من التصميم الدستوري إلى النمو الوطني
كيف يساهم الدستور الفعّال والتشريعات الرشيدة في نهضة الأردن الشاملة
بقلم: م. نبيل إبراهيم حدّاد
مهندس وكاتب في الهندسة والصناعة وادارة المشاريع
مقدمة
الدستور ليس وثيقة قانونية عادية، بل هو المخطط الهندسي
الأعلى للدولة. فهو الذي يحدد هويتها، ويرسم مبادئها الكبرى، ويضبط قواعد العمل
السياسي والمؤسسي فيها. وعندما يُصاغ الدستور بوضوح وانضباط مفاهيمي، فإنه يمنح
الدولة استقرارًا طويل الأمد. أما حين يُحمَّل بتفاصيل تشغيلية وإجرائية، فإنه
يفقد طبيعته التأسيسية، ويتحوّل إلى نص ثقيل، سريع التعديل، ومعرّض لتقلّبات
اللحظة السياسية.
بعد الاطلاع على المقال النقدي الدستوري للدكتور هايل ودعان
الدعجة، لم يقتصر التأمل على مضمون التعديلات الدستورية ذاتها، بل امتد إلى مسألة
أعمق وأكثر جوهرية: الخلط البنيوي بين المبادئ الدستورية الدائمة، وبين الأحكام
التي كان يجب أن تُترك للقوانين العادية.
هذه الورقة ليست موقفًا من تعديل بعينه، ولا اعتراضًا على
مؤسسة أو جهة، بل محاولة لربط فلسفة التصميم الدستوري بـ أثرها العملي المباشر على
نمو الأردن في الاقتصاد والتعليم والإدارة والصناعة وبناء الثقة المجتمعية.
أولًا: ما وظيفة الدستور في الأصل؟
في جوهره، يجب أن يجيب الدستور عن مجموعة محدودة من الأسئلة
التأسيسية، من أهمها:
• من هو مصدر السيادة؟
• ما شكل الدولة ونظام
الحكم؟
• كيف تُوزَّع السلطات
وتُضبط؟
• ما الحقوق والحريات
الأساسية؟
• ما آلية التشريع والرقابة
الدستورية؟
هذه مسائل دائمة بطبيعتها، لا ينبغي أن تتغير مع تغيّر
الحكومات أو السياسات. أما الدستور الذي يحتاج إلى تعديل متكرر ليظل قابلًا
للتطبيق، فهو من حيث التصميم — دستور حُمِّل بما يتجاوز وظيفته.
عندما يبدأ النص الدستوري بتنظيم إجراءات تنفيذية أو تفاصيل
إدارية يومية، يكون قد غادر مجال القانون التأسيسي ودخل مجال التشريع العادي.
ثانيًا: الدستور كنظام تشغيل للدولة
يمكن تشبيه الدستور بـ نظام التشغيل (Operating
System) للدولة، فيما تمثل القوانين والسياسات التطبيقات التي تعمل
عليه.
• دستور غامض → مؤسسات
مرتبكة
• دستور مُثقَل بالتفاصيل →
صعوبة التحديث
• دستور رشيق وواضح →
استقرار، مرونة، وثقة
الدستور الجيد لا يدير الدولة، بل يمكنها من أن تُدار جيدًا.
ثالثًا: التمييز البنيوي بين الدستور والقانون العادي
الفرق بين الدستور والقانون العادي وظيفي:
• الدستور يضع قواعد النظام
وحدوده.
• القانون العادي ينظم
العمل داخل هذا النظام.
القوانين يجب أن تكون مرنة، سريعة التعديل، وقابلة للتطوير.
أما الدستور، فيجب أن يتغير نادرًا، وفقط عند تحولات عميقة.
عندما يُقحم التشغيلي في الدستوري، تكون النتائج معروفة:
• تعديلات متكررة،
• مساومات سياسية على النص
الأعلى،
• وتآكل هيبة الدستور.
رابعًا: كثرة التعديلات كمؤشّر تصميمي
في الحالة الأردنية، يحمل الواقع دلالة مهمة:
• صدر الدستور عام 1952،
• وتم تعديله أربع عشرة مرة
حتى عام 2022.
لا يُذكر هذا الرقم للإدانة أو التقييم السياسي، بل كـ مؤشّر
تصميمي.
فالدساتير بطبيعتها تُعدّل نادرًا. وعندما يصبح التعديل
متكررًا، يبرز السؤال الحقيقي:
هل كان بعض ما عُدِّل ينتمي في الأصل إلى التشريع العادي؟
كثرة التعديلات غالبًا ما تعكس تضخّم النص الدستوري
بالتفاصيل، لا ديناميكية صحية.
خامسًا: ماذا تخبرنا التجارب الدستورية المتقدمة؟
عند النظر إلى السويد، فنلندا، النرويج، والولايات المتحدة،
يظهر خيط مشترك واضح:
• نصوص دستورية مركّزة،
• صرامة في إجراءات
التعديل،
• ترك التفاصيل للقوانين
العادية،
• واستقرار طويل الأمد للنص
الأعلى.
هذه الدول لم تنمُ لأنها عدّلت دساتيرها كثيرًا، بل لأنها
صمّمت دساتير لا تحتاج إلى تعديل متكرر.
الدرس ليس في استنساخ النماذج، بل في فلسفة التصميم.
سادسًا: كيف ينعكس الدستور الفعّال على نمو الأردن؟
1. الاقتصاد والاستثمار
الاستثمار لا يبحث عن الإعفاءات فقط، بل عن:
• وضوح القواعد،
• استقرارها،
• وإمكانية التنبؤ بها.
الدستور الرشيق يحدّ من التقلّب التشريعي، ويعزّز الثقة في
البيئة الاستثمارية، ويشجع النمو طويل الأمد.
2. الصناعة والابتكار
الصناعة تحتاج:
• حماية العقود،
• استقلال القضاء،
• واستقرار السياسات.
والدستور الفعّال يضمن هذه القواعد دون التدخل في تفاصيل
التنفيذ.
3. التعليم وبناء المهارات
عندما لا يكون كل إصلاح بحاجة إلى تعديل دستوري:
• تتطور المناهج أسرع،
• يتحسن التعليم المهني،
• وتصبح مواءمة التعليم
وسوق العمل أكثر واقعية.
4. الإدارة العامة والحوكمة
البيئة الدستورية الواضحة:
• تقلل تضارب الصلاحيات،
• تحسن المساءلة،
• تخفف الهدر في الإنفاق
العام،
• وترفع كفاءة إدارة
المشاريع والمؤسسات.
5. العدالة الاجتماعية وبناء
الثقة
استقلال القضاء ووضوح الحقوق يرفعان:
• ثقة المواطن،
• المشاركة الاقتصادية،
• والاستقرار الاجتماعي.
والاستقرار شرط أساسي لأي نمو حقيقي.
سابعًا: نحو دستور رشيق يدعم النمو
من حيث المبدأ، لا يحتاج الدستور إلى الإطالة.
يمكن نظريًا لنص مستقر أن يقتصر على:
• شكل الدولة ومصدر
السيادة،
• نظام الحكم،
• الفصل بين السلطات،
• استقلال القضاء،
• الحقوق والحريات
الأساسية،
• وآلية التعديل والرقابة
الدستورية.
أما إدارة القطاعات، والسياسات، والتفاصيل التشغيلية، فمكانها
الطبيعي هو القانون العادي.
خاتمة
الدستور الفعّال لا يصنع النمو وحده، لكنه يصنع البيئة التي
تسمح للنمو أن يحدث. ولا يمكن بناء اقتصاد قوي، أو تعليم منافس، أو صناعة منتجة،
فوق إطار دستوري مُربك أو مُثقَل. النمو المستدام يبدأ من القاعدة المؤسسية، لا من
الشعارات ولا من السياسات المؤقتة. والفصل الواضح بين المبادئ الدائمة والقوانين
القابلة للتعديل هو أحد أهم شروط نهضة الأردن في جميع المجالات.















