التنقل المهني الذكي بمواجهة فجوة المهارات وزحف الذكاء الاصطناعي، استراتيجية للبقاء أم خيار اضطراري؟


د. جهاد
يونس القديمات
يشير مفهوم
التنقل المهني الذكي (Smart Career
Mobility) إلى قدرة الأفراد على الانتقال بمرونة وكفاءة
بين وظائف أو مجالات مهنية متعددة، وذلك بالاستفادة من الأدوات الرقمية والتقنيات
الحديثة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي (Artificial
Intelligence) يتيح هذا النمط من التنقل للأفراد رسم مسارات
مهنية تتوافق مع قدراتهم الفردية وتتلاءم مع متطلبات السوق المتغيرة، من خلال
الاعتماد على تحليل بيانات السوق، وتحديد الفرص المهنية الأنسب، والانخراط في
التعلّم المستمر، وتحديث المهارات بشكل ديناميكي، كما يشمل ذلك إمكانية الانتقال
السلس بين قطاعات مختلفة أو تخصصات متعددة وفقًا لحجم الطلب وحاجة السوق.
من ناحية أخرى تعد
فجوة المهارات السوقية (Skills Gap) من أبرز التحديات التي تعيق التوازن بين العرض والطلب في
سوق العمل، إذ تشير إلى التفاوت القائم بين المهارات المتوفرة لدى العاملين، وتلك
المطلوبة فعليا من قبل أصحاب العمل، هذه الفجوة تشكل عقبة أمام الخريجين الذين
يجدون صعوبة في الالتحاق بسوق العمل رغم امتلاكهم شهادات أكاديمية، كما تربك أرباب
العمل الذين يواجهون تحديات في العثور على مرشحين يمتلكون المهارات المناسبة،
وتؤثر سلبا على صناع القرار الساعين إلى خفض معدلات البطالة وتعزيز تنافسية
الاقتصاد الوطني، حيث تشير دراسة ان 52% من أصحاب العمل يرون ان خريجي الجامعات الأردنية
يفتقررون للمهارات الأساسية، وان 60% من هؤلاء الخريجين لا يجدون وظائف خلال السنة
الاولى من التخرج، وان المهارات المفقودة، منها على سبيل المثال: الكفاءة الرقمية
والتقنية، والتفكير النقدي وحل المشكلات، إضافة الى مهارات الاتصال الفعال.
اما
الذكاء الاصطناعي AI فيقصد به
محاكاة أنظمة الحاسوب للوظائف الذهنية البشرية مثل التعلم الآلي، ومعالجة وتحليل
البيانات، والتنبؤ بالتوجهات المستقبلية، وتكمن أهمية الذكاء الاصطناعي في كونه
أداة فاعلة لدعم الأفراد والمؤسسات في اتخاذ قرارات مهنية قائمة على معطيات دقيقة
وآنية، مما يعزز فرص التوظيف والتطوير المهني المستدام.
من هنا، فإن
التكامل بين التنقل المهني الذكي والذكاء الاصطناعي يعد خيارا استراتيجيا لسد فجوة
المهارات المتزايدة، هذا الربط يفتح آفاقا جديدة أمام الخريجين والعاملين لتطوير
مساراتهم المهنية، ويمنح أرباب العمل حلولا أكثر دقة وفاعلية في استقطاب الكفاءات،
كما يوفر لصناع السياسات أدوات تخطيط مستقبلية قائمة على تحليل واقعي ومعمّق
لمعطيات سوق العمل، وفي ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، فلم يعد
الاعتماد على المؤهل الأكاديمي وحده كافيا، بل أصبحت المرونة، والتعلم المستمر،
والتوظيف الذكي للتقنيات ركائز أساسية لبناء مسيرة مهنية ناجحة ومواكبة لمتطلبات
العصر.
تبرز أهمية مفهوم التنقل المهني الذكي كأحد التوجهات الحديثة التي تمكن
الأفراد من التنقل بمرونة وفاعلية بين المهن والقطاعات المختلفة، اعتمادا على
معطيات دقيقة حول واقع السوق، واحتياجاته المتغيرة، ومدى مواءمة المهارات التي
يمتلكها الأفراد مع الفرص الوظيفية المتاحة، ولا يعد هذا النوع من التنقل تخليا عن
الاستقرار المهني، بل يعكس قدرة الفرد على التكيف وإعادة تشكيل مساره الوظيفي
استجابة للظروف المتجددة والتحولات العميقة التي يشهدها سوق العمل.
في
هذا المنطلق، تتعاظم الحاجة إلى AI بوصفه قوة دفع مركزية لهذا التحول، إذ تسهم خوارزميات
التعلم الآلي وتحليل البيانات في رسم ملامح المسارات المهنية المستقبلية، وتشخيص
الفجوات المهارية، وتقديم توصيات موجهة ودقيقة لكل باحث عن عمل أو عامل يسعى
للتطوير الذاتي والمهني، وباتت أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة اليوم على تحليل
السير الذاتية، وتقييم القدرات، ومطابقة الأفراد مع الوظائف الأنسب لهم، بل وتوفير
خطط تعلم مصممة خصيصا لسد الفجوات المهارية، مما يُشكّل تحولا نوعيا في طريقة
اتخاذ القرارات المهنية، سواء على مستوى الأفراد أو جهات التوظيف.
من ناحية اخرى، تواجه
معظم أسواق العمل تحديًا متصاعدا يتمثل في فجوة المهارات، والتي لا تعكس بالضرورة
نقصًا في الكفاءات، بل غالبا ما تكون نتيجة لعدم اتساق مخرجات التعليم مع احتياجات
سوق العمل الفعلية، أو بسبب ضعف ثقافة التعلم المستمر لدى شريحة من العاملين، وتؤدي
هذه الفجوة إلى اتساع البطالة المقنعة، وإلى صعوبات متزايدة لدى أصحاب العمل في
العثور على كفاءات تلبي متطلبات الوظائف الحديثة، مما يعمّق من إشكالية التوظيف
ويعيق النمو الاقتصادي والتنافسي في آن واحد، حيث يفضل 70% من أصحاب العمل الخبرات
العملية على الشهادات الاكاديمية.
لا يمكن إنكار أن
التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي قد ترك أثرا بالغا وواضحا على ملامح سوق
العمل المعاصر، حيث باتت العديد من الوظائف التقليدية مهددة بالزوال، فقد أصبحت
الأنظمة الذكية قادرة على أداء مهام كانت في السابق حكرا على العنصر البشري، مثل
خدمة العملاء، والتحليل المالي، وإدارة البيانات، بل وتوسعت لتشمل مجالات أكثر
تعقيدا كالمهام القانونية وبعض الأنشطة الإبداعية، ولم يقتصر تأثير هذا التحول على
القطاعات التقنية فقط، بل امتد ليشمل قطاعات واسعة مثل التعليم، والإدارة العامة،
والنقل، والمحاسبة، وفي ظل هذا المشهد المتغير، تتزايد المخاوف بشأن تآكل فرص
العمل، لا سيما بالنسبة للأفراد الذين لم يتمكنوا من مواكبة هذا التطور أو افتقروا
إلى المهارات البديلة التي تؤهلهم للانخراط في الاقتصاد الرقمي الجديد، فعلى
الصعيد فان 40% من اصحاب
العمل يخططون لخفض عدد العاملين بفضل الأتمتة.
على الرغم من أن AI يعد محركا قويا للابتكار وتعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات، فإن
آثاره المتسارعة على سوق العمل تستدعي استجابة استراتيجية واعية، لا تقوم على
مقاومة التغيير أو التخوف منه، بل على مواكبته والاستعداد له بمرونة، ومن ذلك يبرز
مفهوم التنقل المهني الذكي كأحد الحلول الفاعلة، سواء على المستوى الفردي أو
المنظمي، إذ يتيح للعاملين تجنب خطر الارتباط طويل الأمد بوظائف مهددة بالاندثار،
من خلال الاستثمار في تطوير مهاراتهم والانتقال إلى مجالات واعدة أو قطاعات أقل
عرضة للأتمتة والاستبدال الآلي، ولا يتم هذا الانتقال بشكل عشوائي أو عفوي، بل يستند
إلى تحليل دقيق لمعطيات سوق العمل، وتحديد المهارات المطلوبة مستقبلا، ومن ثم
الانخراط في برامج تدريب وتأهيل موجّهة تسهم في تعزيز فرص البقاء والتطور المهني
في ظل التحولات المتسارعة.
غير
أن التحدي الأشد إلحاحا هنا يتمثل في اتساع فجوة المهارات، حيث لا يمتلك عدد كبير
من الخريجين والعاملين المهارات التقنية والرقمية اللازمة للولوج إلى وظائف
المستقبل أو المحافظة على مكانتهم في سوق العمل المتغير، وفي المقابل، لا تزال
المنظمات في القطاعين العام والخاص تواجه صعوبة في استقطاب كفاءات مؤهلة في مجالات
متقدمة كتحليل البيانات، و AI ، والتحول الرقمي، ويسهم
هذا الخلل في تعميق الفجوة القائمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق، ويزيد من
احتمالات الإقصاء المهني لأولئك الذين لا يواكبون مسارات التحديث والتطور، مما يهدد
بتفاقم معدلات البطالة وفقدان التوازن بين العرض والطلب في سوق العمل.
لمواجهة هذا التحدي المتصاعد، تظهر الحاجة إلى
تفعيل منظومات تدريب وتأهيل ذات طابع ذكي وتكيفي، تستند إلى تحليل ديناميكي مستمر
لاحتياجات سوق العمل، وتعمل على توجيه الأفراد نحو اكتساب المهارات الأكثر طلبا
والتي تضمن لهم مرونة التكيف والتنقل بين المسارات المهنية المختلفة، وفي هذا
الإطار، يُعد دعم صناع القرار وأرباب العمل لمبادرات التنقل المهني الذكي أمرا
حاسما، من خلال تهيئة بيئات عمل مرنة تستوعب التنقل والتطوير، وتوفير أدوات تقييم
ذاتية واستشارات مهنية قائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يعزز من قدرة
الأفراد على اتخاذ قرارات مهنية مستنيرة، ويسهم في تحقيق مواءمة حقيقية بين
الكفاءات والفرص الوظيفية المستقبلية.
أدى الذكاء الاصطناعي إلى نشوء واقع مهني جديد
لم يعد يتسع لحالات الجمود أو الركود الوظيفي، إذ أصبحت المهن التي تقوم على
التكرار والإجراءات الروتينية عرضة للاستبدال بأنظمة ذكية أكثر كفاءة، ويقتضي هذا
التحول تبني تفكير استباقي من قِبل جميع الفاعلين في سوق العمل، أفرادًا ومنظمات،
فلم يعد السؤال الجوهري هو: "هل ستنقرض مهنتي؟"، بل تحول إلى تساؤل أكثر
عمقا: "هل أمتلك المهارات التي تؤهلني للاستمرار والتطور في بيئة عمل تتغير
بوتيرة متسارعة؟".
عند تفعيل التنقل المهني الذكي كجزء من منظومة وطنية شاملة،
فإنه لا يقتصر على كونه استجابة فردية للتغيرات المتسارعة في سوق العمل، بل يتحول
إلى أداة
استراتيجية للتنمية المستدامة، فهو يسهم في إعادة توجيه الموارد
البشرية نحو القطاعات ذات الأولوية الاقتصادية، ويحد من معدلات البطالة الهيكلية،
ويسهم في بناء قوة عمل أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع التحولات المستقبلية، ولا يُعد التنقل المهني الذكي آلية
للإقصاء، بل وسيلة للتمكين الوظيفي؛ إذ يمنح الأفراد الفرصة لإعادة التمركز
المهني، والتكيف مع متطلبات السوق المتجددة، مما يعزز من شموليتهم واستمراريتهم
داخل المنظومة الاقتصادية بدلا من انجرافهم خارجها، ولكن لا يمكن لهذا التحول أن يتم تلقائيا، فبدون رؤية
استراتيجية تعالج فجوة المهارات، وتوفر مسارات تعلم قابلة للوصول، وتدمج AI في التوجيه والتدريب، سيبقى عدد كبير من الأفراد عالقين بين وظائف مهددة
بالانقراض، ومهارات غير كافية، غير قادرين على العبور إلى وظائف المستقبل، وبناء
عليه يمكننا تقديم مجموعة من التوصيات المهمة التي تساعد مختلف الفئات على التعامل
مع التغيرات التي يشهدها سوق العمل:
بالنسبة
للخريجين والباحثين عن عمل، لم يعد الانتظار كافيا، فالسوق يتغير بسرعة، ويجب أن
يكون لدى الشخص استعداد دائم لتعلم مهارات جديدة، ومن المهم التركيز على المهارات
الرقمية الأساسية Digital Skills، مثل
تحليل البيانات، التفكير المنطقي، والتعامل مع أدوات AI، لأن هذه
المهارات أصبحت من المتطلبات الأساسية في كثير من الوظائف الحديثة، كما يمكن
الاستفادة من المنصات الذكية التي تساعد على معرفة الاتجاهات المهنية المناسبة لكل
شخص حسب قدراته واهتماماته.
أما العاملون في وظائف قد تختفي مستقبلا، فعليهم أن يكونوا أكثر وعيا
بالتغيرات التي تحدث من حولهم، ومن الأفضل البدء بوضع خطة بديلة تساعدهم على
الانتقال إلى مجالات جديدة أكثر أمانا، كما يمكن تحقيق ذلك من خلال المشاركة في
الدورات التدريبية المستمرة، وطلب الدعم من جهة العمل لتوفير برامج تساعدهم على
تطوير أنفسهم، بدلا من الانتظار حتى فقدان الوظيفة.
أما أصحاب العمل، فينبغي أن ينظروا إلى AI على أنه فرصة
لتطوير العاملين، وليس فقط كوسيلة لخفض التكاليف، بل لتصميم برامج تساعد العاملين
على الانتقال إلى مهام جديدة داخل نفس المنطمة، وتوفير بيئة عمل مرنة تشجع على
التعلم وتسمح بالتنقل بين المهام بسهولة، لأن ذلك يعزز من استمرارية المنظمة وتكيفها
مع التغيرات، وتشير دراسة ان الذكاء الاصطناعي سيخلق 20–50 مليون وظيفة جديدة حتى
عام 2030، تعتمد معظمها على المهارات التقنية، وان 87% من المنظمات ستواجه فجوة مهارات حاليا أو مستقبلا.
فيما يخص صناع القرار والمسؤولين عن وضع السياسات، فمن المهم جدا أن يتم
إدراج مفهوم التنقل المهني الذكي ضمن
خطط الدولة في مجالي التعليم وسوق العمل، وكما ينصح بإنشاء منصات رقمية رسمية
تساعد في تحديد المهارات المطلوبة حاليا ومستقبلا، وربطها بالخريجين والباحثين عن
العمل لتوجيههم إلى المسارات المناسبة، كذلك توفير برامج دعم خاصة للخريجين الذين
يواجهون صعوبة في الدخول إلى سوق العمل، وربطهم بمسارات تدريب محددة تعزز من
فرصهم. أخيرا، فإن التعاون بين الدولة والقطاع الخاص في تصميم هذه البرامج يعد أمرا
ضروريا لضمان أنها تلبي الاحتياجات الحقيقية لسوق العمل، كما اكدت دراسة ان 44% من المهارات ستتغير خلال 5 سنوات، وان 60% من الموظفين
يحتاجون لإعادة تأهيل قبل 2027.
وخلاصة
القول،
يقوم التنقل المهني الذكي على قدرة الأفراد على الانتقال من وظائف مهددة إلى أخرى
أكثر أمانا واستدامة، مستندين في ذلك إلى تحليل مستمر لمعطيات السوق، واكتساب مرن
للمهارات المطلوبة، لا يعد هذا المفهوم ترفا تنظيريا، بل ضرورة عملية، في ظل عالم
لم يعد يرحم الجمود المهني.
لكن هذا التنقل يصطدم
بعقبة مركزية هي فجوة المهارات Skills Gaps، وفيما يتقدم AI بخطى متسارعة، لا تزال أنظمة التعليم
والتدريب متأخرة عن مواكبته، والنتيجة آلاف الخريجين المؤهلين نظريا، غير القادرين
على المنافسة فعليا.
ان
هذا التحول الذي يشهده سوق العمل اليوم هو أشبه بزلازل ناعمة، تغير معالم المهن من
الداخل، وفي هذا المشهد، لا يكفي الصمود؛ بل لا بد من التحرك بذكاء ومرونة، لأن AI قد يقصي من لا
يتحرك، لكنه يكافئ من يستثمر فيه، والتنقل المهني الذكي هو الجسر الآمن بين ما
نعرفه الآن، وما ينتظرنا في مستقبل العمل، فهل نحن مستعدون لعبوره؟
* دكتوراه
إدارة الاعمال/ اكاديمي ومتخصص في إدارة وتطوير الموارد البشرية