ودّعتُ ألمي...


بقلم: سوسن الحلبي
أيّامٌ وشهورٌ مرَّت
بنا... أوقاتٌ مضنيةٌ أعيتنا بمرِّها... أخذت معها آخر ما بقي ممّا يسمّونها
الحياة...
كان لنا فيها ألف ذكرى
وذكرى... ماضٍ جميل... كنّا فيه معًا... وكان لا يزال لنا فيه كلُّ الأحلام...
وتلاهُ واقعٌ أليمٌ... عشنا فيه أقسى اللحظات... فقدنا فيه أغلى ما لدينا... بل
كلُّ ما لدينا... ولم يتبقَّ لنا فيه سوى أملٍ نرجوه من ربِّ العباد...
في الحرب، فقدت
أحبّتي... صحبتي... بيتي ومالي... وبعضًا من جسدي... فقدتُ الأمان والحنان...
فقدتُ الراحة والسكينة... وصارت الدّنيا أمام ناظري كالأحلام... صرتُ أحلمُ ببعض
الطعام مهما يكُن، يملأُ قليلاً من وعائي... وبماءٍ باردٍ عذبٍ، أرتشفهُ كلما
جفَّت عروقي... وبوسادةٍ ناعمةٍ تحتضن رأسي المُتعب من وهج الشمس... بعد
الوقوف لساعاتٍ منتظرًا الحصول على شيءٍ مما حلمتُ به...
ثمَّ ينتهي النهار في
كلِّ يومٍ... وينجلي بعده ليالٍ طوال... والظلمُّ ما زال يغطي سماءنا بغطاءٍ
أسود... يحجب معه النور عن كلِّ بابٍ من أبواب العدل والحريّة... إلى أن
غابت حتى أحلامنا... بعد أن استبدّ بنا الجوعُ والعطش... وأضنانا التَّعبُ وكثرةُ
الجراح... فرائحةُ الموت تنضح من كلّ مكان... والدَّم أصبح يجري حول أجسادنا
المُنهكة في الطّرقات... عوضًا عن جريانه في عروقنا...
خَوت الأواني
والبطون... واستسلمنا جميعًا للموت... صرنا ننظر إلى كلّ من ارتقى من الشهداء نظرة
غبطةٍ... ننتظرها بكلِّ شغف... علّنا نحصل على شيءٍ ممّا حلمنا به... علّنا نغادر
واقعنا الأليم...
وبعد انتظارٍ طال
بمحنتي... جلستُ بخيمتي المُهترئة خائبًا بعد يومٍ طويل... كنت أحاول نسيان حالي،
وحدي بين كلِّ الهموم... لم أكن أعلم أنَّ موعدي قد حان... وأني أخيرًا قد اقتربت
من أحلامي...
قنابلُ نالت من
خيمتي... ووجدتُني مُلقىً بعيدًا... بعد أن فارقتُ دنيا الألم... ورحلتُ إلى سماء
القدير... كنت أجول فيها فرحًا دون أن أجلس على كرسيّ... أو أن أتكئ على شيء...
تعينني فرحتي على ترك الشجون...
ودَّعتُ هنالك جوعي...
ودّعتُ ألمي... ودّعتُ بؤسي وقلَّة حيلتي... واحتسبتُ على ظلم عدّوي... بأن يُدركه
من المولى شرُّ انتقام...
ودعوتُ لكلِّ الأبرياء
الصامدين على أرضنا... علّي ألتقيهم في طيب جنانه... ونُطْعَمُ من كلِّ ما حُرمنا
منه في ضيق دنيانا... ونلقى عوضنا من ربِّ العالمين