المشاجرات الجامعية .. نتيجة فشل في قولبة الشخصية


عوض ضيف الله الملاحمة
وطني الذي أكن له كل
الحب ، وأراه عظيماً رغم ما يكتنف مسيرته من عثرات ، وعقبات ، ومحبطات ، و
أحداث مُعيبة ، وهنّات تذهب بعظمته التي أتوهمها او استشعرها فيه .
أغضب ، وأشعر بالحرج
عندما تحدث حوادث مسيئة ، تعكس ان بذور التخلف لا زالت تركن في بعض جنبات وطني
الحبيب.
نلاحظ ان الجامعات
الأردنية جميعها تسعى لتحقيق مرتبة متقدمة في أحد التصنيفات العالمية للجامعات .
وأسفر هذا التسابق المحموم عن حصول بعض الجامعات الأردنية على تصنيف متقدم أثار
تساؤلات حول مصداقيته ، وجديته ، وعدالته . وثارت تساؤلات عديدة حول إستحقاق تلك
الجامعات لتلك المراتب.
قبل شهور حصلت الجامعة
الأردنية على تصنيف متقدم ، حيث حصلت على المرتبة ( ٣٢٤ ) ، في قفزة هائلة أثارت
شكوك أصحاب الإختصاص . وكانت النتيجة حصول لغط كبير ومثير وخطير ، خاصة ما جاء على
لسان معالي وزير التربية والتعليم والتعليم العالي .
يا ليت ، لو ان
الجامعات الأردنية عامة بدل ان ترهق كادرها ، وموازناتها ، وتضيع وقتها في الحصول
على تقييم متقدم من جهات لا نعلم مستوى أدائها ونجهل مصداقيتها ، ان تركز على
قولبة شخصيات طلبتها . ففي هذا خير عميم للجامعات خاصة وللوطن عامة .
يفترض ان يكون لكل
جامعة إستراتيجية عليا تسعى لتحقيقها ، وتكون هي هدفها المعلن ، وغايتها التي تسعى
لتحقيقها ، لتكون بذلك قد أدت الغاية والهدف من وجودها .
درست في جامعة بغداد
خلال السنوات ( ١٩٧١ — ١٩٧٥ ) ، وأذكر أن إستراتيجية جامعة بغداد في ذلك الزمان
كانت ، بما معناه :— ((نقولب شخصية الطالب ، ونزوده بمفاتيح العِلم )) . وهذا يعني
باختصار : — ان جامعة بغداد تصقل شخصية الطالب ، ليكون بمستوى حمل درجتها العلمية
، وتهيئه ليكون شخصاً فاعلاً في مجتمعه ، ومؤثراً فيه ، وقدوة في سلوكه وتعاملاته
وقيمه . كما يعني :— انه لا يمكن للجامعة ان تزودك بكل ما يتعلق بتخصصك ، لذلك هي
تقدم لك مفاتيح العلم في تخصصك لتُبحِر فيه وتتميز .
منذ ثمانينات القرن
الماضي ، حيث ما زال للأحزاب العقائدية وجوداً ، رغم تراجع وجودها عن عقود
الخمسينات والستينات والسبعينات ، وهذا كان يُقلق الأردن الرسمي كثيراً . لذلك
إقترح بعض السياسيين الأردنيين إتباع خطة تسطيح فكر الشباب ، وإلهائهم بتوافه
وسفاسف الأمور ، حتى لا تجذبهم الأحزاب العقائدية التي كانوا يعتبرونها شراً
مستطيراً ، وأمراً خطيراً على الوطن . وكان لهم ما أرادوا ونجحوا نجاحاً باهراً ،
وبدأت إرهاصات ذلك النجاح بالتسعينات . حيث إنشغل الشباب في أمور تافهه . وبدأت
المشاجرات العنيفة في الجامعات الأردنية ، وتبدى ان أسبابها : لماذا ( بتجح ) على
إبنة عمي ، او حبيبتي ؟ ولماذا تشاجرت مع إبن عمي ؟ فيقوم كل طرف بتحشيد أقاربه ،
وتبدأ المشاجرات.
المشاجرات الجامعية ،
تعكس هشاشة النظام الجامعي ، والفراغ الفكري لدى الطلبة . كما يعكس فراغ المحتوى
التخطيطي والإستراتيجي لدى القائمين على إدارة تلك الجامعات وكادرها التدريسي .
هناك خِواء ، وإضمحلال ، ومحدودية تفكير ، وفراغ فكري ، وعدم إهتمام في التثقيف
الشخصي . كما يبين عدم إهتمام الجامعات وكادرها التدريسي في قولبة شخصية الطالب في
النشاطات غير المنهجية . لذلك يتخرج الطالب وهو يفتقر لأبسط الأمور في الفهم العام
او الشعور العام او الفطرة السليمة ال (
Common Sense ) .
الطالب يفترض انه هو
المُنتَجْ الجامعي الذي تسعى الجامعة الى تجويده . وتعمل الجامعة وانظمتها
وكادرها ورئاستها لإخراج هذا المنتج للسوق بافضل وارقي المواصفات .
أما الحرم الجامعي
وقدسيته ، فقد هُشِّم ، وإستُبيح ، بل يكاد لم يعد موجوداً ، واعتقد ان غالبية
الطلبة لم يسمعوا به.
سأذكر لكم بعض الأحداث
التي تدلل على قدسية الحرم الجامعي في جامعة بغداد في السبعينات من القرن الماضي ،
وقد سبق لي ان ذكرتها ، لكن لتعميم الفائدة سأذكرها ثانية ، وبإختصار شديد جداً :—
كان السيد / خير الله طلفاح ، محافظاً لمدينة بغداد . وكان رجلاً صلفاً ، ومتديناً
متشدداً ، وهو خال نائب الرئيس آنذاك الشهيد الحي / صدام حسين . ووصلته معلومة ان
طلبة الجامعات لا يراعون حرمة شهر رمضان المبارك في الحرم الجامعي . فأمر بتصيد
الطلبة عند خروجهم من الحرم الجامعي اذا كان يأكل او يشرب شيئاً وهو يغادر الحرم
الجامعي ، فيقبض عليه ويودع في السجن حتى يوم العيد ليتم الإفراج عنه .
كما ان الرئيس المهيب /
احمد حسن البكر ، كان يواظب على زيارة كليات جامعة بغداد المتباعدة . حيث كان لا
يُعلِم أحداً بزيارته ، ويرافقه مرافقه الشخصي فقط ، وكان يطلب من المرافق إرتداء
الزي المدني ، لأنه لا يسمح لمن يرتدي زياً عسكرياً بدخول الحرم الجامعي . وكان
يطلب من مرافقه الالتزام بتعليمات الحرس الجامعي بتسليم مسدسه للحرس الجامعي قبل
الدخول ، تصوروا !؟
المشاجرة التي حدثت في
الجامعة الأردنية يوم أمس ، واسفرت عن إصابة ( ٧ ) طلاب ، والقاء الأجهزة الأمنية
على ( ٤٢ ) طالباً ، حدث مخجل ، ومعيب ليس للجامعة فقط ، بل لكافة الجامعات ،
وللوطن ومواطنيه.
ويسرني ان أُقدم شكري
الجزيل لأجهزتنا الأمنية انها لم تقتحم الحرم الجامعي ، بل إحترمته ، ولم تدخله ،
رغم العنف الشديد الذي نتج عن المشاجرة ، وانتظرت الطلبة المتشاجرين عند البوابات
والقت القبض عليهم . هذا تصرف حضاري يستحق الإشادة والإحترام .
أتمنى على كل مواطن
أردني يتسلم أية مسؤولية في وطننا ان يتقي الله في هذا الوطن الذي كان عزيزاً
وإنحدر بسبب سوء ونمطية أداء غالييتهم . والله ان الأردن يستحق منا جميعاً ، ومن
كبار مسؤوليه تحديداً ان نعمل جاهدين للإرتقاء به ، لا الإنحدار به ، وان نتقي
الله فيه ، وان نحرص ان يكون شامخاً عزيزاً ونعيد اليه ألقه ، وسمعته التي كانت
عطراً ومِسكاً ، حيث كنا مثلاً يرتجى ، وقدوة تحتذى .
بغض النظر عن كل ما يتم
عمله لتلميع الجامعات الأردنية ، فإنها فاشلة فشلاً ذريعاً ، وغير قادرة على قولبة
منتجها — وهم الطلاب — ما دامت غير قادرة على صقل شخصيات طلبتها ، وتجويد منتجها ،
والإرتقاء بهم حضارياً .