ماجد توبه يكتب: قصة سورية.. عندما تصبح الحقيقة هي الضحية؟ (1 - 2)
ماجد توبه
لن تجد في الأرض شخصا سويا او غير مجرم إلا وقد بكى وصعق
في ضميره وانسانيته وهو يتابع ملف المعتقلين والشهداء والمفقودين في مسالخ الأسد
بعد سقوطه وفراره في ظروف ملتبسة تحتاج وقتا لمحاولة فكفكتها وتحليلها. من حق كثير
من السوريين ان يفرحوا ويتفاءلوا اليوم بانتهاء عهد بوليسي امني ديكتاتوري قاس،
وينظروا بعين الامل لمستقبل ينتهي فيه حكم الفرد كما في اغلب دولنا العربية
والعالمثالية، فحجم المعاناة السورية كان كبيرا كما هو لدى اعنف الدكتاتوريات.
هذااستفتاح ضروري اليوم في ظل حالة الاستقطاب والانقسام والصدمة بين مجاميع سورية
وعربية واسعة، وهي تتابع انهيار مرحلة في سورية وبدء مرحلة جديدة لا احد يعرف الى
أين ستؤول، رغم ان المؤشرات محبطة عند الكثيرين وتثير القلق من خسارة سورية بوزنها
ونفوذها
كأحدى دول المركز العربي الثلاث: مصر والعراق وسورية.
اليوم تتسيد
الصورة والتفاصيل الصغيرة والمتلاحقة المشهد بمتابعة الوضع السوري وتغيب التحليلات
الاستراتيجية ووضع الازمة وتحولاتها في سياقاتها العالمية والاقليمية وفي تقدم
مشروع اسرائيل وامريكا وحلفاءهم للشرق الاوسط الجديد.. اليوم لا صوت يعلو على صوت
شتيمة الاسد ونظامه.. وحتى اسرائيل وغزة وضرب حزب الله ولبنان بوحشية والتحضير لمهاحمة
ايران واسقاط نظامها ليس وقت الحديث فيه، فالوقت للفرح بسقوط سوريا.
اليوم؛
نحن أمام مشهد ملتبس ومقلق، فثمة من يرى في سيطرة قوى المعارضة المسلحة (مع غياب
رموز المعارضة السلمية) على سورية وكانه تحرير لفلسطين من اعتى اعداء الامة التي
تمعن في ابشع مجازر القرن بالشعوب العربية في غزة والضفة ولبنان وسورية واليمن، وهذاالفريق (ربما تعبر عنه بوضوح قناة الجزيرة والالة الاعلامية الضخمة لقطر) مستعد –كما
يبدو- للذهاب وراء خيارات "الحكام الجدد" الى
اخر المشوار.. حتى لو كان دلك الى جهنم! وسنفصل ذلك لاحقا.
في الجانب المقابل، ثمة فريق واسع ايضا يضع يده على قلبه
ولا تغيب الغصة عن باله بان تسقط سورية كدولة في المجهول في ظل ابشع حرب واستكلاب
اسرائيلي امريكي ضد الامة ومصالحها وخرائطها، خاصة بعد ان خسرت سورية بعدة ايام كل
السلاح السوري والبنية التحتية العسكرية واكثر من ثلث ارضها للعدو الاسرائيلي،
فيما تحتل تركيا ثلثا اخر تقريبا وامريكا وبيادقها الكردية جزءا كبيرا اخر. دع عنك
ان سوريا هي اصلا مسرح رئيسي لعمل كل مخابرات الارض.
لن اتحدث
عن مجموعات اصغر بين الجزئين الاكبرين المذكورين، من مؤيدي النظام السابق والمستفيدين
شخصيا من حكمه من جهة، ومن فريق من المرتزقة والمتطرفين الدين يريدون "تنظيف
سورية" او قل ابادة كل ما هو غير مسلم بمقاساتهم، اضافة الى الاقليات
المسيحية والعلوية والدرزية وغيرها.
واليوم ايضا بتنا كمثقفين ومعنيين بالشان العام وساسة في
صراع وجدل فكري وسياسي خطير، حيث إن قال احدهم انني اخاف على سورية ومستقبلها، او
ان امريكا واسرائيل وكل حلفاءهما حققوا هدفا عزيزا استراتيجا باسقاط سورية، فيرمى
فورا بمسبة "شبيح للاسد". التيار الاسلامي والاخوان المسلمون نسوا اليوم
غزة وابشع ابادة في التاريخ وباتت السيطرة على دمشق كفتح مكة دون الوقوف عند اية
ملابسات محيطة بالموضوع.
ولا
يمكن تفكيك وتحليل حجم هذا الاستقطاب
والاختلاف في قصة سورية دون العودة الى اساس وانطلاق الثورة السورية ومن ثم تطورها
لاحقا، فمن يحاول اليوم تقديم الحقيقة كانها بيضاء او سوداء ذهب الى
هوى نفسه او ايديولجيته او تضليلاته التي اشتغل عليها كل اعلام الارض.
ومن الضرورة
الاشارة هنا الى ان حجم انتهاكات النظام السوري رغم وجودها سابقا، خاصة في زمن
بشار الاسد الابن، لم تكن بمثل هذا المستوى
والاتساع والبشاعة، لكن الحروب الاهلية والصراع على السلطة وللاسف تظهر ابشع ما في
الانسان سواء كان في السلطة المتمكنة او الطامح والساعي لاخذها بالقوة. وهذا ما رآه كل منصف وغير متحيز من
جرائم بشعة وقتل على الهوية من قبل قوات النظام ومن قوات المعارضة المسلحة التي
تحمل اغلبها واقواها فكرا متطرفا اقصائيا لا علاقة له بديمقراطية وحرية وبناء دولة
مؤسسات.
وبالعودة
للبدايات من الضروري التذكير ان الشعوب العربية باغلبيتها لم تختلف على الاشادة
بانطلاق الربيع العربي من تونس والاطاحة بابن علي في صورة سلمية هيات لكتابة تاريخ
جديد للمنطقة، ثم جاءت الثورة المصرية السلمية ايضا لتزيد الامل باننا كعرب امام
تحول تاريخي مبشر، ورغم ان المصريين دفعوا عندما خرجوا الى الشوارع لاسقاط النظام
نحو الف وخمسمائة شهيد ومئات والاف الاصابات وعشرات الالاف من المعتقلين فإنهم لم
يرفعوا السلاح في وجه قوات النظام الى ان اسقطوه.
الكارثة
بدأت من ليبيا عندما خرج الليبيون في ربيعهم بمظاهرات سلمية. وهم ليسوا اقل من
التونسيين والمصريين بالاستعداد لدفع الثمن من ارواحهم لاسقاط نظام القدافي سلميا،
لكن ليبيا تختلف عن تونس ومصر، وما لم يسمح فيه بتونس ومصر من حمل السلاح من قبل
امريكا ودول العربان لان الدولتين مصنفتان كحليفتين استراتيجيتين لامريكا، سمح ان
يحصل بليبيا لاستعجال اسقاط النظام وفوز الغرب واذيالهم من عرب بالكعكة والسيطرة
على الحكم الجديد، فبدا ضخ السلاح والمليارات وبث الفتن القبلية وتشكيل فصائل
مسلحة وتحولت الثورة سريعا الى حرب اهلية استكملت بقرارين عربي ودولي من مجلس الامن
لاستخدام القوة وسلاح الجو لضرب الجيش الليبي، فسقط نظام القدافي وضاعت ليبيا حتى
اليوم!
الفريسة
الاكبر والاهم من ليبيا، كانت سورية بوزنها ونفوذها واشتباكها المباشر بمعادلة
الصراع مع اسرائيل، وعلاقتها بايران ودعمها اللامحدود لحزب الله وحماس، اللذين يشكلان اهم اعداء اسرائيل.
انطلق
الربيع السوري بحثا عن الكرامة والحرية والديمقراطية اسوة بمصر وتونس، وكعادة
الانظمة فان النظام السوري تعامل بقسوة مع الثائرين السلميين وسقط شهداء واعتقل
الكثيرون لكن ذلك
لم يمنع من توسع الثورة واصرار السوريين على نيل حريتهم وكرامتهم.. لكن التجربة
الليبية كانت طازجة وماثلة لكل طامع في سورية وما اكثرهم، واهمهم امريكا واسرائيل،
فتسابق العربان وتركيا الى تقديم الخدمات لامريكا بوعد تسريع اسقاط النظام السوري
بتسليح الثورة واطلاق حفلات قطع الرؤوس منذ
البدايات كما حصل في مخفر امني صغير في منطقة جسر الشغور،والنظام من جهته لم يقصر باستخدام السلاح مع المتظاهرين، لكن المبالغة والتضخيم كان
مطلوبا لتبرير استخدام المعارضة السلاح، بدل المراهنة على الثورة السلمية التي
بامكانها اسقاط اكبر الانظمة واقساها .
وبيوم وليلة فتحت الحدود وتم جلب الرجال والمرتزقة من كل
متطرفي الارض وادخال الاسلحة بما فيها الثقيلة، وبدأ ضخ عشرات المليارات من
الدولارات (وكما قدرها رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم ال ثاني وصلت
المبالغ المصروفة على الثورة السورية 200 مليار دولار).
في المقابل رمت ايران بقدراتها التسليحية والمالية لدعم
النظام السوري، ثم اضطر، واشدد على اضطر، حزب الله ترك واجهته مع اسرائيل ليرتد
ليحمي خطوط تزويده بالسلاح والدعم في سورية ووجد نفسه منغمسا في الحرب الاهلية
السورية، ليحمي ظهره من اعداء لم يكونوا ليخفوا استهدافهم للحزب والمقاومة
باعتبارهم "شيعة كفرة ضد السنة" كهدف معلن، لكن غير المعلن ان راس حزب
الله مطلوب امريكيا واسرائيليا وعربيا بل وحتى من قبل جزء وازن من اللبنانيين!
امام تحولها الى حرب اهلية والى ثورة غير سلمية، وجد
ملايين السوريين انفسهم مضطرون الى اللجوء او النزوح ودب الخراب في سورية، ووقفت
المعارضة المسلحة المدعومة بكل اسلحة ومرتزقة الارض على ابواب دمشق مهددة بسقوطها
في 2014 قبل ان تدخل روسيا بكل قوتها للحفاظ على مصالحها، وتعطي دفعة حياة قوية
للنظام وتقلب معادلات الحرب.
اكثر من 200 فصيل مسلح كان يعمل في سورية، وتم استيراد "الجهاديين"
من كل الدول العربية وقيرغستان واوزبكستان والايجور الصينيين والشيشان وغيرهم، في
استنساخ للتجربة الافغانية نهاية السبعينيات عندما فتحت امريكا باب الجهاد ضد
الاتحاد السوفياتي.
اذا كان
التاريخ يكتبه المنتصرون، فان "السوشيال ميديا" وكاميرات التصوير بل
وقنوات البث الخاصة بالجماعات المسلحة المتطرفة، لم تقصر في نشر جرائمها وارهابها
ضد الشعب السوري ايضا، تماما كما ارتكب النظام الجرائم والمجازر ضد السوريين.
من اراد ان يعرف تاريخ 13 سنة من الثورة السورية وما
ارتكب فيها من جرائم يندى لها جبين الانسانية فعليه التفرغ طويلا لاستعراض
الفيديوهات والتسجيلات على الشبكة العنكبوتية التي سجلت بكل فخر الجرائم والمجازر
والوحشية الغرائزية من طرفي الصراع، رغم ان الكثير من تلك الفيديوهات الغيت من
مختلف مواقع البث لبشاعتها انسانيا، فالذبح وقطع الرؤوس وتفجير الحافلات والمواقع والمساجد وسبي
النساء وسحل المعتقلين والتشنيع بهم وبجثثهم تملأ الفضاء الالكتروني.
سنترك
الحديث عن داعش وما فعلته من فظائع وجرائم باسم الدين واقامة الدولة الاسلامية
والقضاء على النظامين "الكافرين" ببغداد ودمشق، فهي باتت اكثر من
مفضوحة، بل وذهب
بعض انصار الثورة السورية لاتهام العراق وسورية باختلاقها وتاسيسها لتأليب العالم
على الحركات "الجهادية"، لاقناع انفسهم انه من الصعب ان يخرج كل هذا
التطرف والتوحش من ايديولوجية متأسلمة تسير على الفكر الوهابي.
وبعد
ان انهارت دولة خلافة داعش في العراق وسورية تساءل البعض عن تبخر اعضائها الباقين،
فليعلموا ان من لم يمت او يعتقل ذهب للانضمام لباقي الجماعات المتطرفة
الاخرى، ومن ضمنها هيئة تحرير الشام التي يقودها الجولاني (احمد الشرع المحدث)، الذي
كان هو شخصيا من قيادات داعش والقاعدة.. ولا يغرنك اليوم خطاب التهدئة والطمأنة
للسوريين والعالم بانه لا مكان للتطرف في سورية الجديدة، فالتقية والانحناء الشكلي
امام العاصفة حتى التمكن هو ديدنهم، وما يزال هدفهم بناء دولة الخلافة.. واية دولة
واي مقاس يرونه!
الاخطر انه تم استخدام المؤسسة الدينية بعد المؤسسة
الاعلامية لايقاد نار الفتن وتجييش العوام، وتم استحضار فتاوى التكفير ونبش
التاريخ لاستعادة حروب الفتن الكبرى المخزية بين السنة والشيعة في تاريخ المسلمين،
فـ"الغاية تبرر الوسيلة"!
اليوم
نتحدث عن مسالخ نظام الاسد وسجونه وجرائمه ومجازره، وهي كثيرة وبشعة، لكن احدا على
الاقل من الاعلام الرسمي، الدولي والعربي، لا يتحدث عن مجازر وجرائم وعشرات الاف
معتقلي الطرف الاخر، فللعلم فان جبهة تحريرالشام التي مسكت بزمام الحكم بدمشق لديها
وحدها سجون في ادلب تضم الالاف ليس من المجرمين والسراق، بل من "ثوار"
الجماعات الاخرى ومن النساء والاطفال، ومن اعضائها نفسها ممن يتعرضون لذات
بشاعة سجون الاسد.
هل المشكلة في سورية دينية ام سياسية؟ هي بلا شك سياسية
لكن الدين هو غلافها وحطبها، تماما كما حصل في افغانستان، وتماما كما حصل في مصر
ما بعد نجاح الثورة.
اليوم يتقدم في سورية، لدى قادتها الجدد، العداء للمدنية
والقومية واليسار والعلمانية، والشيعة
طبعا، على اي خلاف اخر، حتى مع اسرائيل وامريكا، وكأن داعمي الثورة ومُمكنيها من
هزيمة النظام السوري ليسوا علمانيين كما هو حال تركيا!
قد يكون هذا المقال كله مقدمة تمهيدية لفهم لماذا اختلفت الشعوب
العربية ومثقفيها على تقييم الثورة السورية بعكس اجماعها على الثورة المصرية
والتونسية، هي رسالة أولية للتقييم لمرحلة تاريخية لم تنته بعد، بل قد يكون الاخطر
فيها لم يأت بعد خاصة وان اسرائيل وامريكا يعلنون ليل نهار ان عملية تغيير الشرق
الاوسط قد بدأت..
هي رسالة لـ"شبيحة" الجماعات المسلحة
المتطرفة الدين يتهمون كل من عارضهم ويعارضهم بالموقف بانهم "شبيحة"
للأسد..شبيحة داعش والقاعدة وجيش الاسلام وجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام ومجموعة
نور الدين زنكي (وهده الاخيرة التي انضمت تحت لواء هيئة تحرير الشام والجولانيالشرع)
ما يزال الانترنت يحمل فيديو لتكالب عدد من ضباعها الملتحين على طفل فلسطيني لاجيء
بسوريا (12 سنة) وهم "يداعبوه" بالخنجر على رقبته ويضحكون قبل ان يجزوا
رقبته وسط صيحات "الله اكبر".. والسبب انه طفل مؤيد للأسد كما حاكموه
بخمسة دقائق!
السؤال
الاكبر والاخطر اليوم... هو سورية الى أين؟! وهذا موضوع مقالنا الثاني القادم.