بعد صمت المدافع.. النظام العربي أمام مفترق تاريخي حاسم


وائل منسي
تعيش المنطقة العربية اليوم مرحلة يمكن توصيفها بـزمن الخذلان
العربي، إذ كشفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة عن مدى هشاشة النظامين العربي
والإقليمي وتآكل قدرتهما على الفعل، رغم وفرة البيانات والتدخلات الشكلية
والوساطات المتكررة.
فالعرب بدوا كأطراف متفرجة على مسرح القوة، يفتقرون إلى أدوات
الضغط والتأثير، مما يجعل من إعادة هيكلة النظام العربي أولوية وجودية، لا خياراً
سياسياً، في سبيل استعادة زمام المبادرة وإحياء الدور التاريخي للأمة في مواجهة
مشاريع السيطرة الإسرائيلية والأمريكية.
في المقابل، ورغم الدعم الغربي غير المحدود، دخلت إسرائيل
مرحلة من الترهل الداخلي، إذ بدأت تتحول من رصيد استراتيجي للولايات المتحدة إلى
عبء سياسي وأمني واقتصادي عليها، بعدما فشلت في تحقيق نصر حاسم وأظهرت انكشافاً
ميدانياً وأخلاقياً غير مسبوق.
لقد نجحت حماس في كسر أسطورة الأمن الإسرائيلي وإعادة
الاعتراف العالمي بالقضية الفلسطينية، فيما ظلت السلطة الفلسطينية عالقة في هامش
الفعل بلا شرعية ولا تأثير.
اللافت أن الخطاب
الأمريكي، وعلى رأسه تصريحات ترامب، بدأ يعكس تحولاً واقعياً في مقاربة واشنطن؛
فبعدما كانت تراهن على اجتثاث المقاومة، باتت تعترف ضمناً بضرورة وجودها كعنصر
توازن يمنع انهيار إسرائيل الداخلي. فصفقة ترامب الجديدة ليست إلا محاولة إنقاذ
سياسية لإسرائيل من نفسها ومن استنزافها المستمر.
في المشهد العربي، عمّ الصمت وغابت المبادرات، لتظهر بوضوح
محدودية الدور العربي أمام السيطرة الأمريكية الإسرائيلية، باستثناء مواقف مبدئية
وشجاعة للأردن ومصر. فقد برز الملك عبدالله الثاني كصوت عربي صريح ومدافع عن
الثوابت، رافضاً مشروع التهجير ومؤكداً على مركزية فلسطين في الخطاب الدولي، فيما
واجهت مصر ضغوطاً هائلة وأفشلت محاولات فرض حلول على حساب غزة، ما أعاد للأذهان
دور القاهرة التاريخي في حماية الأمن القومي العربي. أما قطر، فحافظت على موقعها
كوسيط رئيسي في مفاوضات التهدئة وتبادل الأسرى، رغم التعقيدات الكثيفة في ملف نزع
السلاح وترتيب الأمن الداخلي في غزة، ما يعكس اتجاهاً إقليمياً نحو تثبيت هدن
مؤقتة دون حلول جذرية.
المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس والجهاد، أثبتت أنها
القوة الفعلية الوحيدة التي تمتلك زمام المبادرة، وأنها استطاعت إعادة تعريف
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بميزان جديد من الردع والتكلفة، فيما باتت الميليشيات
الإسرائيلية مرهقة ومتخبطة.
بذلك، دخلت القضية
الفلسطينية طوراً جديداً يتجاوز الأطر الرسمية العربية إلى الفعل الشعبي والمقاوم،
مما يكشف عن تحوّل في طبيعة النضال ذاته من دبلوماسية الاستجداء إلى معادلة الردع
الميداني.
على الصعيد الاقتصادي،
يختنق الواقع العربي بأزمات بنيوية متشابكة من تضخم وبطالة وانهيار في الخدمات، ما
يجعل الأنظمة رهينة المساعدات وشروط المؤسسات الدولية، وبالتالي عاجزة عن لعب أي
دور فاعل في دعم فلسطين أو حتى في حماية أمنها الداخلي. أما غزة فغارقة في دمار
اقتصادي هائل، إذ تحوّل ملف الإعمار إلى ورقة ابتزاز سياسي واقتصادي، فيما يصرّ
ترامب على تحميل دول الخليج التكلفة وكأنها مسؤولة عن نتائج الاحتلال.
أما الدول النفطية الغنية
فمارست ديبلوماسية مالية محسوبة، لم تتجاوز الإطار الرمزي، بينما تواصل أوروبا دعم
إسرائيل عسكرياً، كما ظهر في قرار ألمانيا رفع قيود تصدير السلاح لتل أبيب.
هذا التناقض بين الخطاب العربي والواقع الاقتصادي العاجز
يعمّق الفجوة الاجتماعية ويكرّس الإحباط الشعبي الذي تصاعد مع كل جولة قتال في
غزة. الشعوب العربية، التي انفجرت تضامناً مع فلسطين، وجدت نفسها في مواجهة
أنظمتها أكثر من مواجهة إسرائيل، ما ولّد شعوراً جماعياً بالخذلان وانعدام الثقة
بالنخب السياسية، فيما تشهد غزة نفسها تحولات اجتماعية خطيرة بعد الحرب، من انهيار
البنى المجتمعية إلى تصاعد ظواهر "التنظيف الداخلي"، بما يعكس أزمة
عميقة في النظام الاجتماعي والسياسي معاً.
في المحصلة، يبدو النظام العربي أمام مفترق تاريخي حاسم: إما
البقاء في دائرة العجز والتبعية، أو الانخراط في مشروع نهضوي جديد يعيد بناء
الداخل قبل الحديث عن مواجهة الخارج. الإصلاح الهيكلي المطلوب لا يقتصر على
السياسة، بل يمتد إلى الاقتصاد والتعليم والإعلام، لتشكيل وعي عربي جامع يرفض
التطبيع والارتهان. فالمقاومة لم تعد مجرد خيار عسكري، بل مشروع وطني شامل يعيد
للأمة كرامتها ومكانتها.
إن زمن الخذلان يمكن أن
يتحول إلى زمن النهوض، إذا امتلك العرب شجاعة المراجعة وجرأة التغيير، وإرادة
التحرر من قيود التبعية وبناء نظام عربي جديد يملك قراره وكرامته ومستقبله.