شريط الأخبار
الملك يتابع تمرين أسود الهواشم ويقلد ولي العهد شارة سيف القوات الخاصة اخفاق اسرائيل بتوقع طوفان الاقصى يطيح بجنرالات كبار.. ومطالبات بالتحقيق مع السياسيين الملك يتابع سير العمل في البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي لجنة حكومية تبحث "كمشة" استيضاحات وشبهات فساد وثقفها ديوان المحاسبة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل تتصاعد وتهدد بادخالها "عزلة خطيرة" لا يكتفي بالغارات: جيش الاحتلال ينفّذ 1200 عملية اقتحام داخل الأراضي اللبنانية الملكة رانيا العبدالله تشارك في عشاء خيري أقيم في متحف الفن الإسلامي بالدوحة اتفاق أردني – سوري لفتح التجارة لكافة السلع بداية العام المقبل "قنبلة" الاكتظاظ في السجون . خطوات إسرائيلية متسارعة لإعادة إشعال الحرب في غزة ولبنان.. وهذا الهدف! “الخيرية الهاشمية” و"تجار المواد الغذائية" توزعان وجبات ساخنة شمال غزة العيسوي: الرؤية الملكية للتحديث الشامل تشكل إطارا وطنيا يعزز كفاءة المؤسسات ويصون الثوابت الوطنية استشهاد رئيس اركان حزب الله بغارة صهيونية عدم استقرار جوي بؤثر على المملكة ليل الاثنين وزخات غزيرة متوقعه الثلاثاء وتحذيرات قبلان:56 ألف مواطن مطلوب للتنفيذ القضائي بقضايا مالية وشيكات كلب ضال يعقر 5 طلاب بلواء الكورة وفاة طالب جامعي بالتهاب السحايا البكتيرية.. وفحص 46 مخالطا ليظهر عدم مرضهم جمارك السعودية: حبوب كبتاجون في شحنة “زيت” أردنية مجلس الاعيان يقر مشروع قانون خدمة العلم هدر 600 ألف دينار .. توقيف رئيس مجلس إدارة شركة وعضو سابقين

كنز صامت، كيف يمكن للمتقاعدين أن يصبحوا محركا جديدا للاقتصاد الأردني؟

كنز صامت، كيف يمكن للمتقاعدين أن يصبحوا محركا جديدا للاقتصاد الأردني؟

 


 

د. جهاد يونس القديمات

 

   يمتلك الأردن رصيدا ثمينا من الخبرات البشرية التي تراكمت عبر عقود طويلة من العمل في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، لكن جزءا كبيرا من هذا الرصيد يتوقف عن الإنتاج فجأة عند لحظة التقاعد، فبين ليلة وضحاها، يتحول آلاف الكفاءات إلى خارج دائرة الفعل، رغم أن أعمارهم المهنية لا تزال تمتد بسنوات من الخبرة والمعرفة، والقدرة على الإرشاد، والتحليل، والتطوير، هذا الانقطاع ليس مجرد مسألة اجتماعية، بل هو تحد اقتصادي مباشر، لأنه يعني تعطيل رأس مال معرفي ضخم يمكن أن يكون له دور حيوي في رفع إنتاجية الاقتصاد الوطني.

   تشير بيانات دائرة الإحصاءات العامة إلى أن عدد المتقاعدين في الأردن تجاوز 420 ألف متقاعد حتى عام 2024 بين مدنيين وعسكريين، بينما يظهر تقرير البنك الدولي أن أكثر من 68% من المتقاعدين في الدول النامية يمتلكون خبرات عالية قابلة للاستثمار في سوق العمل المرن أو الاستشارات أو التدريب، وفي الأردن، تضم هذه الشريحة قادة إداريين، أساتذة جامعات، خبراء اقتصاديين، أطباء، مهندسين، ضباطا سابقين، وحرفيين ذوي خبرة نادرة، هذا الرصيد البشري لا ينبغي أن يتوقف عند لحظة انتهاء الخدمة الرسمية؛ فهو يمثل ما يمكن تسميته برأس المال المعرفي الوطني، وهو أحد أهم محركات الإنتاجية في الدول المتقدمة، فإيقاف هذا المورد يشكل تحديا اقتصاديا مباشرا لأنه يعطل خبرات يمكن أن تسهم في رفع تنافسية الاقتصاد الوطني.

   الدول المتقدمة توفر نموذجا واضحا، ففي اليابان، على سبيل المثال، يشارك أكثر من 25% من المتقاعدين في برامج نقل الخبرة والإرشاد والإنتاج المعرفي، أما في ألمانيا وكندا وكوريا الجنوبية، فاعتمدت أنظمة تسهل مشاركة المتقاعدين عبر العمل الجزئي، والاستشارات، والتدريب، والمشاركة في اللجان الاستراتيجية، ما أدى (وفق دراسات OECD) إلى رفع الناتج المحلي بنسبة 1.5–2.7% سنويًا نتيجة الاستفادة من هذا المورد البشري.

   الواقع الحالي يشير إلى فجوة كبيرة بين ما يمتلكه المتقاعد وما يستفيد منه الوطن، فالدولة، والمنظمات، والقطاع الخاص، والمشاريع الريادية، وحتى الأفراد الباحثين عن تطوير قدراتهم، يعيشون جميعا نقصا في الخبرات العميقة، وفي الوقت نفسه يجلس المتقاعدون على رصيد صامت من المعرفة غير المستخدمة، هذا التناقض يستدعي إعادة تفكير شاملة في الدور الذي يمكن أن يلعبه المتقاعد الأردني بعد انتهاء الخدمة الرسمية.

   من الناحية الاقتصادية، يعد المتقاعد رائدا في مجال الخبرة المتخصصة، فالكثير منهم يمتلك القدرة على توجيه المشاريع الجديدة، وتحليل المخاطر، وتطوير الهياكل الإدارية، ووضع الاستراتيجيات، وتدريب الشباب، ومراجعة الخطط الاستثمارية، وتقديم الاستشارات الدقيقة، التي قد تكلف المنظمات مبالغ ضخمة عند الاستعانة بخبراء أجانب أو شركات عالمية، وجود هذه الخبرات داخل البلد، وبأسعار مناسبة، وبمعرفة عميقة بالسياق الأردني، يمثل فرصة اقتصادية لا يجب إضاعتها.

   أما من ناحية التطوير الاجتماعي، فإن دمج المتقاعدين في المنظومة الإنتاجية يساهم في تعزيز ثقتهم بأنفسهم، ورفع جودة حياتهم، وتخفيف الضغوط النفسية والاجتماعية، إضافة إلى تحسين قدرتهم المالية في وقت تتزايد فيه التحديات المعيشية، ان كثيرا من المتقاعدين لا يبحثون عن وظيفة تقليدية بقدر ما يبحثون عن دور، وعن شعور بأن خبراتهم ما زالت تقدر وتستخدم وتحترم.

   في الأردن، يمكن الاستفادة من هذه التجارب عبر إنشاء منظومات متكاملة لربط المتقاعدين بالفرص المتاحة، والتي تعمل كجسر يصل بين الخبرات وبين الجهات التي تحتاج إليها، سواء كانت شركات، أو مؤسسات حكومية، أو مبادرات أهلية، أو مشاريع ناشئة، هذه المنظومات تتيح للمتقاعد تقديم خبرته بشكل مرن، من خلال ساعات محدودة، أو مهام قصيرة، أو استشارات متخصصة، دون الالتزام بوظيفة ثابتة، من جهة أخرى، يمكن لهذه المنظومات أن تساهم في بناء قواعد بيانات دقيقة توثق المهارات، والشهادات، والتجارب، والمجالات التي يبدع فيها كل متقاعد، هذه البيانات تصبح مرجعا وطنيا يمكن استخدامه عند الحاجة إلى خبرات سريعة، أو عند إعداد خطط اقتصادية أو مشاريع تنموية تحتاج إلى رأي متخصص، وبهذه الطريقة يتحول المتقاعد من هامش إلى مركز، ومن متلق إلى مشارك في صياغة المستقبل.

   كما أن إشراك المتقاعدين في تدريب الشباب يمنح الجيل الجديد فرصة للحصول على تعليم عملي قائم على التجربة، وليس فقط على المعرفة النظرية، فهناك فجوة كبيرة بين الدراسات الأكاديمية ومتطلبات سوق العمل، والمتقاعد هو الجسر الطبيعي الذي يمكن أن يغلق هذه الفجوة، فخبرته الطويلة قادرة على إعطاء الشاب صورة حقيقية عن الواقع، وعن طبيعة الأخطاء التي يجب تجنبها، وعن أسرار النجاح التي لا تكتب في الكتب ولا تُدرس في الجامعات.

   يمكن أن يؤدي تفعيل دور المتقاعدين إلى تقليل تكاليف التدريب والاستشارات في المنظمات، وإلى تحسين جودة اتخاذ القرار عبر الاستفادة من تجارب سابقة، وإلى دعم المشاريع الصغيرة والريادية التي غالبا ما تحتاج إلى خبرات إدارية أو مالية لكنها لا تملك القدرة على تحمل تكاليف عالية، فوجود متقاعد خبير إلى جانب رائد الأعمال يمكن أن يغير مصير المشروع بالكامل، ويختصر سنوات من التجربة والخطأ.

   للمتقاعدين دور مهم في تعزيز التوازن الإجتماعي، فعندما يشعر المتقاعد بأن المجتمع يحتاجه ويستفيد منه، يزيد هذا من ارتباطه بالوطن، ويقلل من الضغوط النفسية، ويعزز مفهوم العطاء المتبادل، وفي الوقت نفسه، يتعلم الشباب احترام الخبرة والرجوع إلى أصحابها، ما يعيد الاعتبار للمعرفة المتراكمة ويمنع خسارتها عبر الأجيال، لكن الإستفادة من المتقاعدين تتطلب تغييرا في طريقة التفكير Mindset، فالمجتمع يحتاج إلى رؤية جديدة ترى في المتقاعد ليس نهاية، بل بداية مرحلة جديدة يمكن أن تكون أكثر نضجا وإنتاجا، كما تحتاج المنظمات إلى آليات واضحة لتفعيل هذا الدور، سواء عبر أنظمة الاستعانة بالخبراء، أو برامج الاستشارات، أو الشراكات مع المنصات الرقمية، أو المبادرات الوطنية التي تدمج الخبرة بالحداثة.

   الفرصة متاحة، والوقت مناسب، والنتائج المتوقعة كبيرة، فالأردن رغم تحدياته الإقتصادية، يمتلك كنزا بشريا مهولا، لكنه كنز غير مستثمر (فالانسان اغلى ما نملك)، وإذا أردنا التحرك نحو اقتصاد أكثر قوة وإنتاجية، فإن الخطوة الأولى تبدأ بإعادة النظر في الدور الذي يمكن أن يلعبه المتقاعد في المجتمع، كما إن تحويل المتقاعدين من فئة خارجة عن سوق العمل إلى شركاء في التنمية هو مشروع وطني قادر على إحداث أثر مباشر في الاقتصاد، وخلق روح جديدة في بيئة العمل، وتوفير فرص تدريب وتطوير للشباب، وتقليل الاعتماد على الخبراء الأجانب، وزيادة الدخل الفردي، وتعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات.

   في نهاية المطاف، المتقاعد الأردني ليس عبئا، وليس مجرد رقم في سجلات الخدمة، بل هو عقل، وخبرة، وقدرة، ورؤية، وتاريخ مليء بالدروس، وإذا نجح الأردن في إعادة تفعيل هذا الرصيد الضخم، فإن الاقتصاد الوطني سيكسب طاقة جديدة قادرة على دفعه نحو استقرار أكبر ونمو أقوى، أي ان كل مجتمع يكرم خبراته، ويستفيد من قوته، وكل اقتصاد يوظف المتقاعدين يبني مستقبلا أكثر توازنا، والمطلوب اليوم هو قرار يفتح الباب أمام مرحلة جديدة، يصبح فيها المتقاعد شريكا في التنمية الاقتصادية، وليس مجرد شاهد عليها.