المقاومة داخل فلسطين هي الطريق الأنجع…


د. طارق سامي خوري
منذ اللحظة الأولى لولادة المشروع اليهودي في فلسطين، ارتبط وجوده بالقتل
والاقتلاع والإبادة الجماعية. لم يكن الاحتلال يومًا مشروعًا للتعايش أو التنمية،
بل مشروعًا استعماريًا استيطانيًا يهدف إلى إحلال شعب مكان شعب، ومسح هوية تاريخية
لصالح هوية مفبركة. وقد شهدنا بأعيننا كيف تحوّلت قضية فلسطين خلال أكثر من سبعين
عامًا إلى ساحة مفتوحة للقتل، من دير ياسين إلى غزة، ومن صبرا وشاتيلا إلى جنين
والقدس.
التاريخ الإنساني يُثبت أن الاحتلالات لا تتراجع بالبيانات ولا بالنيات
الطيبة. الاستعمار الفرنسي لم يخرج من الجزائر إلا بعد مقاومة مسلحة وصمود شعبي
أسطوري، والاحتلال الأميركي لم يغادر فيتنام إلا بعدما تكبّد خسائر جعلت بقاءه
مستحيلًا. المحتل، أيّ محتل، لا يحترم إلا ميزان القوة، ولا يتراجع إلا عندما
يُدفع ثمن عدوانه. وفي الحالة الصهيونية، الأمر أكثر وضوحًا، لأن هذا الكيان قائم
أصلًا على منطق السلاح والإرهاب المنظم والقتل.
من منظور القانون الدولي، يملك الشعب الواقع تحت الاحتلال كامل الحق في
مقاومة المحتل بجميع الوسائل. المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على "الحق
الطبيعي للدول والشعوب في الدفاع عن نفسها”، والعديد من قرارات الجمعية العامة
للأمم المتحدة أكدت على "شرعية نضال الشعوب من أجل التحرر والاستقلال ومناهضة
الاستعمار بكافة الوسائل”. وعليه، فإن مقاومة الشعب الفلسطيني ليست خيارًا عبثيًا،
بل هي ممارسة مشروعة ومحمية بقوة الشرعيات الدولية نفسها التي يتغنّى بها الغرب
حين تخدم مصالحه.
تجربة العقود الماضية كشفت فشل المفاوضات كخيار. منذ أوسلو حتى اليوم، لم
يحصل الفلسطيني إلا على المزيد من الاستيطان والحصار والإبادة. بل إن الاحتلال
استغل "عملية السلام” لتوسيع وجوده العسكري والاستيطاني، وفرض واقعًا جديدًا على
الأرض. إن الرهان على التسويات السياسية أثبت أنه مجرد وهم، بينما لغة المقاومة
أثبتت، في كل مرة، أنها اللغة الوحيدة التي تُربك العدو وتردعه.
التاريخ لا يُسجّل الأماني ولا النيات، بل يسجّل الأفعال. الشعوب التي قاومت
ودفعت أثمانًا باهظة، هي التي حجزت لنفسها مكانًا مشرّفًا في الذاكرة الإنسانية.
أما الشعوب التي اكتفت بالانتظار والتمني، فقد انتهى بها المطاف إلى صفحات
النسيان. واليوم، بينما يتعرض الشعب الفلسطيني لأبشع مجازر الإبادة، لا يمكن أن
يُسجَّل في التاريخ إلا من يقاوم بالفعل، ومن يقدّم موقفًا، ومن يرفض الاستسلام.
إن مواجهة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني ليست مسألة خيار
سياسي، بل مسألة بقاء ووجود. المقاومة بكل أشكالها مشروعة وهي التعبير الطبيعي عن
حق الشعوب في الحياة والحرية. ولأننا فقدنا الأمل بالأنظمة الرسمية وبالمؤسسات
الدولية، يبقى الشعب الفلسطيني هو العنوان، وتبقى المقاومة داخل فلسطين هي الطريق
الأنجع، ويبقى التاريخ شاهدًا على من انحاز للفعل ومن اكتفى بالفرجة.