العالم كما عرفناه انتهى للأبد


د حيدر البستنجي
العالم، بصيغته التي
اعتدناها منذ نهاية الحرب الباردة، دخل طور الانحلال النهائي، لينبثق من تحت رماده
واقعٌ دوليٌ مختلف و غير مسبوق ، أكثر توترًا وأقل تعاونًا، أكثر افتراسًا وأقل
توازنًا.
الولايات المتحدة تواصل
قيادة المشهد العالمي المتغير مجددًا، ولكن هذه المرة ليس بوصفها "قوة
ناعمة" أو "زعيمة أخلاقية" للنظام الليبرالي العالمي، وإنما
باعتبارها مركزًا قسريًا لإعادة هندسة النظام الدولي قهرًا، وفرض موازين قوى جديدة
لا مكان فيها للهامش ولا للمساواة في المصالح.
هذه الإدارة الأمريكية لم تمنح نفسها ترف
الوقت لاستشراف التحولات أو ملامسة التوازنات، فهي شرعت منذ اليوم الأول في
التعامل مع العالم باعتباره مجرد فناء خلفي تتوزع فيه المكونات الدولية بين تابع
ومتلقي للتوجيهات، حتى أقرب الحلفاء لم يسلموا من تداعيات هذا النهج المتغطرس؛ ذلك
أن الهدف غير المعلن هو تصغير أي مساحات سيادية مستقلة، وتفكيك الإرادات الوطنية
التي تتعارض مع تثبيت الهيمنة الأمريكية عالمياً ، سواء سلوكيًا أو قيميًا أو
وظيفيًا.
وفي هذه المرحلة
الانتقالية المضطربة، لم تعد المعايير التقليدية ثابتة، ولم يعد الغرب هو الصوت
الأعلى دفاعًا عن حقوق الإنسان، أو عن حرية التجارة، أو عن حماية الملكيات
والاستثمارات العابرة للحدود، تلك المبادئ التي طالما تذرّع بها الغرب كأدوات
شرعية لتوسيع نفوذه، يجري الآن تقويضها من داخله، من خلال فرض الحمايات الجمركية، وشنّ
الحروب الاقتصادية، وضرب أسس السوق المفتوحة – وكلها أدوات تُستخدم حصرًا ضد الخصم
المركزي في هذا العصر: الصين.
العالم الآن على
وقع سياسات ترامب الأحادية لم يعد في طور التعاون البناء ، فقد دخل دون رجعة مرحلة
التنافس الجذري، الذي يشبه حالة الاصطفاف ما قبل الانفجار، وهذا التحول ولادة
مؤلمة لعالم جديد لا يشبه ما سبقه، إذ يجري فيه إعادة توزيع مراكز الثروة والتفوق
التكنولوجي والهيمنة العسكرية ضمن صراع شامل تتداخل فيه أدوات القوة الصلبة
والناعمة.
محلياً؛ دخل الإقليم العربي في طور الفراغ
الاستراتيجي، فالمحاور التقليدية فقدت فاعليتها، وما يُسمّى بمحور
"الممانعة" أو "المقاومة" يعيش حالة من التراجع الهيكلي، يعيد
خلالها قراءة هزائمه، بينما المحور الآخر، المتحالف مع الغرب، وجد نفسه فجأة بلا
مظلة حقيقية، في ظل تبدل أولويات واشنطن، وتراجع شهيتها للتدخل المباشر، مما ترك
العالم العربي برمته في حالة تيه جيوسياسي، بدون بوصلة واضحة، ولا قيادة جامعة، في
لحظة دولية لا ترحم الضعفاء ولا تُبقي مكانًا للمترددين.
و ضمن هذا المشهد المتداخل، تلعب إيران وروسيا
دورًا بالغ الحساسية، بوصفهما نقطتين مركزيتين في خارطة التنافس الأمريكي – الصيني،
فكلاهما إما أن يُعاد ضمه إلى المنظومة الغربية، أو يتم تحييده قسرًا؛ إذ لا مجال
للحياد أو التجنب في هذا النمط من الصراعات الهيكلية.
الخسائر محققة، أما المكاسب فمرهونة بقدرة كل
طرف على إدارة الاشتباك لا تفاديه. وتابع أنه لا مكان للفراغ في السياسة، فحينما
انسحبت إيران نسبيًا من المشهد السوري، تسللت تركيا لملء هذا الفراغ بذكاء
جيوسياسي محسوب، والأمر ذاته ينطبق على إسرائيل، التي باتت ساحة داخلية هشة
ومفتوحة على كل السيناريوهات، مضيفًا أنه مع قرب أفول عهد نتنياهو والليكود، بدأت
معادلات الداخل الإسرائيلي تتغير، حيث أسس نفتالي بينيت مؤخرًا حزبًا جديدًا
يحمل اسم "بينيت 2026"، إيذانًا بمعركة سياسية مقبلة، وهذه الهشاشة
ستتضاعف في حال التوصل إلى "تسوية مؤقتة" مع غزة، والتي قد تدفع بإيتمار
بن غفير إلى مغادرة الحكومة، في ظل موقفه المتشدد الرافض لأي اتفاقات، إذ إننا
أمام تصاعد ضغوط الحريديم لحل أزمة قانون التجنيد، مما يجعل حل الكنيست في أكتوبر
المقبل احتمالًا راجحًا، ومناسبة ملائمة – في حال لم تستجب طهران - لتوجيه ضربة
عسكرية لإيران، برعاية أمريكية - إسرائيلية مشتركة.
أننا بلا شك على
مشارف شرق أوسط جديد تمامًا، ضمن عالم يتشكل من رماد المنظومة السابقة، والفاعلون
الحقيقيون هم أولئك القادرون على قراءة المشهد لا على التكيف معه فقط، بل وحتى على
صناعة واقعهم ضمنه، بما يسمح لهم بالبقاء وسط المتغيرات العنيفة، لا الغرق في
لجّتها.