شريط الأخبار
بمشاركة الملكة رانيا.. افتتاح المتحف المصري الكبير الفراية من الأردنية للعلوم والثقافة .. مبادرتي غير ملزمة وبعض وسائل الإعلام روجتها خطأ أمانة عمّان تبدأ تطبيق الخصومات الجديدة على "المسقفات" هل كان المسيح يهوديًا؟ مقاربة علمانية– تاريخية لتفكيك الادعاء العِرقي الصهيوني (دراسة تحليلية) وعود بضخ مليارات الدولارات السعودية لسورية.. وتوجه لإنشاء سكة حديد بين البلدين عبر الأردن موسم زيتون مجبول بالدم الفلسطيني والارهاب الاسرائيلي في الضفة عباس: مصر والأردن أفشلتا مخطط التهجير.. والدولة الفلسطينية ستقوم خلال خمس سنوات اعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لفتح جبهة جديدة في العراق العيسوي يرعى انطلاق مبادرة "شاشة أمل" الإنسانية للأطفال المرضى والأيتام واللاجئين مايكروسوفت: الأردن الثالث عربيا و29 عالميا في مؤشر انتشار الذكاء الاصطناعي وفاة شخصين واصابة اثنين اخرين إثر محاصرتهم داخل بئر مياه في إربد عاجل. خفض طفيف على سعر البنزين بنوعيه وتثبيت سعر الديزل والكاز زين تستضيف انطلاقة مسيرة "سيدات هارلي" لدعم مصابات السرطان من غزة عاجل. نقص خطير بأدوية السرطان بالمستشفيات الحكومية.. والمريض مطالب بشرائها من بنغلادش والهند محلل روسي: فشل لقاء ترامب وشي جين بينغ كان متوقعا.. الحرب الكبرى باتت وشيكة تسعيرة طريق العمري الحرانة: 85 قرشا للمركبات و2.5 دينار للشاحنات عاجل. الأمن يطيح بطاعن طليقته باربد الولايات المتحدة تدفع نحو خطة نهائية لتشكيل قوة أمنية دولية في غزة زيارة اردني "مزعوم" لحائط البراق بالاقصى: مديح صهيوني وتنديد شعبي اردني واسع.. وتبرؤ عائلته منه فيديو "سي إن إن": إيران تكثف اعادة بناء برنامجها للصواريخ الباليستية بدعم صيني

الذكاء الإصطناعي والرياضيات… حينما يشهد العلم للخالق العظيم

الذكاء الإصطناعي والرياضيات… حينما يشهد العلم للخالق العظيم

 

 

د. جهاد يونس القديمات

 

    في زمن تتسارع فيه ثورة الذكاء الإصطناعي، وتتشابك فيه الخوارزميات مع القرارات البشرية، يعود السؤال القديم إلى الواجهة بوجه جديد: هل يمكن للعلم الحديث، وللرياضيات تحديدا، أن تدلنا على وجود خالق عظيم لهذا الكون؟ يبدو السؤال للوهلة الأولى فلسفيا أو دينيا، لكنه في جوهره علمي وعقلي بامتياز، لأننا حين نغوص في عمق الأرقام والمعادلات والقوانين، نكتشف أن كل ما حولنا يسير بانسجام مذهل ودقة رياضية مطلقة، لا يمكن تفسيرها بمجرد المصادفة أو الفوضى.

    عندما ننظر إلى الذكاء الإصطناعي، نرى أنه يقوم على خوارزميات دقيقة ومنظمة، لا تعمل إلا وفق قواعد صممها عقل بشري، هذه القواعد الرياضية لا تترك شيئا للصدفة، فكل معلومة، وكل استجابة، وكل نتيجة هي ثمرة ابداع واع ومسبق، وإذا كان نظام رقمي بسيط لا يمكن أن يوجد بلا مبرمج، فكيف لهذا الكون البديع، الذي يحتوي على بلايين الأنظمة المتناغمة، أن يكون قد وجد بلا خالق؟ إن وجود قانون يعني بالضرورة وجود مشرع، ووجود نظام يعني وجود من اوجده وضبطه بإحكام.

    الذكاء الإصطناعي في جوهره يعتمد على المنطق والاحتمالات، لكنه يبقى عاجزا عن تجاوز حدوده، هو "يتنبأ” ولا "يعلم”، و "يتعلم” ولا "يبتكر من العدم”، و "يقلد” ولا "يخلق”، إنه صورة من صور الفكر الإنساني، لكنه لا يحمل جوهر الوعي ولا الإبداع الحقيقي، وإذا كان الإنسان هو من صممه، فمن الذي (صمم) الإنسان نفسه؟، فمن قدر في خلاياه تلك الشيفرة الوراثية المعقدة التي تحتوي على ثلاثة مليارات رمز دقيق في ترتيب مذهل؟، ومن أودع فيه العقل، والشعور، والإرادة، والقدرة على التساؤل ذاته؟.

     من البديهيات الرياضية الدقيقة التي تحكمها المنطقية والاحتمالات، أن الخطأ في معادلة واحدة كفيل بانهيار النظام كله، هذا التشابه بين "العقل الإنساني الصانع” و”النظام الرقمي الناتج” يقودنا إلى استنتاج طبيعي: ان النظام لا يمكن أن يولد من الفوضى، وان وجود قانون يعني بالضرورة وجود مشرع، ووجود برنامج يعني وجود مبرمج، وعندما ننظر إلى الكون بلغة الرياضيات، ندرك أن كل شيء يسير وفق معادلات صارمة، من حركة الكواكب إلى اهتزاز الذرات إلى بناء الخلايا الحية، فهل يمكن أن تكون هذه الدقة قد نشأت صدفة؟.

    الرياضيات، التي يظنها البعض علما جامدا، هي في الحقيقة اللغة التي خلق بها الكون، فكل حركة في السماء والأرض، من دوران الإلكترون حول النواة إلى دوران المجرات في الفضاء، تسير وفق معادلات رياضية دقيقة، ولو اختل أحد هذه الثوابت بنسبة ضئيلة جدا، لانتهت الحياة أو انهار الكون كله، والعلماء يسمون هذا "الضبط الدقيق" للكون Fine Tuning، وهو من أقوى الأدلة على أن وراء هذا الكون قوة مبدعة واعية تعلم تماما ماذا تفعل؟.

   كما أن علم الإحصاء الرياضي يرفض فكرة أن يكون هذا النظام قد وجد صدفة، فاحتمال ظهور كون يسمح بالحياة مصادفة يساوي واحدا من عشرة مرفوعة للأس 120، أي رقم يقارب الصفر رياضيا، هذا يعني أن القول بوجود (مصمم ذكي) ليس خيارا دينيا فقط، بل هو استنتاج منطقي يفرضه العلم ذاته، فالاحتمال الرياضي للصدفة أقرب إلى المستحيل، بينما وجود خالق حكيم يفسر كل هذا النظام ببداهة عقلية.

    العالم غاليليو قال ذات مرة: "الكون مكتوب بلغة الرياضيات” ، وهذا القول العميق لم يكن مجازا أدبيا، بل حقيقة علمية مذهلة، إن كل ظاهرة في الوجود يمكن تفسيرها بمعادلة، فهل يمكن أن تكون هذه المعادلات قد ظهرت وحدها، دون من كتبها؟، لو رأينا كتابا مليئا بالمعاني، لما قلنا إن الحبر على الورق تجمّع صدفة، فكيف نقول إن هذا الكون الذي نعيش فيه (وهو أعظم كتاب في الوجود ) قد تكون بلا (كاتب) ولا إرادة ولا قصد؟.

    حتى كبار العلماء الذين لا يتبنون الإيمان التقليدي، اضطروا للاعتراف بهذا النظام المعجز، فالفيزيائي الشهير ستيفن هوكنغ قال إن "قوانين الفيزياء تبدو وكأنها قد صممت خصيصا لتسمح بوجود الحياة"،  أما بول ديفيز أحد أبرز علماء الفيزياء النظرية، فصرح بأن "الدقة التي بني بها الكون تشير إلى وجود عقل كوني وراءه"، إنهم لا يتحدثون بلغة الايمان، بل بلغة العلم الخالص، ومع ذلك تنتهي معادلاتهم إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها الإيمان منذ القدم: أن وراء كل هذا الجمال نظام، ووراء النظام إرادة، ووراء الإرادة خالق عليم.

    من أجمل الشواهد الفكرية على هذا الارتباط بين الرياضيات والإيمان ما قدمه عالم المنطق الشهير كورت غودل، الذي صاغ برهانا رياضيا على وجود الله تعالى يعتمد برهانه على فكرة بسيطة عميقة: "إذا كان وجود كائن كامل الصفات ممكنا منطقيا، فهو إذن موجود بالضرورة". لاحقا استخدم علماء الحاسوب خوارزميات لإثبات صحة هذا البرهان رياضيا، فأثبتت المعادلات صحة الاستنتاج. لقد أصبحت الرياضيات (وهي لغة الدقة والعقل) طريقا إلى الإيمان بالخلق العظيم.

    الرياضيات، إذن، ليست فقط أداة للقياس، بل لغة لفهم الخلق، وكلما توسع الإنسان في فهمها، ازداد يقينه بأن النظام لا يمكن أن ينشأ إلا من حكمة، وأن الجمال لا يولد من العدم، وأن الوعي لا يصدر عن مادة صماء، فالعلم لا ينفي وجود الله تعالى، بل يبرهن عليه بلغة الأرقام والمنطق، ويقود من يتأمل بصدق إلى الإيمان بأن وراء هذا الكون خالق واحد عظيم، قدر معادلة الوجود بحكمة أبدية.

    الذكاء الإصطناعي، في الجانب الآخر، يساعدنا على فهم بعض المفاهيم الفلسفية والدينية القديمة، مثل القضاء والقدر، فكما أن النظام الذكي يمكنه التنبؤ بالنتائج بناء على البيانات السابقة، فإن الخالق يعلم كل الاحتمالات الممكنة، لكنه يترك للإنسان حرية الاختيار، اذن علم الله تعالى لا يلغي الإرادة، بل يحيط بها، كما أن النظام الحاسوبي يعلم ما قد يحدث وفق المعطيات، فإن علم الله يعلم كل ما سيكون قبل أن يكون، لأن علمه غير محدود بالزمن أو بالمكان.

    إن الفرق بين قدرة الله وقدرة الإنسان يشبه الفرق بين الوجود والعدم، فالذكاء الإصطناعي ما هو إلا ظل خافت لعقل أعظم. ان الإنسان يصنع نظاما يتعلم من البيانات، لكن من الذي صنع الإنسان ذاته؟ من اودع في خلاياه شفرة الحياة التي نسميها (DNA والتي تحتوي على ثلاثة مليارات حرف كيميائي مرتبة بابداع لا يوصف؟، من وضع في دماغه القدرة على التفكير، وفي قلبه العاطفة، وفي روحه الضمير؟، هذه الأسئلة لا يمكن أن يجيب عنها العلم بالصدفة أو التطور الأعمى، لأن الصدفة لا تصنع نظاما متكررا، ولأن التطور بلا توجيه لا يعرف الغاية، بينما الكون كله يبدو وكأنه يعرف تماما إلى أين يتجه؟.

    إن الإيمان بالله تعالى ليس نقيضا للعلم، بل هو النتيجة المنطقية العظمى للعلم ذاته، لأن من يتعمق في دراسة الطبيعة والرياضيات والذكاء الإصطناعي لا بد أن يسأل نفسه في النهاية: من الذي (صمم) كل هذا؟، من الذي جعل المادة تفكر؟، من الذي وضع في الذرة نظاما يشبه نظام المجرات؟ الجواب الذي يقدمه العقل قبل القلب هو أن وراء هذا الكون خالقا مدبرا، هو الذي أبدعه من العدم ونظمه بالقانون وأحياه بالروح.

    إن النظرة الحديثة إلى الكون لم تعد كما كانت في الماضي، فكلما تقدم العلم، اتسعت مساحة الإدراك بوجود تصميم دقيق وراء كل شيء، فالفيزيائي ستيفن هوكنغ رغم ميوله الإلحادية، كتب في أحد كتبه أنه "لو تغيرت القوانين الأساسية بنسبة ضئيلة جدا، لما وجدت حياة على الأرض"، وهو بذلك يلمح دون قصد إلى وجود "تصميم كوني" غير قابل للإنكار، والعالم بول ديفيز قال ذات يوم: "كلما درست الفيزياء أكثر، زاد اقتناعي بأن الكون لم يصمم عبثا، بل بغاية واضحة”، هذه الشهادات الصادرة من علماء يقدسون المنهج العقلي، تضيف بعدا جديدا للنقاش حول وجود الخالق، إذ تجعل من المنطق حليفا للإيمان لا خصما له.

   في الجهة المقابلة لهذه الرؤية العقلية، يأتي علم الذكاء الإصطناعي ليؤكدها من زاوية أخرى، فالذكاء الإصطناعي رغم تطوره المذهل، لا يعرف شيئا بذاته، إنه يعتمد على بيانات ومعادلات واحتمالات، إنه "يتنبأ” ولا "يعلم”، "يحسب” ولا "يخلق”، وحتى أكثر أنظمته تعقيدا تبقى محدودة بما وضعه الإنسان فيها من منطق، وهنا يظهر الفرق الجوهري بين الذكاء الإصطناعي وبين القدرة الإلهية، فالخالق لا يتعلم من التجربة، بل يعلم كل شيء قبل أن يكون، علمه مطلق، لا تحده احتمالات ولا ظروف، أما الذكاء الإصطناعي فهو نتاج عقل مخلوق، محدود بإطاره الرياضي والزمني.

يتضح من التأمل في العلاقة بين الرياضيات والذكاء الإصطناعي أن العلم، مهما بلغ من دقته وتقدمه، يقود العقل المتأمل إلى الإيمان بوجود خالق عظيم وراء هذا الكون البديع، فكل خوارزمية تحتاج إلى مبرمج، وكل نظام محكم يستدعي مصمما واعيا، والاحتمالات الرياضية التي تكاد تنفي إمكانية الصدفة تجعل فكرة (المصمم الذكي) ليست مجرد إيمان روحي، بل استنتاج علمي ومنطقي. إن الذكاء الإصطناعي، رغم عبقريته، يظل شاهدا على محدودية الإنسان أمام كمال الخالق، ودليلا جديدا على أن وراء النظام الكوني والعقلي إرادة عليا اوجدت معادلة الوجود بحكمة مطلقة، وقالت له: كن، فيكون.