“صفحات غير مكشوفة”.. يرويها شاهد عيان في حرب العراق واستخدام الأسلحة الستراتيجية باحتلال بغداد!


احمد صبري *
رغم مرور 22 عاماً على غزو
العراق واحتلاله، فإنَّ جوانبَ من أسرار الحرب وخفاياها، وما حصل خلالها لم تُكشف
تفاصيلها بعد خصوصاً، ما يتعلّق بالأسلحة الاستراتيجية التي استخدمتها قوات
الاحتلال في معارك المطار، وعند خطوط الدفاع عن بغداد في جنوبها وغربها، ودوافع
توقعات وزير الدفاع سلطان أحمد هاشم وصول القوات الامريكية الى بغداد بعد
أسبوعين من بدء الحرب؟
ومن المناسب ونحن نستذكر الساعات
والأيام التي سبقت وأعقبت احتلال بغداد من شاهد عيان هو(كاتبُ هذه السطور)،
أحمد صبري مراسل إذاعة مونتي كارلو في العراق، يروي ما جرى على الأرض لتسليط الضوء
على تفاصيل غير مرئية للظروف التي أدت الى الاحتلال وكيف تصرف الرئيس
الراحل صدام حسين والمسؤولين العراقيين في تلك اللحظات الفاصلة في تاريخ العراق.
أوهمت قوات الاحتلال العالم أنها
باسقاط تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس عصر التاسع من نيسان عام 2003، قد
أنهت الصفحة العسكرية في حربها مع العراق في حين كان صدام في اللحظة نفسها
بمنطقة الأعظمية يحيي الجماهير التي التفّت حوله في مفارقة بين مشهدين عاشته بغداد
في ذلك اليوم الأسود في تاريخ العراق، وما يكشفهُ "سيناريو الاحتفال باحتلال
بغداد” الذي جرى في ساحة الفردوس، هو أنّ أكثر من نصف العاصمة بغداد وخمس محافظات
عراقية هي الأنبار، صلاح الدين، نينوى، كركوك، وديالى لم تصلها القوات الامريكية
في حينها بعد!.
من هنا كانت "الرمزية” في اسقاط
تمثال صدام في وسط ساحة في قلب بغداد كرسالة للجميع مفادها أنّ بغداد والعراق كله
أصبح تحت السيطرة .
وكان صباح العاشر من نيسان
حزيناً ، كئيباً، ومختلفا عن بقية الأيام فالدبابات الأمريكية تطوّق ساحة
الفردوس واتخذت من باحة فندقي المريديان والشيراتون مكاناً لانتشار قوات المارينز.
وفي صباح ذلك اليوم تأملت مع زميل لي عبر شرفة غرفتنا في فندق المريديان نهر دجلة
فشعرنا أنه حزينٌ وليس النهر الذي كنا نعرفة متدفقاً وحيوياً وجميلاً حتى
بدا لنا أنّه متوقفٌ عن الجريان.
وما زاد من حزننا وقلقنا الراياتُ
البِيضُ المتدلياتُ من شرفات الفندقين، بعد أنْ استُهدِفتْ أماكنُ مكوثِهم بقذائف
مدفعية الدبابات الأمريكية التي تسلّلت الى بغداد وقتلت وجرحت العديد منهم في
محاولة لتفادي أيِّ موقفٍ مماثل.
وما إنْ اكتملَ وصولُ طلائع القوات الأمريكية
الى قلب العاصمة وأطرافها الغربية، حتّى تحوّلت الى مدينة أشباح يصول ويجول فيها
اللصوص الذين دهموا المصارف الحكومية والأهلية فيما استباح آخرون المتحف
العراقي ونهبوا مقتنياته، أمام أنظار تلك القوات التي غضّت النظر عن نهب وتدمير
حضارة العراق وذاكرته التاريخية..
ولكن كيف تصرّف صدام في تلك
اللحظات واين كان المسؤولون العراقيون قبل وبعد التاسع من نيسان؟.. روى لي
المرحوم سعد قاسم حمودي أنه شاهد صدام بالقرب من جامع أم الطبول المؤدي الى المطار
ظهر السادس من نيسان وهو يحمل السلاح ومحاطاً بعشرات المقاتلين الذين كانوا يهتفون
بحياته واستعدادهم للقتال والذود عن الوطن.
وما يوثِّقُ رواية حمودي ما صرّح
به ضابطٌ كبيرٌ للصحفيين الذين زاروا المنطقة، مؤكّداً أنَّ صدام كان موجوداً في
المنطقة المؤدية الى المطار، وهو يحمل "الآر-بي-جي” على كتفه وبصحبته نجلُهُ "قصي”
ولاحظنا على جانبي الطريق مئات المقاتلين من العراقيين والعرب وكانوا في حال
الاستعداد القتالي.
وبحسب رواية الضابط، فإنّ صدام
أشرف على سير معركة المطار بكل تفاصيلها من موقعه في جامع أم الطبول القريب من
المطار مشيراً الى أن قوات الحرس الجمهوري المدافعة عن المطار كبّدت القوات
الأمريكية خسائر فادحة وأفشلت إنزالاً جوياً عند حافته الغربية، برغم التفوّق
الجوي الأمريكي. واتهم الضابطُ القوات الأمريكية باستخدام اسلحة استراتيجية
غير تقليدية في معركة المطار بعد أن شعرت أنها ستتعرض الى هزيمة فقررت الاستعانة
بسلاح محرّم دولياً أدّى الى شل قدرة القوات المدافعة عن المطار بفعل السلاح
المستخدم الذي أوضح أنه تسبّب في شلّ حركة أطقُم الدبابات ومنظومات الدفاع الجوي
الى حد احتراقهم ومصرعهم وهم في أماكنهم.
في هذه اللحظات الحاسمة أمضى
صدام ليلته في جامع أم الطبول غربي بغداد حيث توجّه صدام ظهر التاسع من نيسان الى
منطقة الأعظمية وحيا الذين تجمعوا لتحيته وكان معه وزير الدفاع سلطان هاشم احمد،
وولده قصي وبعض أفراد حمايته. وعندما انتهى من ذلك اصطحب معه سكرتيره عبد حمود
وثلاثة فقط من حمايته وتوجه الى جهة مجهولة!.
وكان صدام الذي رفض الإنذار الذي
وجّهه بوش الابن القاضي بمغادرته وولديه العراق خلال 48 ساعة من بدء الحرب، ودَّع
عائلته في اجتماع مؤثر في أحد مزارعه في منطقة الدورة جنوبي بغداد وكشف مصدر مطلع
أنَّ نجلي الرئيس الراحل صدام حسين عدي وقصي وابنه مصطفى توجّها الى سوريا بعد
الاحتلال بعدة أيام إلّا أنّ السلطات السورية أبلغتهما بمغادرة أراضيها والموقف
السوري تكرّر مع شقيقي صدام، وهما سبعاوي ووطبان ووزراء ومسؤولين عراقيين كبار في
حين استضافت احدى القبائل العراقية زوجة صدام وكريماته وأولادهما.
وكان الصحفيون أصيبوا بحيرة
واستغراب بعد استدعائهم على عجل الى مؤتمر صحفي في فندق المنصور المطل على نهر
دجلة في اليوم الخامس للحرب وفوجئوا باعلان وزير الدفاع سلطان هاشم أحمد ان
طلائع القوات الأمريكية ستصل بغداد في غضون أسبوعين. وكان وزير الاعلام محمد
سعيد الصحاف الى جانب وزير الدفاع وهو يشرح تفاصيل عسكرية على خارطة سير المعارك.
بدا الرجلُ حزيناً، لكنه لم يرمش له جفن حين تسقط الصواريخ على المنطقة التي يقع
فيها الفندق حتى أنّ طاولته اهتزت من عصف القصف وارتداداته عل القاعة وأبوابها
وشبابيكها لكنّ الراحل سلطان بقي صامداً غير مكترث بما يجري خارج القاعة، وفوجئنا
في اليوم التالي لتصريح وزير الدفاع بدعوة الصحفيين الى مؤتمرين صحفيين
لنائب الرئيس طه ياسين رمضان ووزير الخارجية ناجي صبري أكّدا خلالهما قدرة القوات
العراقية على إحباط أيةِ محاولة للاقتراب من حافات بغداد بفعل الاستحضارات المحكمة
عند خطوط الدفاع عنها. وفسَّرَ الصحفيون ذلك، بأنّه ردٌّ على توقعات وزير الدفاع.
ونظّم المركز الصحفي في وزارة
الإعلام جولة للصحفيين العرب والأجانب لبعض مناطق التماس جنوبي بغداد التي زعمت
قوات الاحتلال أنّها وصلتها غير أننا شاهدنا حطام دبابات وعربات نقل امريكية
محترقة ومتناثرة على الطريق السريع، فضلاً عن وجود عشرات الجنود العراقيين
والياتهم، وتحدّث بعضهم عن معارك شرسة درات مع القوات الأمريكية!.
وكان وزير الإعلام محمد سعيد
الصحاف يوجز الصحفيين يومياً بسير المعارك، وعقد نحو 20 مؤتمراً صحفياً خلال فترة
الحرب ولغاية التاسع من نيسان الذي انتقل الى المقر البديل لوزارة الاعلام الكائن
في منطقة الأعظمية، وبقي حتى مساء ذلك اليوم وتسلّم رسالة مكتوبة بخط صدام موجهة
للعراقيين يدعوهم فيها لمقاومة الاحتلال وفي صبيحة اليوم التالي، أي العاشر من
نيسان وأثناء ما كنا متجمعين في ساحة الفردوس اقترب منّي شخص لا أعرفه وقدّم لي
بياناً مطبوعاً صادراً عن القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية يدعو لمقاومة
المحتل وطلب مني استخدامه في رسالتي اليومية الى إذاعة مونتي كارلو التي كنت
مراسلاً معتمداً لها في العراق. وعلى الفور أعددت تقريراً عاجلاً أشرت فيه الى أنّ
المقاومة ضد الاحتلال بدأت بعد يوم من احتلال العراق كأوّل رد فعل على احتلاله
واشرت الى أنها أسرع مقاومة في التاريخ اذ أعلن عن مقتل جندي أمريكي جنوبي
بغداد في اليوم نفسه!!.
وبينما كُنّا نستحضر ما جرى في
ذلك اليوم، رصدنا مسار الأحداث واتجاهاتها على الأرض، حيث الأحداث بتسارع ملحوظ
لدى الجميع. ولم يدر بخلد القائمين على المركز الصحفي أن إصرار وسائل الإعلام
الأميركية والغربية وبعض وسائل الإعلام العربية على نقل أماكن عملهم من المركز
الصحفي الكائن في منطقة الصالحية إلى فندقي عشتار شيراتون وفلسطين ميرديان
الواقعين قبالة ساحة الفردوس لم يكن بدافع الخوف من تعرض هذا المكان للقصف، وإنما
كان هدف هذا الإصرار الذي تكشف فيما بعد، قيامُ وسائل الإعلام بنصب الكاميرات فوق
أسطح الفندقين وباتجاه ساحة الفردوس وكأن حدثاً تاريخياً، سيقع عند هذه الساحة.
وشهدت ساحة الفردوس منذ صباح
التاسع من نيسان/أبريل تجمع بعض السكان حتى صاروا بالعشرات مع اختفاء أي أثر
لمظاهر السلطات العراقية في الشارع أو حوالي الفندقين.
في هذه الأثناء كنتُ أنا/مراسل
راديو مونتي كارلو، والراحلان صبحي حداد مراسل الإذاعة البريطانية، وفاضل اللامي
مراسل صوت أميركا في شقة خلف فندق المريديان نتابع ما يجري، وإذ بالهاتف الدولي
الذي كان بحوزة حدّاد يرن ويبلغ أن الدبابات الأميركية وصلت ساحة الفردوس.
ولكيْ نصل إلى قلب الحدث (ساحة الفردوس) التي لا تبعد كثيراً عن
مكاننا، تطلّب منا ذلك رفع الرايات البيض، بأمرٍ من القوات الأميركية، وعند
وصولنا، لاحظتُ أن العديد من مراسلي الوكالات الأجنبية يستخدمون هاتف الثريّا الذي
منعت السلطات العراقية استخدامه.
وحاول العشرات إسقاط تمثال صدام
إلا أنهم فشلوا في ذلك، ما دفع رافعة أميركية إلى اختراق الساحة باتجاه التمثال
الضخم، وعند وصول الرافعة إلى رأس صدام قام أحد الجنود الأميركان بتغطية رأس صدام
بالعلم الأميركي ما أثار احتجاج الحاضرين، ودفع بعضهم إلى استبداله بالعلم العراقي.
وأمام هذا المشهد والفوضى التي
عمّت ساحة الفردوس استعَرْتُ هاتف الثريّا من زميل يعمل في إحدى الوكالات، ونقلت
ما جرى لمونتي كارلو مؤكداً أن العراق بفعل احتلاله دخل مرحلة لا أحد يتوقع ماذا
سيحدث خلالها.
وكان آخر مؤتمر صحفي لوزير الإعلام
محمد سعيد الصحاف، قد جرت تفاصيله، على سطح فندق الشيراتون الذي أكد فيه ثبات
الموقف العراقي على مواصلة القتال، بعدها توجّه إلى المقر البديل في الأعظمية!.
·
صحفي
عراقي مراسل مونتي كارلو عام 2003 وغطى حرب احتلال العراق.
·
عن موقع
برقية الاخباري