمومي في الجزائر، كانت "ليلى” هادئة، مهتمة
بالأدب، امرأة طموحة تكتب نصوصا نثرية جميلة تفكر في نشرها، كل ذلك قبل استشعاري
لوجود خلل على مستوى تركيبتها النفسية من خلال نوبات حزن وتقلبات مزاجية حادّة تمر
بها وتظهر في أسلوب كلامها وردود أفعالها، حين سألتها عن الخلفية، أخبرتني بصعوبة
أنها زارت مختصين نفسانيين كثر دون جدوى، وقد صنفوها على أنها "شخصية فائقة
الحساسية”، وهنا بداية الصدمة بالنسبة إليّ، فغير معقول أن تكون "الحساسية”
اضطرابا رغم أنّ "إيلين أرون” و”آرثر آرون” عالما النفس طرحا مصطلح "الشخص شديد
الحساسية” منتصف التسعينيات ولاقى اهتماما لكن لا يصل إلى الوصف بالاضطراب، وما لم
ينتبه إليه المختصون الذين زارتهم هو أن الحساسية التي وصفت بها هي إحدى أعراض
اضطراب الشخصية الحدية (من طيف مرتفع) والحساسية العالية ليست اضطرابا مستقلا تشخص
به بل هو عرض، لماذا حدية؟ في داخلها نوايا انتحارية وهؤلاء ينتحر منهم 11 بالمئة
وفق إحصائية عالمية وهذا أخطر مؤشر، يضاف إليه انعدام المنطقة الرمادية في
تفكيرهم، إما أبيض أو أسود، فأغلب مواقفهم تمتاز بالتطرف الشديد، (حب / كره. قبول
/ رفض. تعاطف / إنكار) والشعور بفراغ داخلي مهول تملؤه بإدمانات مختلفة أبسطها
وسائط التواصل الاجتماعي، كما تملك جوانب درامية ظاهرة، هذا ما مهد إلى المزيد من
الأسئلة حول شخصيتها التي توقعت أنها ستنهي التواصل معي بشكل مفاجئ –ذلك ما سيحدث
لاحقا- فهذه الشخصية من أكثر الأنواع خسارة للعلاقات بسبب صورتها عن ذاتها غير
الجيدة والكبرياء الهش الذي يجعلها ترى مفهوم "الكرامة” بشكل مغاير للشخصيات
العادية ومبالغ فيه، فتدافع عن كرامتها وتثأر لها بشكل عنيف يجعل الأطراف المقابلة
تستغرب وقد لا تستوعب وجود مس بكرامتها، وأيضا بسبب الصورة الذهنية عن الآخر التي
تكون مشوشة، فالعقل البشري ينجز لأي شخص يعرفه صورة في المخيال، ما يشبه الcapture تكون كاملة لدى الشخصيات العادية، في حين أنها لدى الحدية مشوشة،
مما يجعلها في توقع دائم لأذية الآخر والتشكيك فيه وتوهم الهجر وتوقعه، وتوظف
غالبا هذه الشخصية مفردة التدمير (دمر حياتي)، فالتدمير سمة رئيسية في نظرتهم إلى
الآخر، مع اتصافهم بالتهور الشديد والاندفاع ويخضع ذلك طبعا إلى حالتين (عصابية
نفسية أو ذهانية عقلية) جزء منها يحتاج علاجا نفسيا وجزء علاجا لدى طبيب الأمراض
العقلية ويكون دوائيا والمبشر في كل الحالات أن هذه الشخصية تشفى بشكل كامل ونهائي
غالبا خلال 08 أشهر (حسب الحالة) من المتابعة المكثفة وهي تمتاز بالطيبة والكرم
والذكاء الشديد والذوق ودقة الملاحظة، حين تكون في المنطقة البيضاء بعيدا عن
المنطقة السوداء التي تصبح فيها عدوانية في ظل افتقادها الكلي للمنطقة الرمادية أي
الوسط.
بعد شهر من التواصل ومناقشة
الأعراض واقتناعها برأيي الذي لم أصفه بالتشخيص بقدر ماهو "أفكار” من صديق يريد
المساعدة، أخبرتني أنها أصيبت بهذا الاضطراب بسبب علاقتها مع حبيب نرجسي تخلّى
عنها ولم يحترم قصة حبهما وقد منحته كل شيء، كان جوابي أن هذا الشخص هو facteur
declenchant أي عامل إثارة أو إظهار
أو تفجير للاضطراب، فالحقيقة أن تشكل هذه الشخصية وعلاماتها انطلقت من صدمة طفولية
تعرّضت إليها قبل سن 12، قد تكون إهمالا وغيابا لأحد الوالدين أو كلاهما أو تحرشا
جنسيا أو عنفا منزليا، وفي نفس الوقت طرحت عليها تساؤلا: ليلى هل هذا الشخص نرجسي
فعلا، قد يكون تشخيصا خاطئا؟ النرجسية موضة، تهمة رائجة من طرف العامة ومنشطي
البرامج التلفزيونية وصناع محتوى اليوتيب، دون تشخصي فعلي وعلمي للحالات. وهنا
بدأت النهاية المتوقعة، ردت بحدة: "بل نرجسي وأنت سيء تدافع عن النرجسي الحقير! ثم
أين درست علم النفس لتتحدث، رأيك لا يهمني”. سكت لكي لا تزيد الطين بلة، لكنّها
زادت حد الإغراق وقالت الكثير. سيكولوجيا كانت تريد تأكيدا على نرجسية هذا العاشق
المتخلي للحفاظ على أمل عودته! بسبب تعلقها الشديد به، فالخيال المشترك بين
الحديين والنرجسيين يخلق بينهما كيمياء هائلة، كما أن النرجسيين غالبا يقومون بما
يسمى "الهوفرينغ” أي الشفط وإعادة تدوير العلاقة الذي يبدأ بقصف الحب، ثم تبدأ
دورة الإساءة في شكلها التقليدي المعروف، كل هذا قبل أن يتحرك شعورها بالذنب
والندم (شعور هذه الشخصيات بالذنب عالٍ)، كانت قد أحدث ضررا بالغا لصداقتنا
تفهمته، لكن الآخر الذي لا يعرف علم النفس لن يفهمها أبدا وهكذا اضطرب التواصل
بعدما صرت بالنسبة إليها "عامل يقظة” مضاد لأفكارها، يرفضه عقلها الباطن خاصة حين
حاولت إدخالها في تمارين فك التعلّق.
هذه الشخصية ستعاني طويلا وقد تنتحر قبل
الوصول إلى مختص نفساني محترف في الجزائر، يعيدها إلى شخصيتها الأولى (الشخصية
الأم) ويمكنها من حياة أفضل، وهي نموذج من مئات الآلاف وربما ملايين يواجهون
اضطرابات غير مشخصة. في نفس السياق تابعت بأسف عشرات المختصين الذين يتحدثون عن
اضطراب الشخصية النرجسية بعدوانية (لعنة النرجسية، النرجوس القذر، وجملة شتائم)
تساءلت: هل يمكن أن نشتم مريضا بالسل مثلا؟ نهينه ونقلل منه ونهاجمه؟ بالنسبة إليّ
لا فرق بين مريض السل أو السرطان والمضطرب نفسيا مهما كانت الأذية، فالمضطرب تنبع
سُلوكاته من عقله الباطن المشحون بالصدمات والذي لا يتحكم به فعليا قبل أن يدخل
دورة العلاج، فكيف يمكن لمختص مهاجمة فئة بحاجة إلى المساعدة والتعاطف؟ سواء
الأطياف والدرجات العليا التي تحتاج تدخلا معمقا تبدأ من الوصول بهم إلى لحظة
الاعتراف الحقيقي بوجود أزمة وهذه أصعب خطوة على الإطلاق، أو الأطياف المنخفضة من
الذين يملكون سمات وأعراض محدودة والذين يتحسنون سريعا من خلال فهم طبيعة العطب
والبحث عن حلول له، أليس هذا التحامل والعدوان في جوهره فعلا غير إنساني وغير
مهني؟ أم غواية الانتشار على المنصات وتحقيق مكاسب مادية من تفاعلات اليوتيب،
ومعنوية من نفخ الإيغو بالأنصار والمتابعين أهم من الإنسانية والموضوعية؟ ساورتني
هذه الأسئلة وأنا أفكر أيضا في الذين فتحوا عيادات نفسية تُقدم حلولا محبطة وساخرة،
كمثال: شاب أعرفه مصاب باضطراب "ثنائي القطب” وهو اضطراب خطير ومحبط للمصاب به
ومحيطه، تقول له النفسانية التي زارها أكثر من مرّة، جرّب أن تلتزم بالصلاة
والرقية واترك سماع الغناء! هل هناك مشهد تراجيدي أكثر من هذا؟ تضيف سيدة مرت
بأزمة طلاق تلتها أزمة "ما بعد الصدمة” التي طالت، فقالت لها النفسانية في جلسة
ثانية بعد أن ضربت مكتبها بقوة: أوقفي عليّ دموعك، لتغادر العيادة مكتئبة أكثر مما
كانت وتتشافى لاحقا ذاتيا من خلال الكتابة! في نفس السياق تروي لي طبيبة عملت
بعيادة للتوليد وطب النساء كيف أنها تستدعي النفسانية لطمأنة السيدة الخائفة،
المقبلة على الولادة لأول مرة غالبا، فتتدخل بالصراخ عليها طالبة منها وقف
الدراما! مما جعل الطبيبة تقول لها: ان كانت مساعدتك بالصراخ فسأصرخ عليها أنا دون
استدعائك وانتظار قدومك!
قد تكون غريزة الإنقاذ التي
حركتني مرارا في العديد من المواقف خطوة أولى نحو المزيد من المقالات النفسية التي
أطرح فيها أفكار قارئ وهاوٍ يرغب في رؤية الصحة النفسية في بلده بخير، على أمل
تحرك المختصين الأدرى والأعرف، وشحذ أدواتهم العلمية كتابة ومعالجة لملايين
يواجهون مخاطر نفسية في بيئة منتجة للاضطرابات لأسباب لا يمكن حصرها، في بلد تخرج
كليات علم النفس فيه آلاف الطلبة سنويا أغلبهم يعيشون البطالة ونسبة كبيرة منهم قد
لا تعرف حتى أنواع الشخصيات وأبسط أسس تخصص وعلم سنحتاجهما أكثر كلما تقدم الوقت
ومارست الثورة التكنولوجية والعولمة ضغوطاتها على الإنسان والأسرة والتركيبة
الاجتماعية، مما يجعله دوما في مواجهة مصائر وحتميات قلقة قد تحول دون تحقيق
الأمن الروحي للبلدان مما يهدد باهتزاز أمنها القومي ككل.
كاتب وناشر جزائري