فهم وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي
تمارا خزوز
رغم
مرور أكثر من عقدين على ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وتحوّلها إلى المنصة الأولى
عالميًا لإنتاج المحتوى وإدارته، ما تزال الدولة تتعامل معها وكأنها ظاهرة طارئة،
تفتقر مؤسساتها إلى الأدوات اللازمة لفهمها وإدارتها، ما يعكس بطأ واضحًا في
التكيف والاستجابة مع الواقع الرقمي المتسارع واقتصار التعامل معه على شكل رعاية واستضافة
ومؤتمرات.
تعكس هذه المقاربة في
التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، بالحدود الدنيا وعدم توظيفها في إدارة الرأي
العام وتحريكه، قصورًا إستراتيجيًا عميقًا على مستوى الإدارة العليا في الدولة،
بسبب غياب الرؤية للتعامل مع التحولات الجذرية التي أحدثتها هذه الشبكات على
المستويات السياسية، الاقتصادية، والأمنية.
لم تعد شبكات التواصل
الاجتماعي مجرد أدوات للتواصل، بل أصبحت قوة رئيسة تُعيد صياغة العلاقات
الاجتماعية والسياسية وتشكل الرأي العام بسرعة تفوق إمكانات وسائل الإعلام
التقليدية. في المقابل، تنظر العديد من الدول إلى هذه الشبكات كجزء أساسي من أمنها
الوطني. ومع ذلك، نفتقر نحن إلى وحدات حكومية متخصصة لتحليل البيانات الرقمية
الضخمة وإدارتها بفعالية. وأحد الأمثلة البارزة على التفوق في هذا المجال هو
الوحدة 8200 الإسرائيلية، التي تُعتبر حجر الأساس في النظام الاستخباراتي للكيان.
تُعرف هذه الوحدة عالميًا بتقدمها التقني واستخدامها التكنولوجيا لجمع المعلومات
وتحليلها، بل وتوظيفها لإثارة الأزمات وافتعال الفتن لتحقيق أهداف استخباراتية
وسياسية تخدم التفوق الإقليمي.
أما على صعيد الموارد
البشرية، فتبرز إشكالية أخرى تتمثل في الاعتماد على نوعين من الموظفين. النوع
الأول يضم أصحاب الخبرة السياسية والإعلامية الذين يفتقرون إلى القدرة على تطويع
المحتوى ليتماشى مع معايير المنصات الرقمية الحديثة. أما النوع الثاني، فينتمي إلى
الجيل الجديد من المتخصصين الرقميين الذين يفتقرون إلى الخبرة الإعلامية والسياسية
العميقة لإنتاج محتوى متوازن يجمع بين الشكل والمضمون. وفي ظل غياب الاستثمار
الفني والمالي لتأسيس وحدات متكاملة تضم فرقًا تجمع بين الخبرة التقنية والمعرفية،
يكون المنتج النهائي غالبًا مشوهًا، سواء من حيث الشكل أو المضمون. وحتى عند الاستعانة
بخبراء من خارج الكوادر الحكومية، فإن الأولوية غالبًا ما تُمنح للخبرات التسويقية
ذات الطابع التجاري على حساب الاتصال الحكومي التفاعلي والاستباقي، الذي يتطلب
مهارات عالية للتعامل مع الأزمات.
تزايد اهتمام الحكومات
بشبكات التواصل الاجتماعي بعدما لعبت دورًا حاسمًا في أحداث مفصلية مثل الثورة
التونسية والمصرية في عام 2011، وفوز أوباما في انتخابات 2012، وإفشال الانقلاب
التركي عام 2016. وفي المقابل، ساهمت هذه الشبكات أيضًا في تعزيز خطاب الكراهية
وصعود التطرف، كما حدث خلال الانتخابات الأوروبية في 2014. هذا التأثير المزدوج
دفع العديد من الحكومات إلى تبني إستراتيجيات أكثر وعيًا للتعامل مع هذه الأداة
مزدوجة الأثر.
نحن اليوم أمام مرحلة
مفصلية تتطلب من الدولة إعادة صياغة علاقتها بشبكات التواصل الاجتماعي من خلال
الاستثمار بتأسيس وحدات متخصصة لدراسة التأثيرات العميقة لهذه الشبكات على الحراك
الاجتماعي والسياسي. كما لا بد من إعادة تعريف دور المؤثرين ليكون أساسه إثراء
المحتوى الثقافي والمعرفي عبر هذه الشبكات، بعيدًا عن النزعة التجارية السائدة.
وضرورة وضع معايير في الدولة للتمييز بين القيادة الإيجابية للمؤثرين ودعمهم، التي
تستند إلى القيم الإنسانية والبعد المعرفي والقيمي في إنتاج المحتوي وترويجه، وتلك
التي تعتمد على الاستقطاب وتُغذي الإثارة وخطاب الكراهية.
جريدة
الغد