هكذا فقدنا تفاصيل حياتنا واحلامنا في غزة
اكرم الصوارني*
لا أصعب من الموت سوى الفَقد.. الموت معلوم والمفقود إلى
المجهول.. نحن لم تمت أحلامنا ولن تموت لكننا فقدناها قبل الأوان..!
قبل سنة من الآن صباح الجمعة 13 أكتوبر 2023 '..عليكم
ترك بيوتكم فوراً والتوجه إلى الجنوب من أجل سلامتكم عليكم ألا تعودوا إلى بيوتكم
حتى إشعار آخر من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي..!'
خرجنا مُنكَسرين من الشمال إلى الجنوب.. خرجنا وحتى الآن
لم نعود..!
لم نترك خلفنا شيئا إلا وتركناه.. تركنا بيت الدَّرج
والستائر والشبابيك، تركنا الكنب والراوتر وتلفزيون 55 بوصه وطنجرة ضغط على الغاز
وصحون دون غسيل وليمونه كنّا نحرص دائماً من باب الهَبل على وضع نصفها في باب
الثلاجه الذي ربّما هو نفس الباب الذي غنّى له عاصي عُمرك شفت شي باب عم يبكي..؟
شُفنا باب وحُلُم وشباك.. وشفنا خيمة عم تبكي!
تركنا خلفنا حوارات ونقاشات وخلافات وأحضان وأسرار لم
تكتمل على السرير وبقايا طعام وزجاجة كولا سعة لتر وربع وكاسات كرتون وحواديت ما
بعد العشاء وخصوصيات استلقت على الشارع وسلسلة مفاتيح وسلسلة مشاكل كانت تبدأ ولا
تنتهي!
تركنا خلفنا حياة ولاب توب وجوّالين وألبوم من صور
وألبوم للبحر وصور الزفّة وتسريحة الشّعر التى أزعجتني ليلة الدخلة من شدّة البُكل
وكراكيب غرفة الخزين والمطبخ وقداحة الغاز ومعجون الحلاقة و'البُرنص' خلف باب
الحمام ومنشفه أوف وايت وطاولة سُفرة وطاولة الزّهر ودفتر تسجيل خاص بالهاند ريمي
في مؤخرته ورقة خاصة بالديون وفواتير جوال وفواتير الماء والانترنت والكهرباء
وقميص النوم 'الفوشي' و'البز الكزّاب' و'الزنوبه' ومقص الأظافر الحافي وعلبة
ماكنتوش مخصصة لحبوب السّكر والضغط والمعدة والأعصاب والحموضة وطقم كاسات فاخر
مُعتَقَل بالبوفيه من سنة 1997 بتهمة 'خسارة هاد يطلع للضيوف' وبعد القصف طلع
بالشارع وطلعنا غلطانين عندما عاقبنا ابننا الصغير بتهمة كسر الفنجان.. لم نكن
نعلم أننا أيضاً نَنكَسر!
انكسرنا جميعاً.. وتركنا خلفنا أوّل قُبله ، وأوّل سنة
حُب، وآخر الممر والجزّامة ورائحة الجرابين والكلاسين وصوت الغسّاله المُزعج
و'الوجبه البيضا' وتعليمات الحكومة المنزليّة 'ميت مرَّة حكيت تشلحوا الجزم ع
الباب..' طارت الجزّامة وطار الباب وطار معه برج من نافوخي!
سنة كاملة وحتى كتابة هذه السطور يكاد القصف لا يتوقف..
يبدو نسفا لمربعات سكنيه 'الصوت واصلنا من المغازي والنصيرات..' الزنانات فوق
رأسنا أيضاً لا تتوقف، 'الكوادكابتر' مرعبه في الليل خاصة عند الذهاب للحمام..!
وصلنا العراء.. بين السماء والطارق.. 'بالبلدي' في
الشارع.. نزحنا من غزّة إلى خانيونس إلى رفح كما الآلآف تحت تهديد القصف العنيف..
وصلنا كما يعتقد البعض الحلقة قبل الأخيرة.. وصلنا 'المواصي' وهي منطقة قريبه جداً
من البحر ووصل معنا دُبّان غبي وبليد وحشرات ناشونال جيوغرافيك لم تتعرف عليها بعد..!
فقدنا غزّة، وفقدنا حياتنا وأحلامنا وممتلكاتنا هناك
وفقدنا آدميتنا في الخيمة.. قريباً سنتحول لكائنات 'برمائيه' وفي أحسن الأحوال
'لماوكلي' فتى الأدغال.. الحلم في العودة لغزّة أمام أعيننا يتَكَسَّر.. والحلم
بالسّفر بعد احتلال المعبر تَبَخّر.. آمل أن لايحدث معنا كما حدث مع حلمي وأن يحفظ
أهلي وعقلي بعد أن انتهت صلاحيتنا للحياة..!
مرّت علينا فصول السنة الأربعة زارنا الشتاء وزارنا
الصيف وزارنا الربيع والخريف وزارنا شعبان وما حسينا برمضان ومَرّ العيد من أمامنا
مرور اللئام ومرّت السنة ورأس السنة ومؤخرة السنة وموسم الحج والثانوية العامة
وحلم الالتحاق بالجامعات الذي فعصته الحرب وفعصت مستقبل الطلاب والطالبات..!
وبودّي أن أخبركم أن السنة الدراسية انتهت وبدأت ولأوّل
مرّة لا أكون فخور بتفوّق أولادي.. خالد وكارمن سنة أولى خيمة!
في المشهد الأخير من مسلسل 'أحلام كبيرة' يتكئ بطل
المسلسل عمر على النافذة وهو يقول لوالده 'بتعرف يا أبو عمر، لمّا بتطلَّع على
حالي بلاقي حالي فاضي، صفر اليدين ، لا الآمال تحققت، ولا الحياة مشيت زي ما كنا
نحلم من زمان ، مع إنّو الأحلام كانت كبيرة، كبيرة كتير!'
الأحلام كانت وستظل كبيرة، على شفاه المَنسيين، ووجوه
النازحين، وعذابات المُشرّدين، ستظل أكبر من الخيمة.. من الخيبه الكبيرة التي
وصلنا إليها بالسلامة وستظل أحلامهم أكبر من 'وطن خارج التغطية' ومن 'وطن نص كوم'
ومن 'شسمو' وهي أسماء مؤلفاتي الثلاث التي كتبت فيها خيمة تخيبنا!' و'كلنا مشاريع
شهادة!'
'وفي غزّة
دبّ انفجار
دب الحصار
دب الصوت
دب الموت
في غزة دب الرعب والزّفت
في غزة صَفَّينا على الاسفلت
في غزة من في غزة لكن لا ترى في غزة إلا الموت..!'
وحتى لا ننسى 'الحلم العربي' فمازلت مُتفائلا بالحلم
وإنو راح يجي يوم نصحى من النوم وتصحى الأمة وتحكي شالوم..!
من تحت القصف، من فلسطين من غزّة، إلى خانيونس، إلى رفح،
إلى المواصي، إلى الخيمة، الى الزوايدة الى دير البلح وصلنا بالسّلامة الى المجهول
ولم تصل أحلامنا بَعد، ولم تصل آمالنا بَعد وأخشى أن تكون قد تَبَخّرَت في الطريق!
·
كاتب
من غزة
13 أكتوبر
2024