المواطنة...سلوك فطري أساسه الانتماء.


.
م. زيد خالد المعايطة
أعادت الأحداث الأخيرة
في الأردن إشعال حاله الجدال القديمة حول تعريف الحالة الوطنية ومن هو الأردني
وارتباط ذلك بسلوكيات الانتماء والمواطنة والدلالات التي تفسر معنى ان تكون
اردنيا، فقد شهد الأردن قبل بضعة أسابيع، وأثناء مباراة المنتخب الوطني مع فريق
عربي شقيق توحّد الشارع الأردني خلف الفريق الوطني بحيث خلت شوارع المدن من
المارة، وارتفعت الأعلام على الشرفات، وارتفع منسوب مشاعر الفخر والانتماء عند
الأغلبية وبشكل خاص الشباب إلى درجة اقتربت أحياناً من التحيز ضد الطرف الآخر.
لكن هذا التماسك
والتوافق المفرط بمشاعر المواطنة يتناقض مع مشاهد أخرى كان يُفترض أن توحّد
الأردنيين بالقدر ذاته مثل يوم العلم، والمظاهرات التضامنية مع غزة، ورد الفعل على
محاولة التفجير الإرهابية التي أُحبطت مؤخراً، فجميعها لحظات ومواقف كانت تستدعي
صوتاً جماعياً موحداً، لكنها بدلاً من ذلك كشفت عن انقسامات، وغياب للثقة
المتبادلة ما بين البعض وتباعد شعوري بين فئات المجتمع. لماذا تنجح مباراة كرة قدم
في توحيدنا، بينما تفشل لحظات مصيرية في ذلك؟ قد لا يكون الجواب في الشعارات أو
الانتماء الظاهري، بل في السلوك، وفي كيفية شعور الناس بعلاقتهم مع وطنهم في
تفاصيل حياتهم اليومية.
تُعرّف الموسوعة
الفلسفية لجامعة ستانفورد الوطنية بأنها "مودة خاصة تجاه الوطن، وإحساس
بالانتماء الشخصي له،
واهتمام خاص برفاهيته، واستعداد للتضحية من أجل مصلحته"
الوطنية إذن، ليست
أوامر تصدر من جهة ما لتُنفذ أو شعارات تُردد، بل هي ارتباط وجداني حقيقي ومن
منظور سلوكي، فالوطنية ُ تعد شكلاً من أشكال الهوية الاجتماعية؛ فهي تؤثر في
نظرتنا لأنفسنا وعلاقتنا بالآخرين، وفي مدى شعورنا بالمسؤولية اتجاه مستقبل بلدنا،
فعندما يشعر الإنسان بأنه مرئي ومسموع ومُقدَّر من وطنه، فإنه ينخرط ويتفاعل، أما
حين يشعر بالإقصاء أو الغربة، فإنه ينسحب نحو دوائر أصغر وأكثر قرباً، كالعائلة أو
العشيرة أو التنظيمات العقائدية.
في قلب هذا التراجع في
مشاعر الانتماء، تكمن فجوة يمكن تسميتها ،فجوة القابلية للارتباط (Relatability Gap) ،إنها الفجوة بين واقع
الناس و تجاربهم اليومية وبين الصورة التي يُرسم بها الوطن في الخطابات الرسمية
فجزء من الأردنيين، خصوصاً الشباب، لا يرون أنفسهم ممثلين في الرموز الوطنية، أو
في لغة الخطاب العام، أو في الوجوه التي تتصدر المشهد الإعلامي ومع اتساع هذه
الفجوة، يزداد انغلاق الأفراد على دوائرهم القريبة، ويتراجع شعورهم بالارتباط
بالمشروع الوطني الأوسع ، ليس لأنهم لا يحبون وطنهم، بل لأنهم لا يشعرون دائماً أن
وطنهم يحبهم، أو حتى يراهم.
الحل لا يكمن في المزيد
من الخطب أو المظاهر الرمزية، بل في إعادة بناء سردية وطنية حقيقية،شاملة،ومشتركة،
فنحن بحاجة إلى أن نروي قصة الأردن بطريقة تعكس كل الخلفيات والمناطق
والتجارب، أن نُبرز
أصواتاً من المفرق ومعان والمخيمات، أن نحتفي بالمعلم والممرضة والشاب الريادي
وبائع الخضار، فهم جميعاً أعمدة في بنيان الوطن ، أن نخلق مساحات في الإعلام،
والمدارس،
والمجالس المحلية يرى
فيها الأردنيون أنفسهم ، فعندما يجد الإنسان نفسه داخل القصة الوطنية، تتولد مشاعر
الفخر بشكل طبيعي. وحين يُبنى الانتماء على قصصٍ مشتركة، تنمو الثقة، وتزيد
المشاركة،
ويعود الشعور بالوحدة
الجامعة بين مواطني الوطن.
هذا التوجه ليس جديداً
تماماً، فدولة مثل بيرو، التي عانت من الانقسامات الاجتماعية، والتهميش،وانعدام
الثقة في المؤسسات، استخدمت أدوات سلوكية لإحياء شعور الانتماء، أطلقت حملات
إعلامية تُبرز التنوع الثقافي كعامل وحدة، وبسّطت الوصول إلى الخدمات الحكومية بما
أعاد الكرامة للمواطنين، وأطلقت برامج شبابية تشاركية تُعطيهم دوراً في صياغة
مستقبلهم ، لقد أثبتت التجربة أن
علوم السلوك و البصائر
السلوكية قادرة على إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الشمول،
والمشاركة، والانتماء الحقيقي.
يقف الأردن اليوم على
مفترق طرق. التصدعات التي نراها في التماسك الاجتماعي لا يمكن
معالجتها بالرمزية فقط،
بل بفهم عميق لكيفية بناء الانتماء، وتعزيز الهوية، وتوجيه السلوك نحو الثقة
والتفاعل الإيجابي. فالوطن والانتماء له لا يُفرضان، بل يُبنيان. الوطن هو الحكاية،
هو الإرث، هو
شواهد قبور أجدادنا،
وقصص طفولتنا. هو فطور صباح الجمعة الذي يجمع الأردنيين على نفس الأطباق مهما
اختلفت خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية، هو اللهجة الأردنية التي نسمعها في بلد
بعيد
فنشعر أن الغريب صار
قريباً فجأة، الأردن ليس مدينة أو قبيلة أو معتقد، الأردن هو اثنا عشر
محافظة، بكل شارع فيها،
وبكل بيت، وبكل دين وخلفية، يُشكّلون معاً حكاية واحدة مستمرة، ولهذا السبب لا يجب
أن تبقى علوم البصائر السلوكية على هامش الخطاب العام بل ينبغي أن تُدمج في صياغة
الرسائل الوطنية، والسياسات العامة، والسردية الإعلامية. فعندما نفهم كيف يفكر
الناس، وكيف يشعرون، ويتواصلون، يمكننا أن نروي قصة الأردن بطريقة تجعل الجميع
يراها... ويشعر بأنه ينتمي إليها.
·
باحث في العلوم السلوكية