شهادة الدكتوراه بين الاستحقاق والتساهل: بحث لا يُنتج فكرًا وإنما شهادة من ورق


د. اخليف الطراونة
في كل عام، تتناقل
الجامعات الأردنية أخبارًا عن مناقشات أطروحات الدكتوراه، وتُرفقها بصور وتصفيق
وتوصيات بالنشر، لكن خلف هذه المراسم البراقة تختبئ أسئلة جوهرية قلّما تُطرح
بجرأة: هل هذه الأطروحات تُنتج معرفة حقيقية؟ وهل حاملو هذه الشهادة قد اجتازوا
فعلًا شروطها الفكرية والبحثية؟ أم أننا أمام حالة من التساهل الأكاديمي الذي فرّغ
الدكتوراه من معناها، وحوّلها إلى شهادة من ورق؟
من واقع تجربة طويلة في
تدريس الدكتوراه والإشراف على أطروحاتها ومناقشتها، يمكن القول بثقة إن أزمة هذه
البرامج لا تكمن في الأفراد فقط، بل في البنية المؤسسية والمنهجية التي تحكمها.
كثير من الطلبة يدخلون البرنامج وهم يفتقرون إلى أساسيات المهارات التحليلية،
والكفايات النقدية، والقدرة على إنتاج الأسئلة لا مجرد استهلاك الأجوبة. ويخرجون
منه –للأسف– دون أن تُعالج هذه الفجوات، لأن بنية البرنامج ذاته لم تُصمم لتصنع
باحثًا، بل لتمنح لقبًا.
برامج الدكتوراه في عدد
من الجامعات ما زالت تُدار بعقلية تقليدية، حيث المقررات مكرورة، والمصادر قديمة،
ونمط التدريس قائم على التلقين أكثر من الجدل العلمي. لا يُدرَّب الطالب فيها على
تفكيك المفاهيم أو مساءلة المسلّمات، بل يُطلب منه الالتزام بالشكل والانضباط
بالأسطر. فيخرج نصه نظيف التنسيق لكنه فارغ من الجرأة الفكرية.
الخلل يمتد إلى الإشراف
الأكاديمي، حيث يغيب التفاعل الحقيقي، وتغيب معه المساءلة الجادة. يصبح الإشراف في
أحيان كثيرة مجرد متابعة إدارية، أو عبئًا وظيفيًا، أو حتى "واجبًا أدبيًا”
تجاه الطالب. وحين يحين موعد المناقشة، تُختم الجلسة بتوصية مجاملة دون نقد حقيقي
أو تقويم علمي.
لا يمكن فصل أزمة
الدكتوراه عن أزمة الكفاية اللغوية والبحثية. فعدد كبير من طلبة الدكتوراه يواجهون
صعوبة في فهم أو قراءة الدراسات الأجنبية، أو التعبير العلمي بلغة سليمة –سواء
بالعربية أو الإنجليزية– فضلًا عن العجز في بناء تصميم بحثي متكامل أو قراءة
النتائج بطريقة تفسيرية عميقة. وغالبًا ما تُبنى الرسائل على دراسات سابقة دون
إعمال نظر، أو على عناوين مطروقة لا تضيف جديدًا.
يُلاحظ التوسع في طرح
برامج الدكتوراه في تخصصات لا تُواكب بالضرورة حاجة المجتمع أو إمكانات الجامعة.
وبدلًا من تركيز الجهود في برامج قوية ذات إشراف مكثف وبيئة بحثية محفزة، تتوزع
القدرات على برامج متعددة قد تفتقر إلى الحد الأدنى من الجودة. النتيجة: رسائل
تمرّ، ودرجات تُمنح، ولكن الأثر الحقيقي في المجتمع أو السياسات أو البيئة
الأكاديمية يكاد يكون معدومًا.
ما تحتاجه برامج الدكتوراه ليس تجميلًا في الشكل
أو تطويرًا في إجراءات التقديم، بل مراجعة جذرية لفلسفة البرنامج نفسه: من يُقبل؟
كيف يُدرّس؟ من يُشرف؟ ما طبيعة التدريب؟ وما المعايير الحقيقية لمنح الدرجة؟ لا
بد من تغيير عميق يعيد للدكتوراه هيبتها، ويجعلها شهادة فكر لا شهادة عبور.
إن إصلاح برامج
الدكتوراه يبدأ من وضع معايير قبول دقيقة، وتحديث محتوى المقررات، وربط البحث
العلمي بقضايا المجتمع لا بفصول الكتب، وتعزيز كفايات اللغة والكتابة الأكاديمية،
وتفعيل الإشراف النوعي المبني على التفاعل الفكري لا المجاملة الشكلية.
لقد آن الأوان أن نكفّ عن التفاخر بعدد حاملي
الدكتوراه، وأن نبدأ بالتساؤل الجاد عن أثرها. فالعبرة ليست بلقب "دكتور”، بل
بسؤال بحثي يُغيّر، وفكرة تُحرّك المياه الراكدة، وباحث لا يكتفي بأن يكون حامل
شهادة، بل صانع فكر. ــ الراي