خطأ تاريخي في مسلسل معاوية !


عبد الله
الطوالبة
تفهم أسلوب
الإختصار الملازم لتناول الأحداث التاريخية في مسلسل "معاوية"، فلا يتسع
هذا النوع من الأعمال الفنية لسرد التفاصيل. وقد نتفهم، وإن بصعوبة، التعامل مع
الأحداث بالإظهار والإخفاء والتقديم والتأخير والتركيز والتغاضي.
أما عندما يكون الخطأ فاقعًا في التعامل مع
واقعة تاريخية، فلا يمكن استبعاد سوء النية وربما خبث الطويَّة. نقول ذلك، على
أرضية الإفتراض بأن كاتب السيناريو ومُخرج المسلسل يعرفان أننا نحن العرب لم
نتصالح مع تاريخنا بعد، ولسنا متوافقين بشأنه. وإذا شئنا التحديد، فالمقصود بالذات
التاريخ السياسي الذي يُعد مؤسس المملكة الأموية، معاوية بن أبي سفيان أحد أبرز
الفاعلين فيه، والمختلف عليه حتى يوم الناس هذا. أعجبنا أم لم يُعجبنا، ما يزال
هذا التاريخ مُحدِّدًا رئيسًا لوعينا الجمعي السائد وأنماط التفكير المبنية عليه.
وقد رأينا تجليات ذلك المأساوية بصراحة في دول عربية عدة، العراق وسوريا خاصة،
خلال العقدين الأخيرين.
لسنا الأمة الوحيدة التي شهد تاريخها انقسامات
وأحداثًا دموية، لكن البون شاسع بين من أخضع تاريخه للقراءة العلمية النقدية
الحديثة وبنى على الشيء مقتضاه، ومن لا يزال ماضيه يصول ويجول في حاضره فاعلًا
ومُقَرِّرًا ومُوجِّهًا.
بالعودة إلى الصدد، نحدد الخطأ التاريخي المقصود في
الحلقة الخامسة من المسلسل، ونعني على وجه التعيين مبايعة عثمان بن عفان خليفة
للمسلمين. حسبما ورد في المسلسل، نهض عبدالرحمن بن عوف بعد الإنتهاء من الصلاة،
وتوجه إلى المنبر فخاطب عليَّ بن أبي طالب قائلًا: يا أبا الحسن، لقد وجدت الناس
تميل إلى عثمان وها أنا أبايعه. نهض علي من مكانه واتجه إلى حيث يقف عثمان وابن
عوف، وبايع عثمان. وهذا غير صحيح، كما تُجمع مصادرنا التاريخية، وفيه إساءة لشخصية
تاريخية محورية بحجم علي بن أبي طالب. كأن القائمين على المسلسل يريدون أن يزرعوا
في أذهان المتابعين حقيقة زائفة، مؤداها أن الناس كانوا ينفرون من علي، وبالتالي،
رغبوا عن أن يكون خليفة. مأتى الخطورة، أن المتابعين للمسلسل من مختلف الفئات
والأعمار، ليسوا كلهم على سوية معرفية بأحداث تاريخنا تؤهلهم للحكم على ما يقرأون
أو يشاهدون لجهة تبيُّن الإختلاق والتخليط بمنظور شبه المُجْمَع عليه. أما معدو
المسلسل، فلا ريب أنهم يدركون تأثير الصورة والدراما والإعلام المرئي والمسموع بعامة،
على الوعي ودورها في صياغة المواقف.
وليس يفوتنا الإشارة أيضًا إلى أن تاريخنا يقدم
لأبنائنا الطلبة في المدارس والجامعات، بأساليب لا نعتقد أنها أفضل حالًا من
مضامين مسلسل "معاوية".
لتبسيط الأمور لقارئنا، نورد باختصار في سطورنا
التالية ما تكاد تُجمع عليه مصادرنا التاريخية، وليت القائمين على المسلسل اعتمدوه
ولم يستبدلوا به سردية لا أساس لها ولا ندري من أين أتوا بها.
عندما شعر عمر بن الخطاب بدنو أجله بعد طعنه بخنجر
مسموم، كما يُفيد الرواة، لجأ إلى تشكيل مجلس الستة الكبار أو أهل الشورى، وكلفهم
باختيار أحدهم خليفة بعده، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن
عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله. وأضاف إليهم ابنه
عبدالله، يحضر مشيرًا، ولا يكون له من الأمر شيء، أي يُسثنى من الإختيار. كان من
المُفترض إبراز توجيه عُمر التاريخي بعدم تولية ابنه عبدالله من بعده، كدليل على
أن التوريث السياسي ليس من الإسلام، ولكن يبدو أن هدفًا كهذا ليس مُدرَجًا ضمن ما
يروم القائمون على المسلسل الإضاءة عليه.
حدَّدَ عمر أمدًا زمنيًّا لاختيار أحد أهل الشورى
خليفة، بحيث لا يتجاوز اليوم الثالث بعد وفاته. ووضع شروطًا صارمة لآلية الإختيار،
يمكن لمن يريد الإطلاع على تفاصيلها العودة إلى المراجع التاريخية.
تحفل مراجعنا بالروايات المتعلقة بمسلك رئيس مجلس
الستة، عبدالرحمن بن عوف، لاختيار الخليفة بعد عُمر، وهي محفوظة في متون مراجعنا،
ونكتفي بأهمها من زاوية شبه إجماع الرواة بشأنها. بداية، ومن أجل توضيح الصورة
للقارئ باختصار قدر الإمكان، نرى من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن عبدالرحمن بن
عوف تنازل عن حقه في الترشح للخلافة مقابل توليه عملية اختيار أحدهم خليفة بعد أخذ
رأيهم ومشاورة الناس، فوافقوا. واقترح عليهم ابن عوف تسهيلًا للمهمة تنازل ثلاثة
لثلاثة، فتنازل الزبير لعلي، وتنازل طلحة لعثمان، وتنازل سعد لعبدالرحمن بن عوف.
وبما أن ابن عوف قد تنازل عن حقه في الترشح، فقد انحصر الأمر في علي بن أبي طالب
وعثمان بن عفان. هذه الجزئية، يهملها المسلسل نهائيًّا ونترك تخمين السبب للقارئ.
وتقول رواية ثانية أن مجلس الستة استطلعوا آراء ممثلي الناس ووجهائهم، فتبين لهم
انقسام خطير بين أنصار علي وأنصار عثمان. حينها، اتخذ ابن عوف قرارًا بمواجهة كل
من عثمان وعلي بشرط "العمل بكتاب الله وسنة نبيه وفِعْل الشيخين، أبي بكر
وعمر". قَبِلَ عثمان من دون تحفظ، بينما أبدى علي تحفظًا، وقال:"اللهم
لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي". فبايع ابن عوف عثمان، وتبعه
الناس(الجابري: العقل السياسي العربي، ص147. نقلًا عن الطبري: تاريخ الأمم
والملوك، الجزء الثاني، ص 586).
هذا ما تكاد تُجمع عليه مراجعنا التاريخية، وليس كما
شاهدنا في الحلقة الخامسة من مسلسل معاوية. وكان على مُعدِّي المسلسل توخي الدقة
والأمانة العلمية التاريخية والموضوعية، في عمل فني يتابعه أناس ليسوا كلهم على
رِفعة في مستوى الإحاطة بتفاصيل تاريخهم. ومنهم من يعتقد أن ما تبثه الشاشات من
مسلسلات تخص ماضينا، حقائق لا يأتيها الباطل عن يمين أو شمال. وهذا اعتقاد خاطئ،
ندعو كل من يقرأ سطورنا هذه إلى التخلي عنه اليوم قبل الغد!
ما تضمنته سطورنا ينهض دليلًا على وجاهة ما سبقنا
إليه غيرنا من ملاحظات سلبية ومآخذ، موضوعاتها هذا المسلسل، الذي نرى أن من الأفضل
لو أنه لم يكن.