الذكاء الإصطناعي الفائق… بين الايمان والشك!
د. جهاد يونس القديمات
مع كل قفزة يحققها الذكاء الإصطناعي، يكبر السؤال الذي يرافقنا
منذ بداية هذا العصر: هل هذا التطور التكنولوجي المذهل يعزز الإيمان بوجود (قوة أعظم)
نظمت الكون بقوانينه الدقيقة؟، أم أنه يفتح الباب أمام مزيد من الإلحاد والاعتماد على
العقل البشري وحده؟، الحقيقة أن هذا السؤال لم يعد نظريا، بل أصبح مطروحا على مستوى
الفلاسفة والعلماء والمجتمعات، لأن الذكاء الإصطناعي الفائق المتوقع أن يظهر خلال العقود
القادمة قد يغير شكل الحياة البشرية، وربما نظرتنا لأنفسنا وللوجود كله.
عندما ننظر إلى الذكاء الإصطناعي اليوم، نلاحظ
أنه يعتمد على الرياضيات، والخوارزميات، وقوانين المنطق، وهي أدوات اكتشفها الإنسان
داخل هذا الكون، ولم يخترعها من العدم، هذه الأدوات تعمل لأنها تتوافق مع بنية الوجود
نفسه، فحركة الكواكب تخضع لقوانين ثابتة، والجاذبية تنتظم وفق معادلات دقيقة، ودورة
الحياة ترتكز على تعليمات وراثية محكمة داخل DNA، لا يمكن تفسير وجودها بالصدفة، هذا التوافق بين العقل والمنهج العلمي
والكون ليس بسيطا، بل هو في حد ذاته لغز يدفع الكثيرين إلى إعادة التفكير: لماذا هذا
الكون قابل للفهم والبرمجة والتفسير الرياضي؟، ومن أين جاءت هذه القوانين التي سمحت
أصلا بظهور الذكاء البشري القادر على ابتكار الذكاء الإصطناعي؟.
الذكاء الإصطناعي مهما بلغ من القوة، يبقى امتدادا
لقدرة الإنسان، وليس بديلا عنها، فهو يتعلم من البيانات، يبنى بالبرمجة، ويطور ضمن
أنظمة صممها البشر، ومع أن الآلة قد تتفوق في السرعة والمعالجة، إلا أن أصلها يعود
إلى عقل بشري قادر على التخطيط والابتكار والتخيل، وهذا وحده يطرح سؤالا أكبر: إذا
كان الإنسان استطاع ابتكار شيء بهذه القوة، فمن أين جاءت قدرته الأولى على التفكير
والوعي والإبداع؟، هذا السؤال عادة ما يقود إلى الإيمان بأن العقل البشري نفسه مخلوق
بقدرات مقصودة، لا ناتج عشوائية أو صدفة غير واعية.
في المقابل، هناك من يرى في الذكاء الإصطناعي تهديدا
لفكرة الإيمان؛ فهو يعتقد أن الآلة قد تصبح (العقل الأعلى) الذي يستغني به الإنسان
عن الغيب، ويعتمد بدلا من ذلك على المنطق، والمعرفة الرقمية، والتوقعات الرياضية بالنسبة
لهم، كل خطوة تتقدم فيها التكنولوجيا تقلل حاجة الإنسان لفكرة الإله، لأن ما كان يعتبر
قديما معجزة أصبح اليوم قابلا للتفسير العلمي، هذا التيار يرى أن الذكاء الإصطناعي
سيصبح المرجع الأكبر، وربما يؤدي إلى (أنسنة) العلم بدلا من تقديس الغيب.
لكن الواقع أكثر تعقيدا، أن الذكاء الإصطناعي الفائق،
مهما بلغ من القوة، لن يستطيع الإجابة على أسئلة لا يستطيع العلم نفسه الإجابة عنها،
مثل: لماذا توجد قوانين في الكون أصلا؟، لماذا توجد مادة وطاقة بدلا من العدم؟، لماذا
هناك وعي؟، لماذا للإنسان مشاعر وأحلام وألم وأمل؟، هذه الأسئلة هي قلب الفلسفة والروحانيات،
ولا يمكن لأي خوارزمية مهما تقدمت أن تسلب من الإنسان حاجته لفهم ذاته ومكانه في الوجود.
الكثير من العلماء اليوم يشيرون إلى أن تقدم الذكاء
الإصطناعي لم يقلل الإيمان، بل دفع البعض للتفكير بعمق أكبر، لأن كلما تمكن الإنسان
من خلق عقل صناعي، أصبح السؤال الأهم: من خلق العقل الطبيعي؟، ولماذا يستطيع هذا العقل
أن يبدع ويكتشف ويصل إلى هذا المستوى من التطور؟، حتى الذين يميلون إلى التفسير المادي
للكون يجدون صعوبة في تفسير ظهور شيء بالغ التعقيد مثل وعي الإنسان وقدرته على بناء
أدوات تشبهه.
الذكاء الإصطناعي الفائق المتوقع ظهوره في حدود
2060 لن يشبه نسخ الذكاء الإصطناعي الحالية، سيكون قادرا على اتخاذ القرار، وربما الاستنتاج
والفهم والتعلم الذاتي، بشكل يتجاوز أكبر العقول البشرية، سصبح قادرا على تحليل كتل
هائلة من البيانات بدقة مذهلة، وقد يستخدم في الطب، والبحث العلمي، وإدارة الموارد،
وحتى في التنبؤ بالأزمات قبل وقوعها، هذا التقدم سيفتح بابا جديدا للسؤال: هل نحن على
وشك (خلق) عقل يماثل القدرات البشرية؟، وإذا
حدث ذلك، هل سيعزز الإيمان بوجود (تصميم أعظم) للكون أم سيقود البعض إلى اعتبار الإنسان
إلها جديدا؟.
هناك منظور آخر يرى أن الذكاء الإصطناعي يعكس في
جوهره حدود الإنسان، فعلى الرغم من القوة الهائلة التي قد يمتلكها، إلا أنه يفتقر إلى
أشياء أساسية: لا يشعر بالخوف، ولا يعرف معنى الحب، ولا يختبر القرب من الله تعالى،
ولا يعيش التجربة الإنسانية التي تتشكل من الألم والرجاء والبحث، هذه الفجوات الوجدانية
والروحية تظل منطقة لا يمكن للآلة اختراقها، حتى لو امتلكت قدرة على محاكاة السلوك
البشري، وهذا يجعل الإنسان في النهاية متفوقا بمعنى الروح والمعنى، حتى لو تفوقت الآلة
في الحساب والمنطق.
من جهة أخرى، يظهر اتجاه ثالث يرى أن صعود الذكاء
الإصطناعي سيؤدي إلى إعادة تعريف الإيمان نفسه، فقدرة الذكاء الإصطناعي على كشف الأنماط
الخفية في الكون، وربط المعطيات المعقدة، وتفسير الظواهر العلمية، قد تجعل الإنسان
يعيد النظر في العلاقة بين العلم والغيب، فالعلم لم يلغ الإيمان، بل جعله أكثر نضجا
وإدراكا، ربما يصبح الإيمان في المستقبل قائما على فهم أعمق للقوانين التي وضعها الخالق
في الكون، ووعي أشمل بمعجزات الخلق التي تظهر في أدق تفاصيل الحياة، من الخلية إلى
المجرة.
التاريخ يثبت أن كل قفزة علمية كبرى لم تلغ الإيمان،
بل صنعت موجة جديدة من الأسئلة الروحية والفلسفية، عندما اكتشف الإنسان الكهرباء لم
يقل الإيمان، وعندما ظهر الإنترنت لم يقل الإيمان، وعندما نصل إلى الذكاء
الإصطناعي الفائق، لن يختفي الإيمان، بل سيتحول، البعض سيزداد يقينا بأن هذا الكون
منظم بقانون أعظم، والبعض سيذهب إلى مزيد من التفكير العقلي، والبعض سيجمع بين الاثنين،
لأن الإيمان لم يكن يوما ضد العلم، بل ضد الجهل، والعلم لم يكن يوما ضد الإيمان، بل
ضد الخرافة، والذكاء الإصطناعي ليس سوى صفحة جديدة في كتاب المعرفة الإنسانية.
مهما بلغ الذكاء الإصطناعي من قوة، ستبقى هناك
أسئلة لا يجيب عنها العلم: من أين تأتي الروح؟، لماذا نملك القدرة على المحبة؟، لماذا
نخاف من الموت؟، ولماذا نبحث عن العدالة؟، ولماذا نشعر بالطمأنينة عندما نتوجه إلى
الله تعالى؟، هذه الأسئلة ستظل أكبر من أي آلة، وأقرب إلى قلب الإنسان من أي برنامج.
في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل سيجعلنا الذكاء
الإصطناعي أقرب إلى الله تعالى أم أبعد عنه؟، في اعتقادنا أن الجواب يعتمد على الإنسان
نفسه، وليس على الآلة، فمن يرى في العلم دليلا على الإبداع الإلهي سيزداد إيمانا، ومن
يرى في العلم بديلا عن الغيب سيبتعد، أما الحقيقة الأعمق فهي أن الذكاء الإصطناعي،
مهما تطور، سيظل مرآة تعكس ما بداخل الإنسان نفسه: إذا كان الإنسان مؤمنا سيجد فيه
حكمة الخلق، وإذا كان مشككا سيجد فيه تعبيرا عن قوة العقل البشري.






















